بالأمس القريب، كان يتحلق حول طلعتك البهية طلبتك ومريدوك يا شيخنا الوقور مقدرين أياديك البيض التي فتحت لهم بها سراديب ودهاليز مجهولة كانوا يرومون خوض غمارها، فكنت المرشد الناصح والأستاذ الموجه والهادي المشير والراعي الأمين، وهاهم اليوم أنفسهم مزهوين بحفل تكريمك ليردوا لك بسيطا من الدين الذي طوقت به أعناقكم يا من عانق الفسحة سابحا في ملكوت البهاء، وتوله في عشقه بأرضه الفيحاء، مثوى العلماء والفقهاء والأدباء والأولياء والأصفياء.
أجملت خبرات الحياة في دواوين أشعارك، وكحلت رموش لواحظك بنبل السهر لتحرق أسماءك وترتل غبطة الخضراء "من أعلى جبل قاف" وتمسك بشهوة" الكائن السبإي"، تخوض تراب الأرض وتعانق الكلمات الشاردة تطوف أوابدها لتخلق الدهشة، وتسافر من الألف إلى الياء لتحلق باللغة في آفاق رحبة وأنت المترع بحبك الصوفي للبلاد المنيعة.
آليت على نفسك إلا أن تتورط في قافية الحروف، تنذر عمرك لبقية العشق تطفىء جمر التوجع على حال هذا الوطن الذي آواك، تستصيخ السمع لصبر التراب ورسوخ الأشجار المباركة وهدير الأمواج المائجة، وتنخطف لنشوة الدهشة العالية، تطرق باب الرهبان والأنبياء والمبشرين بحلم البشرية.
فهل تكريمك اليوم هو تكريم للأستاذ المحنك،
أم- للشاعر المبدع،
أم- للناقد المتمرس،
أم- للباحث الأكاديمي،
أم- للمفكر المتأمل،
أم- للغوي الفذ
أم- لكل هذا المتعدد في شخصك الذي يصدق عليه القول المأثور: "خذني كما أنا في متخيلك، فليس فيه إلا إياي".
إن تكريمك اليوم هو تكريم للذي طوع الحركة والإيقاع على ركح مسرح شعري أعاد الكرامة إلى العصور الجيولوجية التي كانت تحتفي بالديناصورات والخراتيت والماموثات.
إنه تكريم لمن تنسم رائحة التراب والرمل والحصى والوحل الرطب، والساكن في حديقة بيت بعد انبجاس الماء من بئرها، والمبتكر لفواكهه السبع التي لم تتورط في خطيئة.
إنه تكريم للذي نسج من شرايينه أسطورته في شكل "وصايا ماموث لم ينقرض".
إنه تكريم للكائن الليلي الذي احترم الأرق كما احترم الحلم، والمتحامل على جذعه وأطرافه، والباحث دوما عن إبرة في متاه رمال.
إنه تكريم للذي أتقن تصويب العدسة نحو الأفق ليرمم الفضاءات ويعيد تحديد مقاسات الطول والعرض والمدى.
إنه تكريم للذي روض اللغة بين الإبهام والإيضاح، والصحو والسكر بتقنية عالية من التخييل الرقمي.
إنه تكريم لمن حمل عصاه والتف حول شياهه الضالة ليروض النماذج المشبوهة من النهارات والظهيرات والأصائل والعشايا.
إنه تكريم لمن احترف الرسم بالصيغة الألفبائية، واحتفاء بمن خبر فجاج الطريق الشائك وسار على أحجاره المسنونة التي لا تزال محتفظة بآثار الأقدام العارية، وسنابك الخيول وأخفاف الجمال وزوابع الخريف وعواد ذئاب القطب الجنوبي.
إنه تكريم واحتفاء بهذا الذي اصطلى بنشوة التشظي في مرصده الفلكي وخبر أسرار الكتابة التي تضفي رداءا من عطر الماء الأرضي في شرايين القمر العالي.
أيها "الكائن السبئي" الذي أحرق أسماءه" كلها كي يستظل بنورها الناسك في محراب مملكة الشعر، والباحث التائه عن أسرار البوح الشعري.
أيها السابح في الآفاق، والزاهد في "فواكهه السبع"، أيها الراسخ في "قمة جبل قاف" رسوخ جذور أشجار الزيتون المباركة في سهول سايس الخير.
أيها الهرم الشامخ شموخ جبال الأطلس الراسية.
إن تكريمك اليوم لهو امتنان وعرفان لمن أسس معمار القصيدة المليئة بأسرار المغامرة والتجديد، واعتراف بالدور الذي اضطلعت به أيها الشاعر الموهوب من أجل إسماع صوتها لمن به صمم من أدباء المشرق وشعرائه، واحتفاء بمن بقي يقاوم جحود النسيان بإصراره على مواصلة الخلق والإبداع.
إن تكريمك اليوم، إنما هو تكريم للخلق النبيل، وتذكير بمنارتك التي اهتدت بها أجيال وأجيال فتقت وعيها على الدرس والبحث اللغوي والأدبي والنقدي والفكري، وعلى الإبداع والخلق.
هذه بعض من ملامح المحتفي به، شيخ شعرائنا ـ أطال الله في عمره ـ وهي صفاته التي نذر عمره الإبداعي لتشكيلها في دواوينه الغزيرة كي يستدرج المتلقي لتخطي عتبة الدهشة العالية والولوج إلى مآدب أفعاله التي أراد لها أن تكون جرابه الذي يكتشف به العالم وهو يغوص ويطفو ويطير:
"أغوص/وأطفو/وأطير
زلاجة أذرع بها الفضاء الثلجي.
جناحا ملك أحلق بهما في الأعالي.
زعانف فقمة أسبر بها جزر المرجان.
جد مؤلم أن أنفعل بأعضاء كائن غيري.
منذ زمن سحيق وأنا أعمل على ترميم دلالاتي.
في المسافة الفاصلة بيني وبينها فراغ وملاء.
الطول والعرض، المدى الهامس والصاخب.
... أتقنت تصويب العدسة نحو الأفق.
وفيما بعد، علمت أن القاموس زج بنفسه
في بيت الطاعة وأعفاني من دلالاته الجاهزة."
"وصايا ماموت لم ينقرض، من قصيدة "رهان على الوصايا" ص 10
إن العالم الشعري للمحتفى به زاخر بالتأمل الذاتي الخالص، والاستغراق في تشريح علاقة الذات الشاعرة بالواقع والحلم، بالمرئي واللامرئي، بالمعرفة والحدس، وهو عالم ينم عن مخزون هائل من المعرفة والإدراك لغير قليل من العلوم والفنون التي اختمرت لديه طيلة نصف قرن ويزيد، وهذا ما أهله لنسج حوارات معبرة مع أعلام الفن والفكر والتصوف، واستحضار رموز الشعر والأدب العربي والغربي على السواء، واستلهام روائع التراث العربي والعالمي.
ولعل مخزونه الهائل هذا هو ما أكسبه القدرة على امتلاك أسرار الكتابة الشعرية، ومعرفة مخابئها الآمنة في كهوفها السرية على حد تعبيره:
" لو الأمر بيدي
لجردت البرزخ
من دهائه الفلكي،
لعطلت أبهته الطوباوية،
لوزعت ريشة الفردوسي
على بقية الأجرام السماوية.
لأثقلت صدره الحرج بأوسمة
فضية اعترافا بما أسداه للأرواح
من مخابئ آمنة في كهوفه السرية.
إن قصيدة الشاعر المبدع محمد السرغيني هي قصيدة موصولة بعمق تمثله للغة العربية في أبهى مظاهرها، بالإضافة إلى قدرته على تخصيبها وذلك بترهيف الإشارة والإيحاء والترميز والانزياح والتناص وخلق مسافات التوتر بين الدال والمدلول، والاحتفاء بالأمثال السائرة والأقوال المأثورة لينحت منها لغة أصيلة نضرة حديثة، إنه يبدو ـ وهو يصوغ تعابيره ويشكلها بطريقته ـ كمن يقوم بعملية حفر مستمرة في صخر اللغة، وتسلق حواف الكلمات من أجل صعود جبل اللغة.
ومن ثم يمكن القول أن الشاعر المؤسس للقصيدة المغربية الحديثة في مطلع الستينيات من القرن الماضي لا يزال حريصا على بناء صرح شعرية معاصرة تعتمد على نظريات ومعطيات وقوانين مبنية على أنظمة العلاقات التي تنسجها طبيعة اللغة داخل جسد النص، كما أن هذه الشعرية التي يحرضنا محمد السرغيني على الإنخراط فيها، تنبثق من منطلقات ومفاهيم نظرية مستمدة من حركة الحداثة وما بعدها كما تجلت عند أبرز منظريها أو ممارسيها غربيين وعرب ولاتينيين.
وهذا ما أهله ـ بجدارة ـ للإنخراط الفعلي منذ زمن بعيد في غمار البحث التأملي عن المعاني المنسية أو المحجوبة عن الرؤية، وشعل فتيل حرب الدلالة وحثها على الركض للظفر بما يتجاوز الراهن، ونشدان مظاهر السحر والبهاء كما فعل "هولدرلين " بروحه المهتاجة، وت.س إليوت" بتدوينه لأخطاء العصر، و"هاملتون" باكتشافه لترياق السحر الأبيض، و"شارل بودلير" برؤاه الحالمة، و" أرثور رامبو" بفيض إشراقه، و"بول فرلين" بالتقاط الهواجس المرئية، و"سان جون بيرس" بكتابة أسطورته بحبر الآلهة والأنبياء، و"بابلو نيرودا" بروحانيته وشفافية لغة الهنود الحمر.
ومن ثم، يبدو ألق تجربة شيخ الشعراء المغاربة محمد السرغيني متوهجا، وكأن صاحبها ـ أطال الله في عمره ـ ما يزال في ريعان شبابه.