أما قبل.....
عند تتبعنا للمشهد الأدبي المغربي المعاصر و للقصة القصيرة بشكل خاص، نلاحظ بأن أغلب القراءات النقدية التي تناولت القصة المغربية المعاصرة، إما دراسات وصفية تقارب الإبداعات القصصية من خارج النص، مكتفية بإبداء الإعجاب أو السخط على هذه الأعمال ،فإذا كانت الدراسة تفرط في إعجاب الناقد بهذه النصوص، فإنها تساهم في رفع مستوى تضخم الأنا عند القاص، وحينها يتدنى مستوى الكتابة لدرجة الإسفاف،أودراسة لا تخضع لآليات ومناهج علمية دقيقة، وفي هذه الحالة يتحول النقد من النقد إلى النقض و الهدم،وحينها يتسبب النقد في تحطيم وتدمير معنويات المبدعين وخاصة الذين بالكاد شرعوا في الكتابة الأدبية و القصصية خاصة.
مع العلم أن الدراسة النقدية في حقيقة الأمر إبداع يقرأ الإبداع، أو لغة على لغة،وهي التي يسميها رولان بارث بالميتالغة، و للوصول إلى هذا الحس النقدي يحتاج الناقد إلى مستوى معين من الموهبة،و الحس الرفيع الذي يصقل بشكل مستمر بواسطة المتابعة الدائمة للدراسات و الأبحاث النقدية.
ورغم احترام الدقة العلمية و التسلح بالمناهج النقدية الحديثة فإن (قراءتين اثنتين لعمل واحد ليستا متطابقتين دائما،لأن المرء وهو يقرأ،يعمل على إنشاء كتابة مخفية،فهو يضيف أو يحذف ما يريد أو لايريد العثور عليه في النص)الشعرية لتودوروف./ مجلة مواقف عدد 33 ونحن في هذه الدراسة المتواضعة نحاول تحري ما أمكن لنا من الدقة و الحرفية العلمية،ولكن رغم ذلك فلابد من تسلط الذات القارئة على الموضوع المقروء،في غفلة من عين القارئ.
عندما نسمع بالواقع يتبادر إلى الذهن هذا الواقع المعيش،الذي يحاول الإنسان عبر الزمن تجاوزه وتخطي صعابه من أجل الوصول إلى غد أفضل،لكن هذه النظرة إلى الواقع تتصف بالتجزيء والتبسيط،لأنها وليدة عقلية مماثلة تتصف بالتبسيط،وتكتفي بالأشياء المحسوسة ولا تتعداها إلى مافوق الواقع،وهذا المافوق الواقع لا نقصد به الواقع الميتافيزيقي الذي يتصف بالهروبية ،وإنما نقصد به حضورا لإنسان في الواقع الاجتماعي، لكن بشكل متميز يدفعه إلى خلق عالم متخيل له كينونة وحضور في الزمان و المكان.
وهذا الواقع المتخيل هو الذي نريد تتبعه من خلال دراستنا للقصة المغربية المعاصرة، من خلال مجموعة من المجاميع القصصية،والواقع المتخيل هنا لا يعكس الواقع المادي بشكل آلي يشوه العمل الأدبي، بل يلتقط الجانب الأيديولوجي فيه،بمعنى أن لغة السرد القصصي عندما تعبر عن الواقع فإنها تنحرف عن مدلولها المادي المكشوف،وتتخذ أبعاد أيديولوجية تكشف عن الصراع القائم على مستوى التخيل.
ففي قصة "دمية السيليكون" للقاص سعيد رضواني هناك حديث عن تجربة السجن،حيث إن القارئ يشعروكأن هذه التجربة واقعية، لكن تلاعب القاص بلغة القص وبأسلوب يغلب عليه التخيل دفع القارئ إلى تصديق هذا الوصف الدقيق لأركان السجن وحيطانه(من نافذة الزنزانة أنظر إلى السماء،تدعوني زرقتها إلى معانقة الحرية فأعانقها تحت سماء صيف ولى..)مرايا ص25
إن القاص هنا عبر عن صورة ذهنية اختمرت في ذهنه فأعطت مزيجا من الخيال و الواقع، الذي رفع المشهد إلى درجة التخيل الأدبي،فنحن لايهمنا وجود هذا العالم الذي وصفه القاص أو عدم وجوده، بقدر ما يهمنا أن نتخيل معه هذا العالم الذي رفعه من واقعيته إلى عالم الإبداع الأدبي.
وأحيانا نجد القاص يتقمص شخصيات قصصه ويحركها من خلف،ويجعلها تنوب عنه في الرؤية إلى العالم،من خلال تجسيد وتشخيص أدوار يلتقطها عبر نماذج بشرية موجودة في الواقع،لكن الغاية من هذا التجسيد والتشخيص،هو إعطاء صورة متخيلة اختمرت في ذهنه وعكسها أدبا،فالقاص هشام بن الشاوي عندما تقمص شخصية السكير المنحرف في قصة "عزلة فاخرة"كان يريد من ذلك تبيان حالة من التدمر و الانكسار النفسي و الوجودي للإنسان في هذه الحياة(حاول أن يغفو، كل شيء موصد في حجرته.. صخب الجيران يحتل عزلته.. يتمرغ فوق فراشه، يحس بالاختناق، تنتابه رغبة في الصراخ في وجه العالم، يخترق أذنيه صوت صبي بجوار البيت متلفظا بكلمة نابية، يتخيّل العالم حاوية أزبال، يستفزه منظرها، فيركلها...
تتدحرج متمايلة، ويخرج من جوفها كهل بثياب مهترئة وفردة حذاء بئيسة.. يسبّ كل ما حوله، يواصل طريقه مترنحا، محتضنا زجاجة كحول) عن المجموعة القصصية "روتانا سينما...وهلوسات أخرى !".
إن القاص هنا عبر عملية التخيل أشعرالقارئ بحالة من التأزم النفسي التي يعيشها البطل،حالة من النظرة السوداوية إلى الحياة في ظل مجموعة من إكراهاتها،وبذلك بدأ يفكر في وسائل تخرجه من هذه العبثية،فكان اختياره خاطئا ،كان اختيارا يدل على انهزام الإنسان في مواجهة الحياة بمشاكلها وإكراهاتها،كان اختيار الصعلكة و المجون و الانحراف سبيلا لتجاوز هذه المشاكل.
و الهدف من هذه القصة هو حث القارئ المتلقي على الجلد و الصبرعندما يكون في وضعية صعبة،لأن المشاكل لا تحل على طاولات الخمارة أو عبر إزازة الكحول،بل تحل المشاكل عبر الجلوس على طاولة النقاش، والأخذ و الرد في الكلام لعلاج المشاكل المستعصية،لأن المشكلة كما يقول علماء النفس تبدأ كبيرة وتنتهي صغيرة.
والمشاكل عينها لا تحل على كراسي المقاهي لدرجة الإدمان ، فالقاص لحسن باكور من كثرة امتعاضه من المقهى كان تكراره لهذا الاسم عبر قصصه التسع متكررا، لايلبث يصور مشهدا من مشاهد قصصه إلا وذكر اسم المقهى فيه،إلى درجة أن بائع الكراسي المتجول لاحظ ذلك ،أصبح يعرفه جيدا واعتاد على رؤيته جالسا على كرسي المقهى إلى درجة أنه انتبه لاختفاء مؤخرته، استهزاء منه وسخرية من جلساته المتكررة أمام أعين المارة (وعندما قدم عرضه ثانية...أجبته دون تفكير آسف،أنا لست بحاجة إلى كرسي آخر،ثم إني أصبحت إنسانا بلا مؤخرة،لقد بليت و تهرأت فوق كراسي مقاهي المدينة بفضل عطالتي المزمنة) رجل الكراسي ص48
و القاص لحسن باكور يتحدث عن ظاهرة استفحلت في المجتمع المغربي، وهي ظاهرة الجلوس الطويل في المقاهي،و نشر الأرجل على قارعة الطريق،ومراقبة المارة والتعرض لأعراضهم ولأخبارهم، فالقاص هنا يريد أن يلفت الانتباه إلى أهمية الوقت في حياة الإنسان وأن البطالة،في الحقيقة بطالة معششة في أدمغة الناس،لأن الحياة تحتاج إلى نوع من الخفة والبحث من أجل كسب الرزق،وهنا نجد القاص لحسن باكور يرج دماغ العاطلين عن العمل رجا، ويحثهم على البحث عن طرق مرضية وناجعة لكسب الرزق الحلال,والتصرف بحكمة من أجل تدبير عطالتهم وحل مشاكلهم.
وما ينبغي التأكيد عليه هو أنه ليس صحيحا أن نعتقد أن كل ما وصفه القاص يتوافق مع أيديولوجيته، ففي كثير من الأحيان يتبنى القاص بعض المواقف التي لا يؤمن بها(غزته الفكرة،طردته من خلده،يعرف أنها ليست من فصيلة أفكاره،بعيدة كل البعد عن تيماته)هكذا يصور لنا القاص عبد الواحد كفيح نفسا من أنفاسه ،لقد بين بالواضح تعارض الواقع مع المبادئ و المواقف لكن ظروف السرد تفرض عليه ذلك.
وهكذا نجد القاص محمد سعيد الرحباني قد تبنى موقفا غريبا(اختار السيد المعلم نصا قرائيا من خارج المقرر الدراسي،طبعه بالآلة الكاتبة على أوراق ووزعها على التلاميذ....)تقرير ص18 من المجموعة القصصية" في انتظار الصباح"
فالقاص يشتغل في سلك التربية و التعليم، ويعرف بأن اختيارنصوص خارج إطار المؤسسة التربوية، وإدراجها ضمن المقرر الدراسي شئ مخالف لقوانين وزارة التربية الوطنية، فهو بطبيعة الحال لا يؤمن بهذا السلوك، لكنه يصورلنا عالما متخيلا يعالج من خلاله مثل هذه الظواهر السلبية التي تتسرب من حين لآخرإلى مجال التربية و التعليم.
القصة المغربية المعاصرة و الرؤية إلى العالم
و المقصود بالرؤية إلى العالم(مجموعة مترابطة من القضايا و الحلول التي يتم التعبير عنها،على المستوى الأدبي،عن طريق الإبداع بواسطة الألفاظ،وبواسطة كون محسوس من المخلوقات و الأشياء)الاله الخفي ص349
و كلما كانت الرؤية إلى العالم منسجمة ومتلائمة بين الكاتب و أفراد المجتمع، كلما كانت بنية النص الأدبي أكثر فنية وجمالية،ولاينظر لوسيان جولدمان صاحب هذا المفهوم على أساس أن هذه الأعمال الأدبية فردية بل ينظر إليها باعتبارها إنتاج جماعي يتجاوز بنية الفرد إلى بنية الجماعة، وهي التي يسميها ب"الأبنية العقلية المتجاوزة للفرد".
و بعد تعريف الرؤية إلى العالم سنتحدث عن طبيعتها،وهل رؤية القصاصين المغاربة رؤية أحادية البعد أم هي رؤية متعددة ومتناقضة؟
عند قراءتنا للمتن القصصي المغربي نلاحظ أن الرؤية إلى العالم، رؤية متعددة ومتنوعة،تتنوع بتنوع القضايا المطروحة في هذه القصص،لأنها محكومة بمجموعة من الثنائيات الضدية التي تدفع الأحداث في اتجاه الحركية و التنوع(من منا يمكن أن ينسى ذلك الكائن المنطوي الذي ترك لحيته تأخذ حريتها في اعتمار وجهه،واعتزل الجميع إلا شرائط سيدة الطرب)عن قصة اغتيال ص 32 .نلاحظ هنا في "العناصر" لأحمد شكر شدة الصراع النفسي و التصادم في المبدأ بين التشدد في الدين والرغبة في سماع أغاني أم كلثوم،إن الصراع حول القيم و المبادئ من جهة ورغبة النفس في التمادي في إتباع شهواتها بسماع الأغاني، أطلق القاص أحمد شكر العنان لمخيلته لتصوير مشهد مفارق متأزم ،يهدف من خلاله إشراك القارئ في خلق رؤية إلى العالم تنسجم ومبادئ أي قارئ لهذه القصة،وهنا تطرح علينا مسألة توافق أو عدم توافق رؤية القاص مع رؤية القارئ.
و اختلاف الرؤية إلى العالم في القصة المغربية المعاصرة يظهر من خلال الصراع حول الصمودعلى المبدأ، فهناك فئة من فئات المجتمع ترضى بالذل و الهوان وتتنازل على مبادئها، وهناك فئة قوية وهي النخبة التي لا تنزاح عن مبادئها الأخلاقية و الإنسانية(يظهر أن الحافلة توقفت...وأطلق شرطي المرور صفيرا حادا...ثم استرسل في الضحك...ومع ذلك لم تتحرك الحافلة التي توقفت قبل قليل..نزل السائق من الباب الخلفي...صافح الشرطي بالضحك...)عن قصة "مات الكلب"ص 47 من "الكرسي الأزرق" للقاص عبد الله المتقي التي يصف فيها درجة قصوى من الاستهتار بأرواح الناس، حينما وصف الرجل الذي دهسته الحافلة أمام مرأى ومسمع من عيني الشرطي، دون تحريك ساكن في مشهد هزلي مضحك.
فالقاص هنا لايؤمن بمثل هذه السلوكيات المشينة لكنه التقطها بعدسته البالغة الدقة، ونقلها للقارئ بشكل فارقي من أجل تحريك مخيلته و المشاركة في تشكيل فضاء زمكاني ورؤية إلى العالم تتصف بالصراع، وترفض الحالة السكونية التي تساهم دائما في ترك الواقع على حاله.
ويتحرك القاص المغربي في فضح الواقع الآسن وخلخلته من أجل خلق رؤية متناقضة إلى العالم،رؤية تفضح واقعا تعودنا على رؤيته كل يوم إلى درجة التعود والاستئناس،إنه واقع الفقر الذي أصبح سيفا مسلطا على رقابنا لابد من إزاحته وتقليص هوة الفوارق الطبقية بين الشعوب(رغبتي كانت أبعد من أن أخرج بك من حينا القصديري القديم،ومن ذلك البيت الذي لا ماء فيه،ولا ضوء و الذي يفتح له على بركة آسنة المياه يرتع الذباب على سطحها،وتسكن الفئران في أعماقها،وتحوم القطط الجائعة بين أركانها)قاطنة الدم ص30 وفي هذا المشهد الدرامي يصف القاص علي أفيلال في "أفعى في الصدر" حالة من البؤس الاجتماعي الذي لم يعشه على الواقع، وإنما التقطته مخيلته ثم اختمرت الصورة في ذهنه وتمثلها ونقلها أدبا.
كل هذه الثنائيات الضدية (التدين/التحرر_ القيم/اللاقيم _الغنى /الفقر_الوظيف/البطالة..) لها دور كبير في تحريك مخيلة القارئ ودفعه إلى إعطاء رؤية إلى العالم،لأن القصة في الأول والأخير تعبير عن وعي جمعي جماعي ،ولا يتميز القاص في هذه المجاميع القصصية إلا بكونه أقوى مساهمة من شخصياته ومن قرائه.
والملاحظ في القصة المغربية المعاصرة أن ذهنية كتابها يغلب عليها طابع الاندفاع الداخلي و الرغبة في التغيير من منظور المتعلم الذي يعرف كيف يديردولاب الواقع،ولهذا تجد أن القصة المغربية المعاصرة يغلب عليها طابع الأيديولوجي،الذي يظهر على شكل آراء ومواقف حزبية ونقابية(أطاحت العاصفة برؤوس كثيرة،وأماطت اللثام عن زيف البرامج و الوعود الكاذبة...)دموع فراشة ص24
نلاحظ هنا دور القاص المغربي في كشف لعبة الانتخابات التي لا تؤمن بالتباري أمام الصناديق المكشوفة،واحترام أصوات المواطنين الذين أصبحوا يدركون هذه اللعبة التي تتكرر في كل موسم انتخابي.
فالقاص هنا لايؤمن بهذه السلوكيات المنحرفة وإنما ينظر إليها من الخلف و يحاول نقلها للقارئ من أجل مشاركته في رفض هذا الواقع المأزوم.
وهكذا يتفق كتاب القصة في المغرب على رفض كل ما يسيئ للشأن السياسي المغربي محذرين من العقليات المتحزبة المتعفة.
(سحب ثقته من كل الناس ، حتى من أقرب المقربين إليه... ، أولاده الأربعة و....زوجته.
- " لا ثقة في هذا الزمان ولا في..... مواليه
لكن يلبسه العمى ، فيتأبط (نعم) كلما دعت الضرورة إلى تجديد الثقة في الزعيم) فالقاص إدريس الواغيش في قصة "ثقة" يعبر بشكل ساخر عن مدى الثقة التي يعطيعا الناخب للمرشحين،إن البطل هنا لا يثق في زوجته ولا في أولاده ولا في الناس جميعا بينما يثق في ممثليه في البرلمان.
كما نرى مشاهد سياسية واجتماعية أخرى أكثر قوة من غيرها، وهي مناقشة القصة المغربية لظاهرة البطالة وبصفة خاصة البطالة البيضاء المتمثلة في بطالة الدكاترة ومعاناتهم(القبة رفضت مناقشة أحزانهم،وممثلوا الأمة نائمون في أماكنهم،أمام بوابة البرلمان كانوا ثلة من البسطاء يحتضرون،يدفنون أسرارهم لحظة تلو أخرى،بينما كان قائد فرقة التدخل السريع ينبش فيما داخلهم بازدراء من وراء نافذة سيارته المصفحة،ويتخيل بارتياح سيناريو موتهم الوشيك)دموع فراشة ص20
وهنا نرى دور القصة المغربية في التقاط لحظة من لحظات التاريخ التي تعكس بشكل متخيل واقع فئة من فئات المجتمع التي طالها النسيان، بعدما عاشت مدة طويلة من الزمن بين صفوف المدارس و الجامعات، وهاهم الآن يتجرعون مرارة الندم على الأيام التي قضوها على كراسي وطاولات المؤسسات التربوية.
وهناك من القصاصين المغاربة الذين اعتمدوا في كتاباتهم على لغة انزياحية،مستغلين النكتة و الحكاية لتمريررسالة ورؤية إلى العالم عبر بوابة القصة القصيرة جدا(كتب طلب الشغل بخط اليد..فظلت الوعود حبرا على ورق)عن قوس قزح ص29 إنه مشهد آخر من مشاهد معاناة الخريجين من الجامعات الذين طالهم الإهمال،لكن القاص حسن برطال تعقب هذا المشهد الدرامي بأسلوبه الفكاهي ليخلق رؤية ميلودرامية إلى العالم.
كما أن من كتاب القصة الذين انزاحت اللغة عندهم لدرجة الترميز المؤدي إلى النبش في الذاكرة عبر الأحلام بأنواعها،أحلام النوم و أحلام اليقظة، على أساس أن الأحلام هي المنفذ الذي منه تتسرب الحقائق وتعبر عن نفسها،وفي هذا الاتجاه نجد القاص اسماعيل البويحياوي الذي طوع الأحلام وجعلها حفنة بين يديه يستخرج منها آمال وآلام الماضي و الحاضروالمستقبل، من خلال أسلوبه في التخييل الذاتي، الذي ينقل ما تخيله في الماضي ليرتق به مآسي الحاضر و المستقبل(مع كل صباح،وقبل مغادرة دفء فراشي،أستل كمشة أحلام من حقيبة نومي،أشحن بها مسدسي..أبحث عن ضحية جديدة بين دروب هذه المدينة الكافرة بالأحلام..وكلما كشفني مخبر أطلق عليه
حلما
واحدا
فقط)قطف الأحلام ص14
أما القاصة السعدية باحدة فقد عبرت عن رؤيتها إلى العالم من خلال موقف (هروبي) من خلال استراتيجيات و امتدادات مختلفة،فمرة عبر استراتيجية الرحيل أوالانكسارأو الانتحار.(هو شاعر من فطاحل الشعراء،أراد أن يثبت للعالم أن الشعراء لاينتحرون،عندما استفزه كتاب"مائة وخمسون شاعرا منتحرا" أمر بلم كل النسخ من السوق بغية إحراقها....حاصره اللهب..بدأ يرقص ويصيح:مائة وواحد وخمسون...)وقع امتداده ورحل ص41 ففي موقفها الهروبي تعبير عن موقف رافض لواقع معيش تعرفه جيدا وصاغته أدبا.
وتزداد الرؤية إلى العالم اتساعا و تغلغلا في الذاكرة الجماعية عندما تخترق المجال الوطني الضيق لتعبرعن موقف القاص المغربي عن رؤية أشمل وأعمق، تتعلق بالشأن العربي،هنا تكون الرؤية مفارقة و أكثر تناقضا، وفي تناقضها واصطدامها ينتج هذا الوعي الشامل الذي يساهم في بلورته كل من الملقي والمتلقي،رؤية تتداخل فيها الأزمنة والأمكنة حيث يصبح زمن الوقائع وزمن القص يسيران في اتجاه واحد لإنتاج زمن يتصف بالبعد النفسي،وفي هذا الصدد نقرأ قصة "الحذاء العجيب" للقاص إبراهيم أبويه الذي يعبر فيها بشكل كوميدي عن حادثة حذاء منتظر الزيدي التاريخية
(جلس الرئيس يفكر في الحذاء...
ماذا لو كان أصابه في جبهته ؟ماذا لو أن الحذاء كان مفخخا؟؟أهذا ما استحقه من العراقيين بعد أن أهداهم كل معاني الحرية؟؟
في اليوم التالي ،أدخل الرئيس الأحذية في خانة الإرهاب ،ولم يعد يسمح للعرب أن يدخلوا البيت الأبيض إلا وهم حفاة عراة)
من خلال هذه القصة نتابع الحس القومي الذي يشغل القاص المغربي في متابعة مستجدات الأحداث بلغة أدبية جميلة،وهنا يلتقي الأدب بالتاريخ،حيث يصبح الأدب و القصة بشكل خاص مرجعا للتاريخ،يستشف منها المؤرخ الأحداث والمواقف ممزوجة بروح القاص وبمعاناته،يستشف منها عصارة تجاربه،وهنا نتذكر القولة المشهورة "الشعر ديوان العرب" بمعنى أنه سجل لتاريخ العرب،وبما أن القصة المغربية هي شغل القارئ المغربي بامتياز فإن القصة المغربية من حقها أن تكون ديوان المغاربة لأنها ترصد متغيرات الواقع،وتسجله بنوع من الحرفية الأدبية، التي تعكس رؤى كتاب القصة المغاربة في العصر الحديث ،بأسلوب فني يرقى بذائقة القارئ الأدبية وينعش حسه الفني و الجمالي.
وبهذا نستنتج بأن القصة المغربية المعاصرة تتكرر فيها مجموعة من البنيات (الفقر_البطالة_التزوير_الهجرة_الجهل_التعليم_الخيانة....) لكن تكرارها يختلف من حيث التناول،ومن حيث التصور غيرأن هذه البنيات تبقى واحدة عند جميع كتاب القصة المغربية،يصوغونها ببنيات لغوية مختلفة، لكن لهم نفس الرؤية إلى العالم،رؤية مجموعة من المثقفين الذين يحملون الهم الداخلي و الخارجي.
خلاصة وتعليق
من خلال تتبعنا للمشهد القصصي المغربي المعاصر نلاحظ بأن البطل في كل هذه القصص، يحمل هما أيديولوجيا ورؤية إلى العالم ،و البطل في النهاية يكون هو القاص نفسه يحرك الشخصيات بواسطة تقنية الرؤية من خلف ففي قصة أنفاس مستقطعة يتتبع القاص عبد الواحد كفيح أنفاس "مسعودة"(التي اعتادت أن تخلع سروالها وتعرض نفسها على كل من هب ودب...)ص 39إنه في هذه القصة يستغل تقنية الإخراج السينمائي لتصوير مشهد يجمع بين الكوميدي و التراجيدي،يتتبع المتعة الكوميدية التي يحسها المتفرج و النظرة التراجيدية التي يعيشها القاص وهو يتتبع أنفاس ممسعودة المستقطعة.
فالبطل هنا يجمع القيم و الأخلاق و الثقافة ،وهو بذلك يلخص الجماعة ويعبر بلسانها،وعندها يصبح الناطق الرسمي بلسانها،كما أن المحيطين به يتحركون لإضاءته وتسليط الضوء عليه،لتتسع عنده مساحة الرؤية إلى العالم.
فعندما يقوم عز الدين الماعزي بجرد لكثير من المصطلحات الخاصة بالجنة وجهنم،وأشار إلى أهمية خطبة الجمعة،وأن المصلين عندما يكونون في المسجد فإنهم يكونون بين يدي الله تعالى،لكن رغم ذلك فإن هناك نفوسا ضعيفة تتحرك خلسة لإفساد هذا الجو المهيب،وقد عكس الماعزي هذا المشهد بشكل متخيل عندما تتبع نفسية هذا المصلي/اللص الذي سرق منه حذاؤه في حرم المسجد(دخل المسجد للصلاة،وضع حذاءه في المكان المخصص للأحذية.....بحث عن حذائه لم يجده)حب على طريق الكبارص58
القاص هنا التقط هذا المشهد من الواقع الاجتماعي من البيئة المحيطة وعبر عنها بلسانه معبرا عن مشاعر كثير ممن تعرض لمثل هذا السلوك المشين الذي لم تؤثر فيه لا خطبة الجمعة ولا ترغيب ولا ترهيب الامام.
ومن البطل البؤرة تتوزع الرؤية على الجماعة،ففي القصة المغربية المعاصرة لانتتبع البطل وإنما نتتبع المشهد ككل،لأن البطل وهو يتحرك تتحرك معه الجماعة،فالشخصيات المساعدة بدورها تساهم في تأثيث هذا المشهد وهذا الفضاء، ففي رحلة عبر القطار لهشام حراك يذكر القاص كما هائلا من الشخصيات من أجل تسليط الضوء على البطل البؤرة،ويشعر القارئ وكأن مخرجا سينمائيا يتتبع حركاته وسكناته(… يخرج من البيت، هذا الصباح، وفي يده حقيبته… أمام الباب، قبل والدته التي أخذت تدعو الله أن يعود إليها بسلام… ينظر إلى ساعته اليدوية فيجد عقربها الطويل ممددا، في استراحة قصيرة، على النقطة العاشرة، ويجد رفيقه القصير ممددا، في استراحة طويلة، على النقطة السادسة… مدينته، في هذا الوقت، ما تزال خالية من الحركة، باستثناء بعض الحوانيت التي شرعت أبوابها في الانفتاح، وبائعي الحليب، والزبد، ونبات النعناع النازحين من البوادي المجاورة، والذين يصرخون فوق دوابهم بأسماء معروضاتهم)نلاحظ هنا في هذا المشهد توزيع الأدوار بين مختلف أطياف المجتمع،فيكونون وسطاء بين البطل و المشهد فنلاحظ تتبع البطل لنفسيات الباعة في ساحة المدينة،نلاحظ نفسية الأم وهي تودع ابنها،كما نلاحظ الوصف الدقيق الذي أعطاه لرفيقه على أساس أنه ظل مدة من الزمن عاطلا لا شغل له ،كل هذه الشخصيات تتحرك لتفسح الطريق للبطل من أجل تأدية دوره المحوري في القصة.
كما نلاحظ بأن لغة الكتابة هنا تتغير من أجل تحقيق هذه الرؤية الموزعة عبر شخصيات القصة، ولتحقيق هذه الرؤية ،لم تعد القصة تعتمد على السرد اللغوي بل تتجاوزه إلى سرد من نوع آخر يعتمد على المؤثرات الخارجية أصوات الباعة وتحركاتهم ووصف المدينة وتحديد فضائها الزمكاني .
فالقاص هنا يقوم بتوزيع خريطة الرؤية إلى العالم بين أبطال القصة،وأحيانا يكون هذا التوزيع بشكل تداولي،من خلال عملية تبادل الأدوار،ويظهر هذا من خلال الترسيمة التالية:
القاص/البطل
الفلاح |
المعلم |
العامل |
السياسي |
العاطل |
فالبطل هنا يحمل مفهوم القائد بمستويات مختلفة،مرة يكون إيجابيا،ومرة يكون سلبيا،والسلبية هنا ليست بالمعنى القدحي، وإنما يتقمص البطل هذه الأدوار السلبية لينقل الصورة بشكل دقيق للمتلقي،كما يعمل على سحب البساط من تحت أقدام بعض الشخصيات النافذة في المجتمع ويعريها من غطائها ويكشفها للناس ويظهرها عن حقيقتها.وأحيانا يتقمص دور المجرم الذي يقض مضجع الناس ويبث الرعب في سكون الليل، لكن تقمصه لهذه الأدوار يكون من أجل تمثل واقع بل رؤية لواقع متناغم يجمع جميع أطياف المجتمع(غادر السيارة وبيمناه البندقية العتيقة…دلف دون أن يحس بشئ،لما اعترضه الحارس وطلب منه أن يدلي بالدعوة،ابتسم في إشفاق وقال:يؤسفني أن تكون أول ضحية في هذا العرس….رآها فوق العمارية تلوح بيديها،صوب البندقية اتجاهها…تدرج العريس في دمه…هو يريدها نارا تحرق الآخرين) "ذكريات من منفى سحيق"للقاص صخرالمهيف ص21
فالبطل في هذه القصة نراه وكأنه يسير على أرض مملوءة بالألغام،نراه يتوخى الحذر ويعرف أين يضع رجليه،خوفا من إثارة حنق القارئ وتصنيف البطل ضمن فئة المجرمين و الارهابيين،فقد تابع سرد القصة وبين نفسية البطل الذي عبر عن الظلم الذي وقع عليه فكانت النهاية تراجيدية تصور درجة عليا من الحب الذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى الجنون المؤدي إلى القتل(سال الدمع غزيرا من عينيه،حملها على كتفه بعيدا عن النيران المشتعلة،رمى بها داخل السيارة و انطلق بسرعة مجنونة لا تلوي على شئ)نفس المرجع ص 21
وهكذا يحول القاص أنظار القارئ ويدفعه إلى إعادة قراءة القصة مستخلصا موقفا معينا تجاه البطل وتجاه من اعتدى على البطل،وبالتالي تكون القصة بهذا المعنى قد أيقظت عند القارئ هذا الحس و الذوق الأدبي الذي يحرك الفضول المعرفي ،ويرفع من درجة الوعي عن المتلقي.
كما نستنتج بأن قاعدة القصة المغربية المعاصرة تركز على الرؤية إلى العالم، وهرمها يهتم بالجوانب الفنية، ولذلك نجد بأن أغلب المجاميع القصصية ذات حمولة فكرية عميقة وتحمل في مجموعها رؤية متناقضة إلى العالم،بينما تأتي الجوانب الفنية في درجة ثانية،وفي كثير من الأحيان نقرأ قصصا تنزل إلى مستوى القارئ العادي لتلتقي معه عند الفهم العام ،و التصور الجمعي لكافة مكونات المجتمع،إلى درجة أننا نحس بأن بعض القصص لا ترقى فنيا إلى مستوى العمل الأدبي لكنها تحمل رؤية إلى العالم تلتقي وتنسجم مع رؤى قاعدة عريضة من الشعب:
النص الأول/(استيقظ السي العربي باكرا كعادته،فرك عينيه الناعستين وتثاءب عدة مرات واضعا يده على فمه كأنه يريد إخفاء ما تبقى من أسنانه)عندما تغادر العصافير أقفاصها ص37
النص الثاني/(عادالطفل إلى البيت جذلانا،بماله وملابسه،وقبل أن تضع أمه مائدة العشاء،يلاحقه صوتها:هيا.اخلع ملابسك للعيد الماجي)الكرسي الأزرق ص16
النص الثالث/(رسم خبزة على الأرض...فسجد ليأكل) قوس قزح ص40
النص الرابع/(أسألك: لماذا كلما أخفقت عللت الهزيمة بكثرة الأعداء أو ضيق الوقت؟)أكواريوم ص30
من خلال هذه النماذج القصصية الأربع نلاحظ مدى اهتمام القاص المغربي بالجانب الاجتماعي للقصة محددا اشتراك فئة عريضة من الشعب بالهم الاجتماعي،وعندما انصب اهتمام القصاصين بالجانب الاجتماعي في القصة وتوحد الناس حول مجموعة من الهموم المصيرية، نسوا الجانب الفني و الجمالي أي نسوا ما يسمى بأدبية النص الأدبي، إلى درجة أن هناك نصوصا يمكن إدراجها ضمن نصوص في علم الاجتماع أو في الأنتروبولوجيا.
كما أن هناك كثيرا من القصص التي ينتفي فيها السرد القصصي فتقتصر على الوصف من أجل الوصف وليس الوصف من أجل خلق عالم متخيل يتقاطع فيه متخيل القاص ومتخيل المتلقي.وهذا النوع من السرد المبالغ في الوصف ينسى الحوار الداخلي و الحوار الثنائي بين الشخصيات،ونحن نعرف مدى أهمية الحوار في القصة،ولهذا نجد بأن عنصر الحوار بين الشخصيات يكون نادرا في القصة المغربية المعاصرة.
ونقطة أخيرة لابد من الإشارة إليها هي أن القصة المغربية المعاصرة كتبت كثيرا عن الأطفال وعن هموم الأطفال، لكنها لم تكتب للأطفال ،فالمكتبة المغربية مليئة بالقصص التي تحكي وتعكس المجتمع بطريقة أو بأخرى لكنها لم تعمل على رفع مستوى التخيل عند القارئ الطفل.
ثبت المراجع
الاله الخفي ...........لوسيان كولدمان
وظيفة الوصف في الرواية........عبد اللطيف محفوظ