لا يمكننا الحديث اليوم عن الرواية دون أن تداهِمنا عبارة ( موت الرواية) المعتمدة في توصيف أزمة هذا الصّنف من الأدب أُسْوة بمقولة موت الشعر الشهيرة. أما السرّ في إطلاق تلك المقولة فكان في الأصل موصولا منذ عقود بانقراض بعض الأشكال المهملة من الرواية وتعويضها بأنساق جديدة من المخيال تتنامى وتتفاعل عبر الصّيرورة، من خلال ما تم التوافق عليه بمسمّى الرواية الجديدة التي دأبت على تكسير أنساق الحكي القديمة، وتعويضها بمخيال دينامي يتحرك من خلال مرايا السرد وبؤر التأمل الداخلية، وعبر حوارية النماذج والأشكال التي يتسع لها صدر الرواية. وهذا ما قصده (باختين) من التأكيد على الطابع النمائي للرواية باعتبار أنّها الجنسُ الوحيد الذي يوجد في صيرورةٍ ومازال غيرَ مكتمل.)(1)
أما الذي جعلني أستحضر هذه المقولة السوداء حول موت الرواية هو ما لاحظته من هيمنة الميثاق السّير- ذاتي في أغلب الرويات الجديدة التي قرأتها حديثا، بما ينمّ عن حدّة في تسخير فضاء السيرة الموصول بوضوح الرؤية وشفافية الصورة والإخلاص لمرجعية التاريخ الشخصي. ومن بين الأعمال التي استوقفتني في هذا السياق الدقيق رواية محمد أنقار الجديدة ( شيخ الرماية ) التي أثارت في نفسي بدءاً شهية القراءة، ثم حاولت من خلالها أن أستطلع ما تحمله من جديد مباغت ومن لمسة الإبداع. ولاسيما أن صاحب الرواية شخصيةُ أدبية معروفة ولها مِراسٌ في الكتابة والتنظير. بيد أن المفاجأة جاءت من هذا الموقع، أي من جانب تكريس مظاهر السيرة وترسيخ هيمنتها بأقدار مضاعفة في بنية هذا العمل الجديد لكاتبنا الكبير، مقارنة بما ألفناه في روايتيه السابقتين (المصري) و( باريو مالقة ) وفي أعماله القصصية الكثيرة من توخي الاعتدال وتجنب المباشرة في طرق هذه السمات. ولقد زادت دهشتي لما أثارته هذه الرواية الجديدة من نقاش بين المهتمين والمتتبعين حول مقاصد التجنيس تحت مسمّى الرواية. فوجدت مَن بادر للتأكيد بأنّها سيرةٌ ذاتية خالصة تستطلع خلفية التاريخ وتعرض الواقع الشخصيّ لصاحبها موصولا بذاكرة الجدّ بدليل معرفتهم بهذه الخلفية. وهناك من رجّح القول بأنها من صنف الرواية الجديدة لما تعكسه من مذاهب الاختلاف والانزياح، ومن مال إلى الاعتقاد بأنها تمثل صنفا هجينا يجمع بين السيرة والرواية بأقدار وصيغ متفاوتة. وكلٌّ في ذلك كان يبني الرّهان ويقيم البُرهان حول زوايا وبُؤرٍ يستقيم حولها منطق الحُكم والترجيح. وإني أرى أن القراءة الموجّهة ببحث ميكانيزمات هذا العمل الجديد المصنّف في دائرة الرواية للكاتب محمد أنقار هي الكفيلة بأن تمنحه النّسق الناظم، وأن تقرّر ما من شأنه أن يحسم هذا الانتماء أو يؤجله إلى حين. ولاسيما أن جنس الرواية قادر على احتضان دلائل الأجناس الأخرى أدبيةً كانت كالسيرة والقصة القصيرة والشعر والمسرح أم غيرَها كالنصوص البلاغية والعلمية والدينية.
ووجدُتني بعد ذلك أستقرّ على أنّ أنجعَ وسيلة لسبْر هذا العمل هي تناولُه من زاوية التقاطع المفصَلي بين الواقعيّ والمتخيل أي بين ميثاق السيرة وميثاق الرّواية، وما تتحدّد على أساسه سمات التاريخ الشّخصي وملامح المكان الجغرافي. ودليل ذلك موفورٌ من خلال إعارة الكاتب اسمَه الكاملَ بشقّيه الشخصيّ والعائليّ للشخصيتين المفْصَليتين في العمل وهما: الجدّ والحفيد. والذي يستوقفنا على خلفية الإرباك الذي تحدثه تلك الإعارة المقرونة بصدق النوايا والمقاصد، هو ارتباطها بعنصر التكرار للاسم الواحد وربطه بمواقع وأدوار مختلفة في الرواية. وقد يحيلنا ذلك على سبيل المقارنة إلى أمثلة من هذا القبيل نجدها لدى روّاد الرواية الجديدة ، باتّخاذهم نفس المسمّى لأكثرَ مِن شخص واحد. حيث نرى كافكا مثلا يستعمل حرف الكاف (K) لتأطير شخصيتين مختلفتين، وعلى غراره يستعمل فولكنر مسمّى (جاسُون) لتأطير شخصية الأب والابن . وهذا ما دفع بعض منظري النوع إلى القول بأن الرواية الجديدة قائمة على التشييد المشترك لهوية الذوات والمتحاورِين ( 2) . إلا أن ما لوحظ حول هذا التكرار على ما تتسع له رواية المخيال، هو أنه يضع سمة الخيال موضع السؤال من خلال ما يفرضه التكرار من قيود وتعديلات. وأما في رواية أنقار ذات السّمْت الأوتوبيوغرافيّ الشفاف، فيبدو الأثر مضاعفا بالنظر إلى ضمور المخيال تحت ضغط المرجعيّة وتعويضه بفسحة الوصف والتأمل. وحتى مظاهر المخيال الغرائبي المقرون في الرواية بفروسية الجدّ وكراماته لن تراها تؤدّي دورها بمضاعفة الإحساس والتعبير عن عنصر الجمال، بقدر ما تجدها تلبي حاجة النقل والمحاكاة لصور المخيال الشعبي الساذج الموسوم بالفطرة والغريزة والميلِ إلى تمْجيد الخوارق: (( ومن الخوارق العظيمة التي روَتها أمّي في هدوء وراحة وفي غياب أبي، تلك الحكاية التي سمعتها عن عايشة إحدى زوجات الشيخ الأربع الشهيرة بعاهة في أنفها جعلتها تتكلم نغنغة ...ذات مرة سمعتها أمي تروي في دهشة ووقار كبيرين أن الشيخ كان يخرج ليجاهد ضد النصارى فتصيبه بعض الطلقات ويصطدم رصاصها بملابسه فلا يخترقها وإنما يستقر في ثناياها. وعندما يعود إلى داره منهكا ويتأهب للنوم يخلع جلبابه وقشّابته فيتساقط منهما الرصاص الذي لم يفلح في اختراق جسده.))(2)
وعليه، فإن الدور الأساسي للسّيرة الذاتية في هذه الرواية يتجلىّ إذن في توضيح حقيقة الرواية أو الحقيقة المرويّة وتعزيزها بدعامة الصّدق. وأمر ذلك موصولٌ بتشكيل امتداد جديد للفضاء الأوتوبْيوغرافيّ مقارنة بالعملين السابقين الموسوميْن لنفس الكاتب وهما روايتا (المصريّ) و(باريو مالقة). وتتمثل هذه الإضافة النوعية للفضاء في تخطّي حلـْقة المدينة التي ارتبط بها الميثاق في الأعمال السابقة، وتجاوُزها إلى الضفاف الخضراء المحيطة بقبْر الجدّ، هنالِك بعيدا عن أسوار المدينة حيث يحفل المكان بعطر الأصالة وأصداء الكرامات وأمجاد عائلة أنقار: ((.. كان الطريق الحجري يلتوي بين بعض الدور المبيّضة بالجير بينما رائحة الماشية تخترق أنوفنا وتوحي إلينا بحياة العافية....وتسلقت الصخرة ببعض الصعوبة تحت عيون عبد الرزاق، مستعينا بالقبض على غصن دفلى غليظ... وهناك شاهدت خضرة متناسقة مع رمادية الجبال والصخور، والعلوّ الشاهق الذي نشرف منه على سهول منبسطة وديعة. وأحسست أني سيّد كلّ ما هو موجود في الأسفل.) (3 ). والذي يبدو من خلال هذا التوصيف للمكان أن الكاتب قد سعِد بهذه الإضافة واحتفى بها على نحو ملحوظ يتجلى على صعيد الوصف المكثف للفضاء الطبيعيّ وربطه بقوّة الانطباع الشخصيّ، ممّا يقويّ فرضيّةَ حميميّةِ الفضاء وعلاقتها بالميثاق الأوتوبيوغرافيّ في تجربة الكاتب. والأمثلة على ذلك موفورة من خلال توصيف حارات تطوان في رواية المصري وضفاف الحيّ الإسباني في رواية باريو مالقة.
ويبقى أن نقول على سبيل الخلاصة والختم أن رِهان الرواية/ السيرة ينشُد التعبيرَ عن ميثاق السيرة من خلال تنشيط المخيال وتكثيف الأقنعة، وهذا هو شأن أنقـّار في أعماله السابقة. أما هذا المحكي الجديد لشيخ الرواية التطوانية فشأنُه أنه قد أتى ليأخذ بالرِّهان المعكوس أيْ بِرِهان السّيرة/الرواية، في تعْويله على طرْق الحقيقة الأوتوبيوغرافية من أبوابها المباشرة، عبر نزع أستار المخيال الكثيفة وتعويضها برداء شفاف تتبدّى من خلاله معارض الأسماء والأفعال والأخبار في ألقِها المرْجعيّ الموْسوم.
====== عبد السلام ناس عبد الكريم
هوامش:
* محمد أنقار.شيخ الرماية.منشورات باب الحكمة ، تطوان 2013
1. ميخائيل .باختين: الخطاب الروائي، ترجمة وتقديم محمد برادة ، دار الأمان ، ص12
2.Galia Yanoshevsky.presses universitaires 2006 p16
3. شيخ الرماية ص169.
4. شيخ الرماية ص64.