إذا تذكرنا «حفلة التيس» لماريو فارغاس يوما و«خريف» البطريرك لغارسيا ماركيز والسيد الرئيس لفوانتس امكننا أن نلاحظ أن الروايات الثلاث، وبينها اثنتان لحائزي نوبل وثالثة لكاتب لا يقل وزناً عنهما، هي روايات ديكتاتور، وإذا بحثنا عن مقابل لها في أدبنا فإننا لن نجد رغم تسييسنا الذريع والوبائي روايات ديكتاتور كثيرة ولعلنا إذا كنا متطلــبين لن نجــد سوى واحدة هي عالم صدام حسين، الروايــة الــتي تموّه اسم مؤلفــها ولم يعد لها ثانية رغــم ان الروايــة جزء أول وكان يؤمل ان يليه ثانٍ.
نعرف بالطبع أننا لا نعدم في أدبنا روايات سياسية، وأن الزعيم والسياسي حاضران في هذه الروايات، من الحجاج حتى أيامنا هذا نجد الوحشية والتدليس والاعتداء ملازمة لنفر من الحكام، وتنتهي أخبار موثقة في تراثنا بعبارة «فأمر به فقتل». بعض آثار هذه التراث تتحدث عن ألوان من الوحشية نادرة ومختلقة. وبطبيعة الحال فإن الظلم باد فيها ولا ننتظر من القارئ والسامع والعارف تجاه ما ذكره ابن بطوطة من خوزقة الناس وسلخ جلودها وحشيها بعد ذلك قشاً سوى شعور بهذا الظلم، غير ان ما يثير العجب هو أن هذه الأخبار تروى عادة بلا تعليق، فحق الملك أو الرئيس في أن يظلم ويعنف ليس بحد ذاته موضع سؤال. قد يُستفظغ الأمر لكن لا يُجادل في حق الخليفة أو الملك. العدل شرط لكن قلما يوضع كحد ورادع وقلما يحاسب الملك او الخليفة عليه، من الواضح أن لعبة القوة غير محدودة وأن حق القوة أيضا غير محدود، لذا نخرج من مطالعة التواريخ العربية بشعور أن الحكم يعادل القتل والقوة تعادل العسف والرضى بالحكم والسياسة والدولة رضا بذلك كله. حياد التواريخ هذه تجاه العسف والظلم لا يمكن تفسيره الا بأن الكاتب او المراقب لا يرى في الحكم سوى لعبة القوة والعنف، ولا يأخذهما عليه ولا يجادل في حقه فيهما. فالتسليم بهذا الحق يجعل المؤرخ يتسقّط أخبار القتل والتدمير بدون أن يرى في ذلك سوى «طبيعة جارية» وبدون أن يتساءل عما خلف ذلك وما يفسّره، أي ان عسف الحاكم وجنونه ليسا ســوى «واقــع» بحت لا يخفي سراً ولا يحتاج إلى تحقيق وتحر شأن الأمــور الطبيــعية الواقعية التي هي من قبيل الحيـاة الــسيّارة الدارجة ولا تحتاج إلى تعليق.
هل رسخ ذلك في لاوعينا وتدرج إلينا في أيامنا الحاضرة، فبتنا لا نرى في الظلم والقتل والعسف سوى أخبار سيارة ولا نهتم بما وراءهما. نعرف الكثير عن مظالم الديكتاتوريات العربية ونستطيع في كل وقت أن نجد مسرداً بأخبار أي منها، غير أنّا نعرف القليل عن الجهاز الحاكم وعن آلة السلطة وعن تسرباتها إلى المجتمع والاقتصاد والثقافة وعن نطاقاتها العائلية والطائفية والطبقية، وعن نواتها أو نواها الأساسية وعن جنوناتها وارتياباتها وبارانواتها وكتل المصالح التي تمثلها ونزاعاتها الداخلية وعلاقات مراتبها ببعضها، بل إن مجازر وأحداثاً دموية تم دفنها في أماكنها ولم يتسرب لنا إلا شائعات عنها وبقي أمر حصولها نفسه محاطاً بالشبهات كما بقيت حقيقتها، إلى زمن طويل، ملتبسة وغائمة ونهبا لروايات متفاوتة متضاربة. ذلك يعني أن المظالم لا تزال بالنسبة لنا مجرد فظائع وليست أحداثاً سياسية. ما يهم هو فظاعتها لكن جذورها السياسية غير ظاهرة كما أن الجهاز الذي وراءها والمصالح التي تولدها والعلاقات التي تتداخل فيها ليس لها ما لمظهرها الجرمي وفظاعاتها من حضور واهتمام.
رواية الديكتاتور عند يوسا وماركيز ليست إحصائية فظائع، إنها قبل كل شيء تظاهر السلطة في خفائها وتجليها، انها الدخول إلى حصن القوة، إلى نواتها الأساسية، إلى سحرها وشطحاتها وحماقاتها. إلى الرأس الذي يجمعها ويوزعها، إلى تناقضات امتلاكها في قبضة واحدة. إلى غرائبية ذلك ومفارقاته. أي ان الديكتاتور مع جهازه حاضر في هذه الروايات التي لا نرى فيها الفظائع وحدها بقدر ما نرى المنطق والدينامية اللذين يؤديان في تضارباتهما وخططهما إليها.
في الروايات العربية قلما نجد الديكتاتور. اننا نرى غالباً المراتب التنفيذية: المخابرات بالدرجة الأولى وأجهزة الأمن والمعذبين والقتلة من كل صنف. لكن الجهاز المخطط والشخص الذي يتلاعب بكل هذه القوة والمصالح البعيدة التي وراءها والمآرب الظاهرة وغير الظاهرة. كل هذا لا يوازي في تلك الروايات قوة الوقائع المباشرة. لنقل إن السلطة كسر وكجهاز والديكتاتور كتقاطع لمصالح ومآرب ووساوس لا يظهر جليا في هذه الروايات التي قلما تسعى إلى كشف ما وراء الوقائع. رواية الديكتاتور اللاتينية ليست لائحة للفظائع. انها بحث في السلطة: نواها وأسرارها وسحرها وخفائها وتجليها. أي اننا في نوع من ميتافزيق السلطة، في إلغازها و«تسحيرها» وكما في كشفها الديكتاتور هو نموذجها. انه يحمل في الداخل مفارقاتها وتقاطعاتها، إن شخصيته تملك عجائبيتها وسحرها كما تحمل في الآن نفسه شطحاتها وفظاظاتها. إن شخصيته هي على نحو ما، أسطورية. انها المستوى الأسطوري لهذه السلطة، ان خلق اهرام جديدة وفرعون جديد هو باستمرار دين هذه السلطة، التي تملك من هذه الناحية نزعة دينية. انها طقوسية مليئة بالأسرار كما انها تصنيم وتأليه. لا تهم كثيراً لائحة الفظائع وانما دلالاتها، إن عجز الديكتاتور الجنسي وشبقه المكسور، كما في روايتي يوسا وماركيز، وشيخوخته الصاعقة هي المظاهر الانحدارية لهذه الآلهة المحطمة، وهي من هذه الناحية قد تعبر أكثر مما تستطيع لائحة فظائع مبتذلة أو قابلة للابتذال لدويها وحجمها، الديكتاتور لا يوجد في الرواية العربية كشخص، كميدان لصراعات وتنازعات وغليان داخلي. ما يوجد هو «نتائج» أكبر من أن يكون لها فاعل واحد. لا ننسى ان الديكتــاتور ليس كلمة مألوفة في أدبنا السياسي ولا حتى في لغتنا السيــاسية. الديكتاتــوريون هم، إلى حد ما، أبطالنا وشخصياتــنا الوطنية والقــومية. والديكتاتور ليس كلمة واقعية بقدر ما هــي في أدبنا السياسي تهمة وسُبّة لذا يختفي أو يظــهر في أدبنــا كرمز. كأمر، كحكم، ولا يظــهر كشخص هــو حصيــلة تناقــضات وواقــع وتنازعات شتى.