عندما نتحدث عن المناهج يتبادرإلى الذهن الفيلسوف الفرنسي روني ديكارت مؤسس منهج الشك المؤدي إلى الحقيقة،وقد اتبع مجموعة من القواعد في تلقي المعرفة العلمية ومن بينها البداهة أي أن القارئ لا يتقبل الشئ على أنه حق قبل التأكد بالبداهة أنه كذلك،بمعنى عدم الاستعجال في تقبل الأحكام المسبقة.
كانت هذه مقدمة خاطفة لكيفية التعامل مع المناهج النقدية المتراكمة التي أغرقت صفحات الكتب و المنتديات،فمنها ما هو واضح و جلي يتغلغل إلى أعماق النصوص ويدرسها بشكل علمي ممنهج،ومنها ما يهدم النصوص لأنه يتسلح بأدوات وميكانزمات آلية تروم النقض بدل النقد،وهي بذلك بعيدة كل البعد عن الدراسات النقدية العلمية الممنهجة.
والغرض هذا الطرح المبسط هو تمهيد القارئ لنسق جديد من النقد الأدبي يستفيد من مناهج سابقة،أي أنه يستفيد من علم النفس،وعلم الاجتماع،و النقد التاريخي،و النقد الوصفي،والبنيوية،والتفكيكية…
إننا هنا بصدد التعرف على منهج قديم جديد،في مجال النقد الأدبي ألا و هو المنهج الثقافي،الذي يعود تاريخه إلى القرن 18 في أوربا،لكنه تطور و ازدهر في تسعينيات القرن العشرين،مع الناقد و المفكر الأمريكي “فنسنت ليتش”،الذي دعا إلى نقد ثقافي (ما بعد بنيوي) أي أنه دعا إلى تجاوز البنيوية،واعتماد جوانب أخرى تساهم في فك ألغاز النصوص الأدبية .
والنقد الثقافي عند ليتش يهتم بالكشف عن المضمر في ذهن المتلقي،بمعنى معرفة الأثر الذي يخلفه النص الأدبي عند القارئ،باعتبار أن القارئ أثناء قراءته للنصوص الإبداعية،ينتج نصوصا أخرى تختلف عن النصوص المقروءة(الرسالة)، فجمالية النص تأتي في درجة ثانية بعد معرفة العيوب المضمرة وراء الشكل الفني والجمالي وهو بذلك يبين لنا (العيوب النسقية المختبئة تحت عباءة الجمالي)
وبذلك انتقل النقد الثقافي من دراسة النصوص و معرفة دلالاتها،إلى دراسة الأنساق الثقافية المضمرة في ذهن المتلقي،ومعرفة المخبوء المضمر في نسقية التفكير عند المتلقي.
و المتلقي في المنهج الثقافي،ليس هو المثقف النخبوي،بل هو المثقف الهامشي الذي يكافح من أجل إيصال صوته إلى العالم،و هذا الصوت ليس نموذجيا،وإنما هو صوت جماعي يعبر عن نبض الشارع و هموم المواطن البسيط.
لأن من عادة المناهج السابقة أنها كانت تتعامل مع النصوص الإبداعية بمختلف أشكالها وألوانها،لكن ليتش اهتم بالنصوص التي تهتم بثقافة الهامش،أي أنه استفاد من الفلسفة الهيجلية التي تفهم وتحلل الخطاب في نفس الآن.
و النقد الثقافي لا يعنيه الأثر البلاغي،و الجمالي في النصوص،بقدر ما يهمه المخبوء بين سطور البلاغي و الجمالي،أي الاهتمام بالأفكار المضمرة المنساقة التي لم يستطع الكاتب الإفصاح عنها،أي التركيز على النصوص باعتبارها عناصر خفية مؤثرة في عقلية المتلقي و ذائقته،لأن المتلقي يتوفرعلى حمولة فكرية عقلية ولاعقلية،راسخة في الموروث الثقافي و التاريخي الذي اكتسبه المتلقي طيلة حياته .
وفي الساحة النقدية العربية نجد الناقد عبد الغرامي من أبرز النقاد العرب الذين استفادوا من المنهج الثقافي،وقد طبقه على الموروث الثقافي العربي مند العصرالجاهلي إلى وقتنا المعاصر، فالنقد الثقافي عنده (معني بنقد الأنساق المضمرة التي ينطوي عليها الخطاب الثقافي بكل تجلياته و أنماطه وصفاته) بمعنى أنه يهتم بالجانب الخفي في الخطابات الأدبية،والجوانب المضمرة في السياق العقلي واللاعقلي لصاحب النص.
وهو بهذه الدراسة يركز على الخطابات الجماعية وليس على الخطابات الفردية،ولذلك نراه قد اهتم بالمتخيل الجماعي الذي تشترك فيه كل فئات المجتمع،فالذي يهمه في الكتابات الأدبية هو كتابات المبدعين الذين يعبرون بلسان الجماعة،وهو بهذه الطريقة لا يقرؤ النص من منظور نقدي أكاديمي بل من منظور ثقافي يكشف الخفي في الحمولة الثقافية التي يتضمنها النص الإبداعي .
إن هذا الخفي يظهر في فلتات الأقلام التي لا تريد الإفصاح عن نفسها بل تخرج هكذا بين السطور،ولهذا فإن الناقد يكون مضطرا للاستفادة من مناهج نقدية أخرى كالمنهج النفساني والاجتماعي و التاريخي …..
وباستفادة المنهج الثقافي من هذه التشكيلة المتنوعة من المناهج ينعت بأنه منهج توفيقي،يحاول التوفيق بين مجموعة من المناهج النقدية الأخرى،بل الأدهى من ذلك هناك من ينعته بأنه منهج تلفيقي،ترقيعي يأخذ من هذا المنهج ومن ذاك دونما تدقيق ممنهج في عملية الاختيار.
وهنا تطرح مسألة فصل المنهج عن الأيديولوجية،بحيث لا يمكن للناقد فصل المنهج كأدوات نقدية عن الرؤية الأيديولوجية التي ينطلق منها صاحب المنهج,لأن لكل ناقد أيديولوجية يعتمدها كمرجع لأفكاره و رؤاه النقدية.
ونقول ذلك لأن الناقد عبد الله الغذامي عندما تشبت بالمنهج الثقافي كآلية لكشف مستور النصوص الأدبية،لم يستطع الابتعاد عن الحمولة الفكرية و الأيديولوجية التي تحملها المناهج الغربية ذات الخصوصية والمرجعية الغربية التي تؤمن بالفكرالعلماني المتحرر،إلى درجة أن الغذامي وجد نفسه مجزأ الأفكار،هذا التجزئ أصاب المنهج بشرخ كبير،وسم الدراسات النقدية بالانشطار و التشظي،وخاصةعندما حاول المزج بين النقد العربي ذو المرجعية العربية الإسلامية،والنقد الغربي الذي يبعد فكرة الثابت ويرمي بها جانبا باحثا في المتحول المتحرك.
فعندما استفاد الغذامي من المنهج التفكيكي مثلا،وحينما حاول تطبيقه على الإبداعات العربية،اصطدم مع بعض الثوابت التي يؤمن بها المثقف العربي و التي لا يمكن الانسلاخ عنها،لأنها ثوابت راسخة في الموروث الثقافي العربي والإسلامي.
هنا تطرح مسألة الخصوصية فلكل مجتمع خصوصيته فالتفكيكية ذات الخصوصية الفرنسية المتحررة لم تتلاءم مع الخصوصية الألمانية، عندما حاول بعض النقاد الألمان إدخالها إلى الثقافة الألمانية،فبالأحرى تقبلها و ملاءمتها مع الفكر العربي و الخصوصية العربية.
و عبد الله الغذامي كذلك عندما أدخل المنهج الثقافي إلى الدراسات النقدية العربية،تشعروكأنه قد استورد لباسا غربيا فضفاضا،حاول قصه وترتيبه عدة مرات لملاءمة الظروف والواقع الاجتماعي العربي/الإسلامي، لكن هذه المحاولات تعرضت لعدة نقائص منعتها من الخروج إلى الواقع ومنعت المنهج الثقافي كمنهج بديل عن المناهج الغربية الأخرى.
ومن هنا تطرح علينا إشكالية تخبط النقاد العرب في مسألة المنهج و البحث عن الهوية المفقودة،فهناك من يدعو إلى إعادة قراءة التراث العربي و استخلاص مناهج نقدية عربية خالصة،وهناك من يرفض هذا التراث بدعوى التخلف و الرجعية،فالفئة الأولى تهرب إلى الخلف و الفئة الثانية تهرب بعيدا إلى المستقبل، ويبقى عبد الغدامي الناقد الذي اعتمد الوسطية في الانتقاء بين المحافظة على الماضي دون الاتهام بالسلفية النقدية،ودون الارتماء في أحضان النقد الغربي ذو المرجعية و الخصوصية الغربية.
محمد يوب