الشعر هذا الدفق الشعوري الانساني، الذي جاء كالنبع الصافي من رحم ارض تغلي اعماقها فوارة بالحمم البركانية ، من اجل ان يخفف الضغط النفسي القهري عن الذات البشرية ، وما تتعرض له من الضغوط ، البيئية، والمناخية والغذائية ووضعه تحت طائلة الخوف والتوجس والتوتر الدائم في حياته البدائية ............
كل هذه الظروف وتناغما مع الظواهر الطبيعية وانسجاما مع حدوثها والإيقاع الموسيقي المصاحب لها ... هطول الامطار ، صفير الرياح ، حفيف الاشجار ورفيف اجنحة الطيور وخرير المياه ووو...الخ
وَلدَ لدى الانسان احساسا ((شعري)) معبرا عن هواجسه وإحساساته وتناغمه مع ما يحيط به من ايقاع كوني يتناوب بين زلزال عاصف او بركان ثائر او نهر جارف او انسياب نبع هادئ ورفيف اجنحة فراشة هادئ او تغريد بلبل ساحر ... كانت للإنسان ايقاعاته وتعبيراالنثر كونهاات الايقاع المنتظم / كابن لطبيعة يعيش في كنفها ويتأثر بمؤثراتها، أي بين الصراخ والانفجار وبين الاتسياب والهدوء ....
يذكر مؤرخي الفنون ان الشعر الرقص ثم الشعر هو اقدم الفنون التي مارسها الانسان قبل العصور التاريخية .... وقد مرت مسيرة التطور والتغير ، عبر اساليب مختلفة وأجناس متنوعة من القول الشعري ابتداء بالملاحم وما قبلها ومن ثم الشعر المقفى والموزون انتهاء بقصيدة النثر والنص المفتوح وبهذه المناسبة الجميلة ليوم الشعر العالمي نود ان نعرج قليلا على بعض ميزات ((قصيدة النثر)) فهذه النصوص الشعرية التي تعتمد الايقاع الداخلي ،خلعت كل قيود ما سبقها من انواع الشعر سواء العمودي او الحر او شعر التفعيلة فبدى كلاما ممغنطا ، يضمر موسيقاه ومعناه في داخله عبر مفرداته التي تجاوزت اللغة القاموسية المتعارف عليها ، اثرت المفردات بمعاني ومضامين غير مألوفة، لتكون مولدة فاعلة لمفردات ومعاني ودوال غير متداولة ، انها لغة الصورة المخفية بين الكلمات تحتاج للفطنة والتفكر والقراءة المتأنية الناقدة لتفصح عن معناها ، فيكون القاريء الناقد كالمُظَّهِر الذي يُظَّهِر الصورة السالبة في التصوير الفوتوغرافي ، مما وهب اللغة المتداولة الراكدة روحا جديدة من حيث المعنى والمبنى ، وهذه تعتبر من اهم خواص قصيدة النثر ...... انها المسحوق السحري الذي يعيد للغة شبابها وتجددها ........ وهنا لا ننسى ان نشير الى استسهال بعضنا كتابة هذا النوع من الشعر ، فنقرأ قطعا نثرية هي وثيقة الصلة بالمقالة بعيدة عن روح الشعر وإيقاعاته وموسيقاه ، فسهل على مناهضي قصيدة النثر الطعن في نسبها ألشعري....
الخاصية الثانية الهامة لقصيدة النثر كونها نص قراءة وصورة وليس نص شفاهي سماعي كما هو حال القصيدة العمودية والحرة والتفعيلة .... انه نص تفاعلي تداولي بين الشاعر والمتلقي ... نص لا يمكن للشاعر ان يحصر معناه ومضمونه في ما ارتسم في مخيلته .. انه نص متعدد المعاني والتأويلات مساوية لعدد قراءه وربما يتشظى تحت نظر القاريء لأكثر من معنى وليكون عند القاري الواحد اكثر من نص .... وهو بذلك غادر منصة الخطابة فور مغادرته الخطاب السمعي للخطيب لينتقل الى نص الصورة التي تمر من العين الى المحللات الفكرية والخلايا المخية للمتلقي ومخزونه الثقافي والفكري ليُّظَّهِرَها بأشكال ومعاني ومضامين تنسجم مع ثقافة وفهم وقدرة الفرد الذات على التحليل والتأويل ... بالضد من القصيدة المنبرية الشفاهية السمعية التي يكون فيها الشاعر القائل هو سيد القول وقابض المعنى ومحدد المضمون في حين يكون السامع متلقي سلبي مستهلك يزدرد الكلم ويستنسخ الصور دون ان يكون له دور في تظهيرها او تدويرها الا بحدود ضيقة للغاية لا تبتعد كثيرا عن مراد الشاعر الخطيب ..........
هذا الوصف لقصيدة النثر يتطلب رعاية وطقسا خاصا للاستمتاع والقراءة ، هو طقس ومستلزمات القراءة الناقدة المنتجة ... أي يفترض ان تنزل المنصة او المنبر لتكون كرسيا بين كراسي قراء النص الجالسين حول طاولة مستديرة ، يتوهج عندهم النص منتجا نصوصا بعدد القراء مضافا اليهم الشاعر كأحد القراء ... وبذلك فان قصيدة النثر تجعل من القاريء سيدا حرا مستقلا ومنتجا مشاركا ،وليس متلقيا مسلوب الارادة مقفل التفكير محدد التعبير بأطر ضيقة محددة بفهم ومراد الشاعر........
قصيدة النثر قصيدة الفرد الذات المتحررة من الوصاية والأبوية والهيمنة الرسالية وليست قصيدة الجمهور الكتلة الصلدة ذات الوعي والعقل الجمعي الخرساني المتصلب.......المستعد للهتاف والهياج والتهليل او الاحتجاج ... تحركه عواطفه ، ويتحكم فيه حبله الشوكي الذي يعتمد ردود الفعل الانعكاسية اللاإرادية المباشرة ، وليس تلا فيف مخه المتبصرة الموزونة المفكرة ........
لذلك نرى مدى الواقع القهري والمأساوي الذي توضع فيه قصيدة النثر حين تلوى رقبتها وتسحل سحلا لتلقى من خلال منابر القاعات الاحتفالية والمهرجانات الجماهيرية المعدة لقصيدة الخطاب التحريضي والترويضي المباشر ، فتعيش قصيدة النثر غربتها وتعاستها وعدم انسجامها مع جو استفزازي عدائي ، يعمل جاهدا من اجل تشويهها وإذلالها او عدم المبالاة بما تريد قوله ، تشعر بالغربة والاغتراب وكأنها تتكلم بلغة اجنبية غير معروفة من قبل الحضور الصاخب المحيط بها .....قصيدة النثر مخلوق لا يمتلك حنجرة قوية ولا اذان مفتوحة ، انها تمتلك عينا نافذة البصر ومخ متطور.....
نرى ان قصيدة النثر هي وليدة ونتاج شعور فردي يعيش في ظل مجتمع الحداثة وما بعدها ، أي مجتمع تسوده قيم الفرد الذات الحرة ، التي لم تعد مستسلمة للتقليد والقانون الصارم الا بما يوفر للإنسان الحيز الكافي من الحرية للتعبير عن مشاعره ورغباته وأحاسيسه ، انسان ما عاد يؤمن بأي ثابت سوى المتغير ، عالم بلغ فيه التقدم العلمي مستوى فاق التصور وبسرعة كبيرة متسارعة دوما دون توقف ، مما تطلب كسر كل الحواجز والقوالب الجامدة والأسس الثابتة ، في وسائل الانتاج وفي المأكل والملبس والسكن ووسائل النقل .... مجتمع يطالب دوما بكسر التكرار والرتابة .... يعيش ازمة روحية ونفسية مؤلمة نتيجة لتناقضات المجتمعات الرأسمالية الاستغلالية التي تريد ان تقلب مسرى ومجرى التطور لتجعل من الانسان عبدا مطيعا للآلة وليس العكس ، قيم الربح ثم الربح السائدة، أي ان الانسان استطاع ان يهدم الحدود ويكسر السدود بين البلدان والشعوب والثقافات ، وان يتحدى الموروث الجامد ، ولكنه لم يستطع ان يخلص الانسان من قيد الضرورة لينطلق الى عالم الحرية ، وهي رياض ومسكن ومرفأ قصيدة النثر، النظم الرأسمالية اطبقت بآلتها الجبارة على روح الانسان خالق جبروت وتطور الالة وليس العكس ... مما جعله في حوار دائم ومتجدد مع ذاته من اجل ان يعيد للتطور مساره الصحيح بما يخدم الانسان ويوسع من حيز حريته ويعطيه وقتا كافيا لاغناء متطلباته النفسية والروحية كالرياضة والموسيقى والغناء والإبداع الادبي والفن التشكيلي وما اليه ...ولأجل هذا يجب ان يكون التطور التكنولوجي والعلمي لا بكونه يراكم الثروات في خزائن الاثرياء بل بمقدار ما يوفر للإنسان من الوقت الحر لاكتمال غناه الروحي والنفسي ........ كل هذه المعاناة والتناقض الصارخ بين عالم تكنولوجي ومنتج مادي هائل محطم القيود ومختصر المسافات ، ومنتج لتداخل الحضارات ، وبين حالة العوز المادي والقلق النفسي الناتج عن التهديد بالبطالة او التعرض للكوارث النووية والحروب والأمراض والتشرد والتغيرات البيئية التي تنذر بالأخطار الوخيمة على مستقبل البشرية ، وفقدان الثقة بسوق العمل الاستغلالي المستعبد لعقل وجسد الانسان باعتباره سلعة تباع وتشترى في سوق العمل الرأسمالي ومتطلباته ... فجر طاقات شعرية هائلة تجاوزت كل قوانين وثوابت المنتج الفني في مختلف المجالات ومنها الموسيقى والشعر وبقية الفنون .... اصبح للصورة الهيمنة الكبرى في حياة الناس وتصنيع وعيهم وتوجيهه صوب الوجهة التي يريدها مالك مفاتيح وسائل الاعم ودور الثقافة والتوجيه .... وبذلك فان قصيدة النثر والنص المفتوح وموت المؤلف اصبح منتجا وإفرازا طبيعيا لمثل هذه المجتمعات بالعكس مما هو حاصل في المجتمعات المغلقة التي لازالت قيم وتقاليد ما قبل الحداثة مشبعة في بنية ((مجتمعاتها)) ، متناغمة مع نزعة استهلاكية غير منتجة وحراك اجتماعي راكد مأيّسن ... لا يصلح الا لنمو وتكاثر الاشنات والطحالب ، يستفزه كل جديد .... وهذا هو السبب الرئيس الكامن وراء غربة وعزلة قصيدة النثر وغيرها من اشكال وأنواع الفنون المتطورة ، وهو السبب الكامن كما نرى وراء ولادة قصيدة ((النثريلة)) كما سماها الدكتور عبدا لله الفيفي في العديد من دراساته ، وهي ثنائية النثر والتفعيلة في النص الشعري محاولة منها لإيجاد وسيلة تفاهم وانسجام مع النصوص الخطابية الشفاهية المهيمنة على الساحة الادبية في بلداننا....... فوضع منتجي هذا النوع او الجنس من الادب نخبة النخبة الغريبة الغير مألوفة ... التي لا يمكنها ان تندمج مع الكتلة البشرية الهاتفة بأمجاد القادة العتاة وأبناء الاجداد الاباة ... كتل تيمم وجهها صوب القبور غير ابهة بحاضرها ومستقبلها....... من ذلك نخلص الى ضرورة فهم طبيعة قصيدة النثر وتوفير المناخات المناسبة لقراءتها وفهمها وتدا ولها ، وعدم دمجها مع فن الخطابة وقصيدة المنبر ، كما نشهده الان في العديد من المؤتمرات والأمسيات الشعرية .....