يختط المبدع المصري إدوار الخراط لكتابته الشعرية، مناحي احتمالية تستتيح لها آفاق حرية الاستخفاف بالتوسيم الجنسي القار، والانشراع على شتى الأجناس الأدبية والتآلف معها في منظومة تجانس متراكب، له من الطواعية ما يبديها جنس أجناس تتحاور ضمنها حول احتمال من احتمالاتها المتعددة.
هاته الكتابة التي ما فتئت بدفقها الحركي الطليق تستثير أسئلة النقاد، سنكاشفها بالوصف والتأويل من خلال ديوان: "صيحة وحيد القرن"(1) الذي أبرقه المبدع في غضون سنة 1998 بعد دواوين تواترت مباغثة القارئ، في سياق استرسال كتاباته الروائية .
تبعث حرية الكتابة سؤال الشعري على وضع الفيصل بين كتابتين متوازيتين:
أولاهما، مقيدة تهجس بهاجس " أسبقية الماهية على الوجود"، لذا ترتهن بالبعد المكاني في وجودها المنجز فعليا تبعا لتصور " ماهي " سابق عن وجودها النصي.
هاته الكتابة التي لا تلبث أن تتعلب في علبة الهوية الجنسية، تعتبر الأدب " شيئا في ذاته" أي شيئا معطى جاهزا ونهائيا، لذا فما يحدها هو "الهو الغائب" هذا "الهو" الذي يعقل حريتها في خطاب كينوني مغلق، تتطابق فيه مع ذاتها النصية تطابقا يعدم الاختلاف.
ثانيتهما، مطلقة تهجس بهاجس " أسبقية الوجود على الماهية "، لذا ترتهن بالبعد الزماني في وجودها المنجز افتراضيا، تبعا لتصور " وجودي" سابق عن ماهيتها المؤجلة دوما، في سيرورة تلقيات لا تشترط خلالها وجودها بذاتها، وإنما تشترطه ب"الأنت" المخاطب، الذي يخرجها من نطاق الكمون إلى نطاق التحقق الفعلي المتنزل على محور الزمن، حيث تتلامح بجلاء عبارة عن خطاب تعدد كينوني دائم الانبجاس، ودائم الانجذاب إلى جاذبية الاختلاف في الصوغ الشعري، وفي القراءات التي تحتملها، إذ تنزع طليقة إلى النائيات الاستعارية واحتمالات انتظامها.
فما هما هاتان الحركتان؟
أولا، حركة العدول عن مبدإ المحايثة الجنسية(L’immanence générique):
بهذه الحركة تأنس الكتابة من نفسها حرية التآلف مع أجناس تعبيرية شتى، مما يجعلنا إزاء التآلفتات التالية:
أ). تآلف الشعر والتشكيل:
هنا تجري الكتابة الشعر مجرى التشكيل، إذ تلاحم بين الأيقوني القائم على نسق تصويري طبيعي، يرتهن بالإمتداد المكاني، واللغوي القائم على نسق علامي اعتباطي يرتهن بالتعاقب الزمني.
لذا فهي تستخف بتمايزهما الذي تستجليه الصيغة التالية:
الشعر تشكيل ناطق وقف على تعاقب زمني، والتشكيل شعر صامت وقف على امتداد مكاني(2).
بهذا الاستخفاف تختط الكتابة التشكيلي باللغوي، الذي لايلبث أن يعدل عن مبدإ الخطية الزمنية، ليعبر بطلاقة طبقا لمبدإ التشذير الدلالي، عن دلالات متقاطعة حول صورة شعرية ترادف لوحة تشكيلية، مرادفة تستدل عليها إيحائيا الأسطر الشعرية التالية:
خيوط النسيج متلاحمة بألوانها المطفأة
باذخة
على سرير متعاة بائدة
معقودة
صيحة الديك فاغرا منقاره بلا صوت
لاانطفاء لها. (عن قصيدة: "أذان الديك" ص: 26)(3)
تسترسل الكتابة الشعرية هنا تبعا لآعتبارين :
- أولهما، تقاطع بين الشعر والتشكيل، يتمثل في إيقاف استرسال الزمن:(متعات بائدة)، وتثبيت الحركة: (الديك الفاغرمنقاره بلا صوت) وترسيخ أبعاد هندسية ملونة:( خيوط النسيج المتلاحمة بألوانها المطفأة).
- ثانيهما، تمايز بين الشعر والتشكيل، يتمثل في تشكيل الموصوف وفق شبكة تقاطع الدوال اللغوية بالمدلولات، ومجموع علائقها الترميزية ببعضها البعض.
فبهذا وذاك تُحمّـل الشعر صورة لم تعهد بها إليه السنن اللغوية، فهي صورة تترجم التشكيلي بالكلمي، و"الحسي" بالانفعالي ترجمة تبديها "لوحة"، تقارت فيها الحركة والزمن، وتصنم الكائن الحي، وبهتت الألوان الطبيعية.
إن هاته اللوحة" إذ نستثير من تناسقها الدلالي التقريري أبعادها الايحائية، توقفنا على فضاء مغلق يراوح فيه الزمن في المكان، مستقلا بذاته ومنقطعا عن الصيرورة الزمنية.
إنه فضاء الماضي الذي نكث صلته بالحاضر، وأبقى حركة الموجودات مراوحة في المكان الراكد.
وهو فضاء صاغ له الشاعر، من تمفصلات الدوال اللغوية ومدلولاتها ما يلائم دلالته، فالدوال في الأبيات السالفة برمتها، انتظمت من جهة وفق جمل اسمية تخلو من الأفعال، حتى تدل بتراكبها على ما توحي به، وهو مراوحة الزمان في المكان، ومراوحة الكائنات فيها، ومن جهة أخرى أشرت بإيجاز معجمي كثيف المدلولات، على ما اقترن بهاته المراوحة:
- فالخيوط المتلاحمة المعقودة تومئ إلى حد السرمدي، واحتجاز دورة الحياة(4).
- وسرير متعات بائدة يومئ على توقف دورة التناسل، وإبادة متعة إثر هذا الاحتجاز.
- والألوان المطفأة(5 تومئ إلى انتفاء الجوهر والكينونة(6) وتوقف الزمن.
- والديك بمنقاره المفغور يومئ إلى رغبة في بعث الحياة حاضرا(7)، والانعتاق من شرنقة الماضي.
ولعل ما يلفت النظر بصدد هاته "اللوحة" التي استجمعنا عناصرها، كونها صورة "مقعرة" (Mise en abyme) ضمن الديوان، للملاذ الذي تلوذ به الذات العاشقة متمايزة عن الذات المعشوقة، التي تلوذ بملاذ الحاضر:
أنت لا تذكرين لأن الحاضر اللحظة عندك كل شيء
أما أنا فالماضي هو نفسه الآن
ماثلا عاصفا بكل قواه الداخلية( "أذان الديك" ص: 25).
لذا نرى بين الديك والعاشق مشابه، فكلاهما يراوح في الزمان، وكلاهما يعيش الماضي، وكلاهما تحدوه رغبة ملحاح في التواصل مع الحاضر، هذا الحاضر الذي ترمز إليه وإلى استرساليته الزمنية الذات المعشوقة، حتى أنها لا تذكر ما مضى ولا تقر على اسم.
ب). تآلف الشعر والرواية:
هنا تلائم الكتابة بين التقريري والإيحائي تبعا لمستويين:
أ). مستوى تلفظي يرجع إلى كيفية إنتاج المقول، ويتمثل في استلهام بنيتين حكائيتين تنسبان إلى الرواية الواقعية وهما السرد والوصف.
فبهما يتزاوج الترميز والحكي تزاوجا تتعالى به الكتابة عن مفهوم الشعر الخالص، ومحايثته الجنسية، إذ يمحي فيه تعارض الواقعي الإجتماعي الذي يحيل إلى الواقع، مع المثالي الجوهري الذي يحيل إلى الكلمات، بل يمحي تعارض السردي الوصفي مع التلميحي الرمزي(8).
وحتى نستدل على هذا الإمحاء حسبنا الأسطر الشعرية:
وحيد القرن يطعن أحشائي الآن
بينما التنين قد استكنَّ
في القلب بوداعة
لكنّ ثعبانا أسود ضخما مجنّحا
ما زال يرقد متلوّيا على أرض غرفتي
بين ركام الكتب و الأوراق
لامع العينين مترّبصا
متى يثب إلى عنقي بلدغته اللاسعة
التي تكاد تقارب مجرد وخزة خاطفة
وهي قاضية (عن قصيدة: ثعبان مجنح، ص: 57/58).
فهنا وفي قصائد أخرى ("روبابيكيا" ص:33/ "مألوف وعادي" ص:65) يستأنس الشعر بالحكي، فنكون إزاء تسرد السرد والوصف وفق رؤية سردية، تكشف شخصية ترضخ لحدث في مكان وزمان معينين أو موحى بهما، أي إزاء قراءة شعرية للروائي.
ب). مستوى ملفوظي يرجع إلى المقول، ويتمثل في آستضمار الشعر في تجاويفه ترادفا تناصيا مع معلمة "إدوار الخراط" الروائية: "رامة والتنين"(9) ، فالذات المعشوقة هنا تجد نظيرتها في "صيحة وحيد القرن"، فهما شخصيتان متجانستان، تعيشان الحاضر دون سواه، أي دون الإلتفات إلى الماضي أو الإشرئباب إلى المسقبل، يقول ميخائيل عن معشوقته رامة:
( هي لا تعود أبدا إلى شيء مضى، لا تذكر أبدا، لا تقول شيئا قد حدث وانقضى، كل شيء عندها في الحاضر، كل لحظة تبدأ عندها من جديد، كأن الماضي، لم يحدث أبدا وبالتالي لم ينس ولم يذكر، لأنه لم يكن هناك أصلا، كل حكاياتها في الحقيقة تجري بالفعل المضارع ولا تعرف المستقبل، لا تراه لا يوجد) ص: 265.
وتقول الذات العاشقة عن معشوقتها في "وحيد القرن":
أنت لا تذكرين الماضي
لأن الحاضر اللحظة عندك كل شيء (عن قصيدة: أذان الديك، ص:25).
لذا فوحدانية الحب لا تستهوي المعشوقتين، لأنها لا تلبث أن تنصرم بآنصرام زمن تحققها.
كما أن العاشق "ميخائيل" في الرواية يجانس آخر في الديوان، فهما يرضخان معا للماضي، وينشدان إليه، حتى أنهما يقصران عن الظفر بمعشوقتيهما المنجذبتين إلى جاذبية الحاضر، لذا كان مآلهما واحدا يقول "ميخائيل":
( رامة رامة ندائي الأخير، لماذا أجد نفسي دائما وحيدا وكأن الوحدة هي الشيء الطبيعي، فلماذا إذن لا تحتمل؟ لماذا لا أجد القوة على آحتمالها، كان ينبغي أن تكون هناك، هذه القوة، ومن ناحية أخرى أهي حقا مقضي علينا بها، هذه الوحدة) ص:314.
ويقول العاشق عند مختتم الديوان:
لا أريد ولا أستحق عطفا
الأنقاض تتهاوى فهل يظل الروح شامخا
أم يهتز في خراب البدن؟
*********
لم يعد ثم شيء ضروري
إلا صرخة وحيد القرن ربما
في غابات الجسد المهزوم
لا يسمعها أحد (عن قصيدة: "قصيد لا أريد"،ص:95)
إن تجليات هذا "التناص الذاتي" (Autotextualité) مكثفة جدا، يقصر عن آستيعابها الحيز المخصص لهاته المقالة، فهو يحتاج إلى دراسة مستقلة، خاصة وأن الديوان يتنزل برمته منزلة نص "مقعر" للرواية، حتى أننا لانرى بدا من التساؤل: أليس العاشق في الإبداعين واحدا هو "ميخائيل" والمعشوقة واحدة هي "رامة" المتعددة الأسماء؟
ج). تآلف الشعر والمسرح:
وهنا تؤالف الكتابة بين الشعر والمسرح مؤالفة تنكشف بجلاء، إذ تزاوج في ثنايا قصيدة "آنسداد" (ص:85) بين نصين يحتلان ركنا إبداعيا كيانيا في الخطاب المسرحي، وهما نصا:
- المشخصات (Didascalies) التي تروم تشخيص نظرة المعشوقة وصوتها والحالة التي كان عليها العاشق، ومكان الحدث والمتى الزمني الذي يدور فيه.
- العرض، الذي يتمثل في الحوار الذي تقيمه الذات العاشقة أو تتوهمه مع معشوقتها:
الحلق الفضي يهتز بجانب وجنتها
ونظرتها عميقة
في صوتها دفء إعزاز قديم
يذكرني بلدونة نهديها بين يدي
قلت لها: أوحشتني ضحكتك
هل قالت لي: لم أعد قادرة على الضحك
ولا على البكاء؟
لماذا هاجمتني الدموع
ولماذا أقاومها بعناد
دون مبرر
قالت لي: أنت محير. لا أفهمك
قلت: أنا لا أفهم نفسي
طريق الحوار-طرق الحب-وعرة
المطر يسقط بهدوء وصمت
من وراء زجاج قهوة كلوني
"قد لانلتقي أبدا..بعد"
قلت: مستحيل
لم نلتق - حقا- بمعنى من المعاني
لما أتغنى بالمستحيل ( عن: "قصيدة: انسداد، ص: 85/86)
فبهاته المزاوجة تعقد الكتابة وفاقا بي الشعر والمسرح، وتربط وصالهما من حيث تخترقهما، فهي تستحيل كتابة تنفلت من شرنقة المحايثة الجنسية، إذ تتلاعب بتوسيمات جنسية تلاعبا يوقفنا على نص مشخصات مندغمة في مجرى الحوار، تصدر أدلتها عن شخصية لا تلبث في نص العرض، أن تحاكي صوت شخصية أخرى، ضمن "مونولوج" وتكشف ما يعتمل ويتداعى في ذاتها، مقيمة حوارا مضى زمانه، لا تستحضر منه إلا أشلاءه ونثاراته، فيبدو متقطعا لا يخضع لمنطق السؤال والجواب.
ويكون القصد من مسرحة الشعر، باستيحاء طقس الحوار المشفوع بالمشخصات الدلالة على ما يلي:
- انكفاء الذات العاشقة إلى عوالمها الجوانية، واستبطان ما يحوم فيها على شاكلة حوار أحادي.
- انتفاء التواصل بين الذات العاشقة ومعشوقتها، فالحوار ما بينهما متوهم يصدر عن ذات واحدة مطابقا لها ودالا عليها، هي الذات العاشقة.
لذا ليس من قبيل الاعتباط أن تجانس الكتابة الشعرية هنا المسرح، فهذا التجانس تحدوه رغبة في الاستدلال على دلالة تناصية، تكشف إجدائية انشراع الأجناس وانزياحها عن مقولة "المحايثة الجنسية" قصد ارتياد آفاق تعبيرية رحبة.
تبعغا لهاته التآلفات التي وقفنا عندها تأتي الكتابة من حيث " تعيينها الجنسي"، وقفا على "مبدإ المهيمنة" (Dominante)الذي يدعو إلى مراعاة تراتبية توسيمات أجناسية فيها، لتقرن بعدئذ بالجنس المهيمن بتوسيماته على باقي الأجناس.
هاته هي الرؤية الحداثية للكتابة، فما يحدد جنسا هو الجنس المهيمن في كتابة على أجناس أخرى(10).
فمن منظور هاته الرؤية يزاوج "إدوار الخراط" في لغته وفق استراتيجية الاحتمالات بين الشعر والحكي، مكتمنا توسيمات أجناس أخرى، فتكون الكتابة قصيدة شعرية حين يهيمن الشعر على الحكي، وتكون قصة قصيدة أو رواية قصيدة، حين يهيمن الحكي على الشعر(11).
ثانيا، حركة تشذير القصائد والانزياح عن مبدإ الخطية في استرسال الكتابة الشعرية:.
هاته الحركة تتجلى إذ ينزع الشعر إلى التمفصل وفق شذرات متداعية، تتقاطع حول قاطع دلالي مشترك، يتمثل في صبوة عاشق إلى معشوقة، ما فتئت تعيش الحاضر دون الماضي الذي يعيشه.
إن هذا النزوع الشعري يطرد في قصائد:
موسيقى البحر(ص:11)، وحيد القرن (ص:21)، بلاجدوى (ص:29)، سور حجرتي (ص:37)، شتاتي ما له الدهر نظام (ص:53)، ثعبان مجنح (ص:57)، من زمان (ص:69)، أبدا (ص:77)، بلا رحمة (ص:89)، لا أريد(ص:95) وهو نزوع لا ينتفي إلا في قصائد قليلة.
فبموجبه تبدو الوحدات المشذرة مستقلة ومتناسقة في نفس الآن، تتقاطع حول "مبدإ تنظيمي"(Principe d’organisation ) ، لايلبث أن يسطع بملمحه الدلالي على الشذرات بل على جميع القصائد، حتى وإن توارى فيها النزوع إلى التشذير.
وبذا تلتئم كل قصيدة وتتلاءم مع نظائرها، فتصبح القصائد مهما تعددت في سيرورة تلقيها قصيدة شذرية طويلة، تشتغل تزامنيا أوعموديا وفق مبدإ المحايثة النصية، وتشتغل تعاقبيا أو أفقيا وفق مبدإ التناص الذاتي، ويبقى التعاقب هنا إجرائيا فقط، ذلك أن القصيدة المشذرة -كما يجلوها جماع الديوان- تجنح بدلالالتها إلى الاستعاضة في صيرورة سرمدية عن التوترات الزمنية بالتقاطعات التزامنية، التي تشرعها على احتمالات تأويلية، فتكون تعبيرا عن حرية في الكتابة والقراءة معا، فالقصيدة الشذرية تستبدل في تداعيها الوتيرة الشعرية الأفقية المنتظمة خطيا على "محورالعلاقات التراكبية"(Rapports syntagmatiques) بوتيرة شعرية عمودية متداعية على محور العلاقات الاستبدالية (Rapports paradigmatiques) فتكون لشذراتها طواعية الاستبدال فيما بينها.
كما تستبدل تلك القصيدة في الآن ذاته العلاقة "الاعتباطية" (Arbitraire) بين الدوال والمداليل بعلاقة "طبيعية"، فيكون تشذر الشعر رديفا رمزيا لتصدع الذات العاشقة، وتصدع رؤيتها إلى الواقع، فالذات تعيش تصدعا إذ تبتدع في تجاويفها جغرافية خيالية فتكون الرائية والمرئية:
مراكب الأشواق تبحر في جسمي
شطها بعيد
أمواج الموسيقى تترقرق على الخشب القديم
أشرعة-أفخاذ مرفوعة بلا جدوى شوك المعاني( عن قصيدة: من غير عنوان، ص:17).
وتكون رؤيتها إلى الواقع متصدعة، إذ تقيم تلابسا بين واقعين مجزأين: واقعها الذاتي الذي تختلقه في كيانها، وواقعها الموضوعي الذي يحتويها.
إن تشذر شبكة تقاطع الدوال بالمدلولات وعلاقة بعضها ببعض، تدل دلالة طبيعية على هذا التصدع المزدوج، لذا لا بدع إن أتت العبارة التوجيهية للصوفي "ابن عربي" تهجس به: شتاتي ما له الدهرَ النظامُ.
فبها صدر الشاعر قصائده المتراكبة، وعنون إحدى شذراتها، عسى أن تدل على شتات الذات، وتصدعها بدوالها التي لا ترضخ للتراتبية الأجرومية:( يفتح الدهر ويرفع نظام)، وبمدلولاتها التي لا تستجمعها دلالة تلم شتات الذات.
هكذا ترتاد الكتابة آفاقا شعرية جديدة، لا تلبث أن تستثير تأويلات شتى.
إن هاته الحركة التشذيرية ونظيرتها السابقة، تهجسان بإجدائية حرية الكتابة التي تسري "بذاتية أدبية"(12)(subjectivité littéraire) في شرايين التجربة الإبداعية "لإدوار الخراط" وفق استراتيجية مزدوجة فمنها:
أولا، مسعى تدليل القصائد (Mise en signe): حيث يتم انتقاء الأدلة الإيحائية وتأليفها وفق تخييل "ذاتي" ينسف مبادئ المحايثة الجنسية والشفافية الواقعية والخطية النصية، وينساب تموجات إيقاعية، تترجم توترات ذات ملفوظية تعيش الماضي في الحاضر وتقرأ المتحرك بالثابت.
ثانيا، مسعى تفضية القصائد(Mise en espace): حيث يتم تلبيس الأدلة اللغوية المتراصفة على الصفحات بياضات دلالية، تنفسح بها فسحة لتحاور الذوات مع القصائد واستثارة الأسئلة التي تساكنها، وإضفاء شاعرية بلا ضفاف عليها.
لذا فهي ذاتية حوارية، تتحقق على مستوى الكتابة وعلى مستوى القراءة، أي تتحقق إثر الانتقال من نطاق تطابق الكتابة مع ذاتها النصية، إلى نطاق تخالفها معها أي من نطاق الهوية الثابتة إلى نطاق الكينونة الحركية التأويلية التي تصدع بآستمرار "أيقونة الحقيقة المطلقة".
هكذا ينكشف الشعر لغة متراحبة الأفق، لا تركن أبدا إلى المطلق، وإنما تركن إلى النسبي الذي لا يعدم أن يؤشر على الحرية والذاتية وحق الاختلاف.
(1).إدوار الخراط: صيحة وحيد القرن، دار شرقيات، القاهرة،1998 .
وقد استصدر الشاعر قبل هذا الديوان أربعة دواوين شعرية هي على التوالي
* تأويلات: سبع قصائد إلى عدلي رزق الله، المجلس الأعلى للثقافة القاهرة، 1996.
*لماذا؟ مقاطع من قصيدة حب(1955-1995) دار شرقيات، القاهرة 1996.
*ضربتني أجنحة طائرك(قصائد إلى احمد مرسي) دار حور، القاهرة، 1996.
*طغيان سطوة الطوايا( قصائد الاصاتة وقصائد أخرى)، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 1996.
(2) . استوحينا هاته الصيغة من أخرى تتقارب معها، أوردها (Tzvetan Todorov) في كتابه:
Théorie du symbolisme, coll, point, Ed, seuil, Paris, 1977, P :161.
. سنثبت دوما بموازاة الأسطر الشعرية، عنوان القصيدة المقتطفة منها، ورقم صفحتها. (3)
(4) لا ريب أن العقدة تعقيد الدائرة، والدائرة دلالة على السرمدي، أو دورة الحياة انظر:
- Cathrine Pont-Humbert, Dictionnaire des symboles, des rites et des croyances, Ed,Jean-claude Lattés ;1995,P :97.
.(5). لو كانت هاته الألوان مشتعلة، لدلت على اشتقاقها من النار، وعلى استرسال الزمن، أما وهي منطفئة فتدل على توقف الزمن،(انظر المرجع السابق، ص:211).
. يدل دال اللون لدى المصريين القدامى على الجوهر والكينونة، نفسه، ص:127.(6)
.نفسه، ص:117.(7)
(8) . Bertrand Marchal, Lire le symbolisme, Ed, Durand, Paris, 1993, P :114
. إدوارالخراط: رامة والتنين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1980.(9)
Domique Combe, Les genres littéraires,Ed, Hachette,Paris, 1992, . (10)
P :157.
. كثيرا ما ينعت "إدوارالخراط" كتاباته القصصية والروائية بهذين النعتين لأنه يمزجهما دوما (11)
بالشعر، انظر كتابه: الكتابة عبر النوعية- مقالات في ظاهرة القصة القصيدة، دار شرقيات، القاهرة، 1994، ص: 21.
Voir, Michel Zink , La subjectivité-littéraire, Paris, 1985,P :8. . (12)