ديوان " فقدان المناعة " مجموعة من النصوص الشعرية الجميلة، صدر في طبعته الأولى للشاعر المغربي عبد السلام دخان عن مطبعة الخليج العربي بمدينة تطوان بالمملكة المغربية سنة 2011، ويقع الديوان في ثمانين صفحة، قسمه الشاعر إلى قسمين: - القسم الأول: صور مختلة ويضم اثنتا عشرة قصيدة، - القسم الثاني: تفاصيل شائكة ويضم أربع عشرة قصيدة.
يتميز الشاعر عبد السلام دخان بكونه يمتلك الشجاعة والجرأة للكتابة شعريا عن موضوع يعتقده الكثيرون من الأسرار الخلفية التي من المفروض أن تطوى بين الجوانح ولا يصرح بها أمام الجميع، طبعا يجب أن نكون على يقين ونحن نتتبع ديوان الأستاذ دخان بأن كتابته الشعرية عن فقدان المناعة تتزامن في سياقها الاستعارة والتصريح، الجمال والحقيقة، الفن والواقع، حيث أفلح الشاعر في الكتابة عن الموضوع ضمن سياق شعري جميل ومثير بواسطة لغة شفيفة وجميلة تتميز بالوضوح دون التواء أو غموض، وتشير مباشرة إلى المقصود ضمن رؤية واعية ومحددة.
لقد كان الشاعر يعرف جيدا ما يقول في ديوانه وما يريده من عمله الفني الجمالي بكل ألق وفتنة، حيث أجاد في إقامة التقابلات بين المفاهيم والكلمات التي استخدم منها كل ما هو متاح لخدمة أغراض ديوانه الجميل، وأتقن الاستعارات المنيرة والدالة، وكان موفقا ومصيبا في استعماله لضمير المتكلم والاستفهام وفعل الأمر والتقاطعات الدلالية واللغوية، والصور الشعرية المستحدثة والمنسوجة بواسطة المزج الموفق بين الخيال الفني واللغة المتناغمة، وتوظيف بعض الرموز الثقافية التاريخية ذات الحمولة الدلالية الفاعلة.
يفتتح الشاعر ديوانه بمقولة للشاعر الألماني " هولدرلين " يبشر فيها بسيادة الشعر وانتصار الشعراء وتمكنهم من فرض قانونهم الخاص على الجميع، وطبعا يبقى الشاعر الألماني خالدا في أذهان المهتمين بالفلسفة الألمانية حيث اعتبر " هولدرلين " مجنونا خصوصا لما رجع من فرنسا وأقام بقية حياته في إحدى الصوامع منتجا لأرقى وأروع أشعاره التي خلدته في بلده وحول العالم بحيث عمد الفيلسوف " مارتن هايدغر " إلى كتابة بحث فلسفي خاص عن شعر " هولدرلين " عد من تحف الفكر الألماني عبر التاريخ، ولذلك فإن اختيار الشاعر عبد السلام دخان لمقولة هذا الشاعر الألماني لكي يصدر بها ديوانه لها ما يبررها من حيث القوة والجودة والإبداع في عملية الإنتاج الشعري.
القسم الأول: صور مختلة
يضم هذا القسم الأول اثنتي عشرة قصيدة، ولا تتحدد القصائد هنا بعدد الأبيات أو الكلمات بقدر ما تتحدد بالمعاني والدلالات وكذلك البياضات الشعرية الهادفة التي يعرف الشاعر جيدا كيف يوظفها لتدعيم المقصود اللغوي والدلالي والفني ضمن الديوان ككل حسب الإيقاع الشعري الذي تفرضه القيود اللغوية، واختيار الشاعر للصور المختلة يعود لتصوره الأدبي عن الشعر باعتباره لا ينشد المعالجة الكلية للقضايا وإثارتها بقدر ما ينشد التعامل مع الزوايا والخلفيات المثيرة للحياة التي تدعو للتأمل وتفرض تعميق النظرة والاهتمام، وكثيرة هي الصور المختلة التي صادفها الشاعر في حياته التي يتقاسمها جنوب المغرب وشماله، الشيء الذي دفعه لتدوين دفقها وقوتها ضمن ديوانه الشعري، وقد استلهم الشاعر بكل وضوح وجلاء عناصر الفلسفة الألمانية كخلفية فكرية داعمة لأغراضه الشعرية خصوصا في مجال تثبيت عناصر الوجود، واعتمد بالخصوص على العناصر الأربعة في توليف تصوره عن الحياة والموت والوجود والمقصود هنا الماء والهواء والنار والتراب.
لقد طرح الشاعر في ديوانه مفهوم السعادة الفلسفية المجسدة في عشق الفلسفة وفلسفة العشق، وذلك في شكل أو صورة شمعة تشتعل وتحترق وتستمر في الاشتعال تشبه جسدا له لون البداية تحيل على تفاصيل مختلة غير واضحة، متغيرة ولونها مغاير، وهي دائما في حالة اشتعال وتوهج، ويقتضي هذا التوهج أن تكون هناك متغيرات تدفع لمجابهة الريح أو الهواء في حالة فراغ الحقيقة وخوائها أمام الماء في شكل بحر دال على الحقيقة المجردة اللانهائية والمستمرة، ومقولة الريح هنا تخترق الحجب والأحلام وبإمكانها تغيير الاحتمالات، لأن داخل هذا البحر أو فوقه يمكن للجميع رؤية النوارس، ولكن لا يعرف الجميع مصدر ورودها، فهناك احتفاء دائم بالنوارس وأسفارها في ماء السهر وماء الضجر، إنها مقولة البحر الذي يكتسح الظلمة والكون فينتج الماء والضوء والظل في التراب والهواء أو في الرياح التي تهب دون انقطاع، إن هبوب الرياح في خضم البحر هو الذي يشي بميلاد العشق الأبدي بالفتنة وبالأنوثة، الفتنة والأنوثة وهما واحد تجسد في الخلق في ظل البحر الهادر لا يمكن أن يكونا إلا امرأة متمنعة، منفلتة، مشتهاة، انظر إلى العشق والماء يتناسلان مع الهوى والهواء، هي إذا الأحلام توقظ الحنين، والمفردات والكلمات عصية أمام هبوب الرياح في الليل والنهار، ومقام العشق بين الليل والنهار يلتهم ألوان الأنوثة ويعيد رسمها ضمن أحلام كائنات فقدت قدرة التعايش، هناك اختلال في العشق، واختلال في الحلم، واختلال في لون الماء، إنها عناصر بارزة في نسغ الوجود، وكلها يجمعها الماء، وتتجمع حول الماء، لأن ديوان الشاعر ينضح بالماء ويحتفي بتجلياته، ويحتضن أيضا البحر الذي ينتج عرق الموت وينثر المقابر كلما امتد أو تراجع، فهو في كل مرة يسجل صورا مختلة تتهادى ضمن أحلام عابرة، وأوهام زائلة، يؤطرها البحر، والموج، والموت، والحياة، ولوعة الحنين، إنها صور يلتقطها الشعر بوهج الجمال والفن والإبداع، لقد اختار الشاعر إطلاق العنان لجوانحه كي تبث مكنوناتها في عمق الوجود.
القسم الثاني: صور شائكة
يقدم الشاعر التفاصيل الشائكة للصور المختلة بحيث لا يمكن أن يتهرب من هذه الغواية الآسرة التي ترغمه على تقديم صور فنية حياتية مبينة وموضحة لمكامن الخلل والعطب في مسار تشكيل الوجود، في هذا القسم الثاني من الديوان نجد العنوان الأصلي " فقدان المناعة " يصبح قصيدة في الصفحة التاسعة والعشرين ضمن التفاصيل الشائكة التي تحرج الذات وتثقل الكيان، فقدان المناعة داء كامن بين قول لا وقول نعم، عمقه بحر مفيد وليل بهيم، تتم فيهما تفاصيل الحياة الهادرة التي تحولت إلى واجهة رقمية مفتونة بالعولمة ونكران الأصل والبدايات، بالإضافة إلى تهالك الجاذبية الوجودية بسبب وفرة المراهم ووخز الإبر التي مسخت الجسد وزيفت الحقيقة، لقد أصبحت الاستعارات في ظل هذه الصور مصطنعة، وفاقدة للفتنة والإثارة، تكرارها يشي بوجود عزلة ساحقة لا تستطيع مواجهة القضايا المفعمة بالتفاصيل المثيرة، ولذلك ساد الاحتفاء بالموت والعدمية والخواء مع تمجيد البياض العقيم المغلف بالعتمة، وهنا نجد بالطبع الاهتمام منصب حول الأصل والنسخة، إذ هو عود على البدايات لتشييد التفاصيل الحياتية التي هي حقيقية ولكنها شائكة، تكرارها متعب ومرهق ولكنه كاسح، مدمر، وحتمي، ومن هنا كان احتفال الشاعر بمدن وأماكن مثل طنجة وتطوان والقصر الكبير، حيث يصاب الكثيرون بلعنة الأحلام المجهضة، وعمى الأشياء التي تصدر عن مختلف السلالات مجهولة الملامح، العابرة مثل دخان رمادي لا أخضر ولا أحمر يتيه في الأرض من دون رياح أو أشرعة، فهي أماكن ومدن مضمخة بعطر النوسطالجيا لحالمين لم يسعفهم بين شوارعها ومنعطفاتها حذاء السندريلا أو استعارات بصرية أو أنساق افتراضية، هي مدن أو أماكن مجهضة للأحلام، تلتف على الحالمين والمبدعين والآثمين وترفض منحهم صكوك الغفران، وخصوصا طنجة، فهي مدينة الفقد واليتم واستعصاء الرحيل، في هواء هذه الأماكن تشعل بلاغة الشعراء الكلمات المسافرة فتنتج أبجدية وحبا ونشوة وغواية و...هراء، ولهذا نجد سيادة الحزن والأسى على الليل والنسيان، والدموع لا تحقق الأمنيات التي تهوى وتسقط بالروائح الطينية العطشى بماء بحري مالح، أمنيات تسعى لانتهاك زرقة البحر من طرف غرباء ضيعوا للشمس وهجها وتركوها هباء، وكسروا حصانة النفس أمام السحر الذي يعم القلب ويحرق تركة الأصول والأجداث، سوف يموت الكل في الظل، والظل مدينة، وفي ظلها يصبح الموت نشوة، والكل ينشدها، فيقع الازدحام والكل ملون بالانتظار والانزياح في زمن الانهيار.
بين الفلسفة وشهادة الوفاة في ديوان الشاعر عبد السلام دخان " فقدان المناعة "، وبين الصور المختلة والتفاصيل الشائكة تكمن الحقيقة كما يكمن الزيف، وهي مفارقة وجودية تعي ذاتها وأصلها بشكل حاد للغاية، هي بسيطة ومعقدة، تحتاج إلى دقة وانتباه وروية، لقد كتبت باللغة والفن والإبداع، ملحمة للحياة العابرة، ولكنها واقعية، محكمة، رائعة، جميلة، إنها الفتنة المنيعة، فيها ماء كثير و... غواية أكثر.
* كاتب وناقد من المغرب