تعتبر مسرحية أشباح ثورة اجتماعية وأكثر قوة من مسرحياته السابقة في ذلك الوقت، حيث تمكن إبسن أحد رواد المسرحية الحديثة أن يعري الكذب والنفاق الاجتماعي وانعدام أو تقلص الاحساس بالمسؤولية الذي يؤدي للعجز وتراجع مساحة الفرح الإنساني . الغرض من هذه المسرحية هو تسليط الضوء على العناصر الأكثر ضررا وتدميرا في الحياة. و قبل أن تصدر المسرحية ، أرسل ابسن رسالة إلى ناشره " فريدريك هيجل" حيث يحذره قائلا :"أشباح ستكون إلى أبعد حدّ في بعض الدوائر مثيرة للانزعاج ولكن يجب أن تكون هكذا. إن لم تثر ضجة لم يكن من الضرورة كتابتها ". لكن أشباح كانت قنبلة موقوتة أكثر مما كان يتوقع ابسن. شخصيات المسرحية قليلة: السيدة هيلين ألفينج، ابنها أوزفالد، القسيس ماندرز، النجار انجستراند، والخادمة ريجينا انجستراند، وكذلك الحاجب وهو المتوفي ألفينج، زوج هيلينا ووالد أوزفالد. رغم أنه توفي، إلا أنه يؤثر على كل ما يحدث في المسرحية، وتجري الأحداث في منزل فخم بروزنفولد وفي أقل من أربعة وعشرين ساعة.
تبدأ المسرحية لنعرف أن أوزفالد الذي يعمل فنانا في باريس رجع إلى أهله. في نهاية المسرحية نعرف أن رجينا وأوزفالد أخوة من الأب، كما نعرف أن أوزفالد ورث مرض الزهري المميت من والده. الخادمة رجينا التي وعدت بأن تذهب إلى باريس مع أوزفالد ستغادر أوزفالد عندما تعرف أنها أخته من الأب. احترق الميتم الذي ستفتحه السيدة ألفينج. ستسوء حالة أوزفالد في فترة مرضه الأخيرة و يوشك أن يكون مجنونا. طلب من أمه أن تمنحه المورفين لكي ينهي حياته، كما جاءت به إلى الحياة يريدها أن تأخذه بعيدا عنها .
قامت السيدة ألفينج بما سمته عائلتها القران الجدير بالاعجاب، تكتشف بعد فترة وجيزة من زواجها أن زوجها سكير وفاجر. تصاب بيأس وتلجأ إلى صديقها الشاب، القس ما ندرز الذي كان يهيء لانقاذ النفوس على الرغم من أنها مغلفة في جثث متعفنة. يحث القس ماندرز ميسز ألفينج للعودة الى زوجها وواجباتها تجاه بيتها. ميسز هيلين ألفيج شابة وغير ناضجة ، وكذلك تحب القس الشاب ماندرز. أوامره كانت مطاعة لذك عادت إلى بيتها، وعانت خمسة وعشرين عاما من البؤس والتعذيب المستمر بلا نهاية. تحملت ذلك الشقاء من أجل ابنها الذي ولد من تلك العلاقة العجيبة. ابنها اوزفالد كان كل شيء في حياتها ويجب الحفاظ عليه بأي ثمن. و للقيام بذلك ستضحي رغم توقها الكبير بإرساله بعيدا عن الأجواء المسمومة في منزلها.
من مشاهد المسرحية: أم مثقلة بالذنوب
مسييز ألفينج: كان أوزفالد على حق في كلمة.
القس ماندرز: على حق!
ميسز الفينج: هنا في وحدتي وصل بي تفكيري إلى نفس النهاية، ولكني لم أجرؤ على الافصاح عن آرائي، إلى أن جاء إبني يتحدث عني.
القس ماندرز: أنت تثيرين شفقتي، ولكن دعيني أتحدث إليك، ولن أتحدث بوصفي مدير أعمالك ومستشارك ولكن بوصفي الصديق القديم لزوجك. بوصفي القسيس. القسيس الذي لجأت إليه يوما عندما أخطأت في الحياة.
ميسز ألفينج: وماذا يمكن القسيس أن يقوله لي؟
القس ماندرز: سأثير ذكرياتك بعض الشيء والوقت مناسب لذلك . غدا الذكرى العاشرة لوفاة زوجك. غدا سيزاح الستار عن نصب لتخليد ذكراه. غدا سأتحدث إلى أناس كثيرين، أما اليوم فسأتحدث إليك وحدك.
ميسزو ألفينج: تفضل.
القس ماندرز: أتذكرين ولم ينقضي عام على زواجك، أنك وقفت على حافة الهاوية. إنك هجرت بيتك، أنك فررت من زوجك ، نعم فررت ورفضت العودة إليه رغم توسلاته وصلاته.
ميسز ألفينج: وهل نسيت مدى تعاستي آنذاك .
القس ماندرز: إنها روح التمرد التي تدفعنا إلى طلب السعادة في هذا العالم. ولكن بأي حق لنا نحن ألآدميون أن طلب السعادة؟ علينا أن نؤدي واجبنا. كان واجبك البقاء إلى جانب ذلك الرجل الذي ارتبطت به برضاك المقدس.
ميسز الفينج: لعلك لم تنس كيف كان الفينج يحيا وكم كانت ذنوبه وآثامه .
القس ماندرز: نقلت إلي الشائعات الكثير عنه، وإذا لم تخطئ تلك الأقاويل، فإنك أول من ينكر حياة ألفينج في شيليه، ولكن للزوجة أن تقيم نفسها حكما على زوجها. كان من واجبك أن تحملي الصليب الذي حملتك إياه الإرادة العليا. ولكنك تمردت ورميت الصليب، وهجرت الدار وخاطرت باسمك و سمعتك، وكدت أن تدمري سمعة قوم آخرين.
ميسز ماندرز: تعني سمعة شخص آخر.
القس ماندرز: كان من الحمق أن تلجأي إلي.
ميسز الفينج: إلى قسيسنا.. إلى صديقنا الحميم.
القس ماندرز: لنفس الاعتبار. إنك مدينة بالشكر لله، أن وهبني تلك اللحظة صدق العزيمة فنجحت في طرد الشيطان عنك وإرجاعك ثانية إلى دارك وزوجك.
ميسز ألفينج: كان هذا واجبك؟
القس ماندرز: لم أكن إلا أداة بسيطة في يد إرادة عليا. ألم تشعرين بالراحة النفسية بعد أن أرشدتك إلى طريق الطاعة وتحمل أعباء الحياة؟ ألم تسير الأمور على النحو الذي توقعت ، فتبرأ الفينج من أخطائه كما يجب على رجل أن يفعل، وعاش إلى جانبك زوجا طيبا، كريما، عطوفا حتى مات؟ ألم يصبخ إنسانا خيرا امتد خيره فشمل الجوار؟ ألم يرفعك إليه حتى صرت شريكة له في أعماله؟ لا أنكر مسيز ألفينج أنك جديرة بالثناء. ولكن لنتحدث الآن عن خطيئتك الثانية الكبرى في الحياة.
ميسز ألفينج: ماذا تعني؟
القس ماندرز: كما تنكرت لدور الزوجة يوما، تنكرت لدور الأمومة. كنت نزاعة إلى التحرر والتمرد ولم تعرفي يوما كيف تتحملين التزاما أو قيدا. فقدت دون عناية أو شعور مسؤولية كل ما ألقاه الواجب على عاتقك. ذات يوم لم يرق لك أن تكوني زوجة فغادرت زوجك. ورأيت أن الأمومة حمل ثقيل فأرسلت ابنك إلى الخارج يعيش بين الغرباء.
ميسزو ألفينج: هذا حق.... لقد فعت ذلك.
القس ماندرز: وهكذا أصبحت غريبة في نظري.
ميسز ألفينج: كلا، كلا، لست كذلك.
القس ماندرز: نعم، أنت غريبة في نظري. تلك حقيقة لامهرب منها. تدبري الأمر يا ميسز ألفينج؟ لقد أثمت في حق زوجك، وإقامة تلك المؤسسة لذكراه اعتراف منك بالإثم. وعليك أن تعترفي الآن بإثمك في حق ابنك. تبتعدي عن طريق الخطأ وانقذي البقية الباقية التي تستطيعين لأنك أم مثقلة بالذنب. ذلك واجبي نحوك.
كيف كان الحال؟
هل كانت مؤسسة الزواج المقدسة كما يسميها البعض تبنى على أنقاض علاقات اجتماعية غير واضحة المفاهيم ، وبالتالي آلاف من الاطفال الأبرياء يدفعوا ثمهنا حياتهم في حين أمهاتهم تواصل حتى النهاية من دون أن يتعلمن كيف هي الحياة إجرامية بشكل مخيف. تتحمل مسز الفينج عبث زوجها وتقاسي الأمرين حتي تحافظ علي سمعته وإن كان الثمن باهظا. تعيش مع الحقيقة المرة إلى الأبد ،حقيقة ما رأته من الحياة الماجنة من والد طفلهاالذي عاش في محيط ضيق، لم يجد فيه هدف لحياته . تضحي من أجل طفلها أوزفالد الذي كان النور الوحيد لها. كل ما يجري في دماء الانسان هو ما ورثه عن والديه، بل أغلب الأفكار والعادات والممارسات يكتسبها من محيطه الاجتماعي . في مسرحية أشباح تتحمل مسز الفينج عبث زوجها وتقاسي الأمرين حتي تحافظ علي سمعته، وكان من نتيجة هذا تدمير حياتها وحياة ابنها الوحيد الذي ورث عن ابيه مرضا سريا لاشفاء منه، والابن هنا ضحية أشباح تكمن وراء التقاليد البالية التي تقف عائقا دون تكامل الشخصية.
كل امرأة "ضحية" إلا ووراءها رجل
كتب ابسن هذه المسرحية كي يشخص المجتمع الذي يحكم على الظاهر أكثر من الباطن، مجتمع يعيش تحت أغطية كثيرة مستورة ، كان المجتمع الأوربي يعاني منها على شكل أمراض اجتماعية وجنسية. توغل عميقا في ثنايا علاقات المجتمع الأسرية والعلاقات غير الشرعية، ووضعية المرأة التي تصبر وتضحي لاجل انقاذ اطفالها على حساب حياتها وتعاستها، وتصبر على فساد الزوج حفاظا على سمعة العائلة والمركز الاجتماعي.
الشخصية التي فقدت كل شيء هي السيدة ألفيج . ستدرك أنها هي السبب في جعل زوجها ينجب طفلا خارج نطاق الزواج لأنها حرمته من سعادة الحياة وتضع اللوم على نفسها. فقط الآن اكتشفت أنه كان من الممكن أن تعيش معه حياة سعيدة وتتحمل أيضا ذنب انجاب أوزفالد. ذنبها سبب ارتباطها برجل لا تحبه. لذلك لم تكن قادرة على مقابلته. كانت تخشى من شراسته ووحشيته. كانت فقط مهتمة بالحفاظ على المظهر الكاذب للزواج وتأدية الواجبات التي تعلمتها من أمها، و خالاتها وصديقها القس ماندرز. هل كانت ستعطي المورفين لأوزفالد حتى يموت... هذا ما لا نعرفه . كما جرت العادة يترك ابسن المشاهدين لطرح أسئلة مهمة وكبيرة. سئل إبسن من طرف الأديب وليام آرتشر (الذي ترجم إبسن إلى الانجليزية) عن ميسز ألفينج إن ساعدت أوزفالد على الموت أم لا. ضحك ابسن وقال: "لا أعرف. يجب معرفة ذلك بنفسك. لا أريد أبدا أن أحلم في اتخاد قرار أسئلة صعبة." يبدو الأمر تقريبا عندما تسرد كل المآسي على النحو التالي، تصبح كثيرا من الأشياء الجيدة، ما يعرض على خشبة المسرح فهو بعيدا عن الكوميديا. يشعرالمشاهد بالألم حينما يرى الشخصيات واحدا تلو الآخر في طريقها تدريجي!
ا إلى التفكك. والسبب الذي يجعل المسرحية مؤلمة وليس مضحكة، لأن ابسن بطبيعة الحال يعرف متى سيأتي بالإفصاح عن بعض الأسرار. يعرف كيف سيستخدم التقنيات الأدبية وكيف سيستعملها على خشبة المسرح. وتلك هي عبقريةإابسن ككاتب مسرحي. في واحدة من المسرحيات يعالج ابسن مواضيع مثل الزنا، الأمراض التناسلية ، وسفاح القربى والقتل الرحيم. لكن مسرحية أشباح يضا تتحدّث عن الفرق بين البيئة الاجتماعية في النرويج وبلدان جنوب أوروبا، و الحياةالقمعية هنا في وطنه "النرويج" عكس الحياة السعيدة التي تعيشها الشعوب هناك ، لذلك تتعرض آلية مؤسسة الزواج في بلاده للنقد القاسي .
إنها ستكون فضيحة إذ أرجعت المكتبات مئات النسخ إلى دار النشر. الكثيرون لم يريدوا حتى الاعتراف باقتناء الكتاب. الناقد في الجريدة الصباحية يقول بأن هذا الكتاب لا يجب أن يوضع على مائدة في بيت مسيحي. لم تجرؤ المسارح في مدن كريستيانيا، ستوكهولم ، وكوبنهاغن على عرض مسرحية الأشباح. استغرق الأمرعامين قبل أن تعرض للجمهور النرويجي،و كانت الممثلة السويدية أوجست ليندبرج قد جاءت الى كريستيانيا مع الفرقة المسرحية، ورغم ذلك لم تعرض المسرحية في مدينة كريستيانيا . العرض الأول كان في عام 1900 ، سنة بعد افتتاح المسرح الوطني، عرضت المسرحية على مسرح ثابت في العاصمة. و في ألمانيا ، كانت المسرحية ممنوعة للعرض لعدة سنوات.
قدّمت مجموعة من الهواة الدنماركيين والنرويجييين المسرحية في شيكاغو بالولايات المتحدة للمهاجرين من الدول الإسكندنافية. كان ذلك أول مرة تعرض فيه مسرحية ابسن على جانب المحيط الأطلسي. جمع وليام آرتشر مجموعة من الاقتباسات من الجرائد الانجليزية عندما عرضت مسرحية الأشباح في لندن لأول مرة. " المجارير المفتوحة، ووجود جروح مقرفة مع ضمادة ممزقة، عمل قذر يعرض علنا، حقل مستشفى بنوافد وأبواب مفتوحة على مصراعيها .... هذه المسرحية كلها ابتدال وأنانية، خشونة وسخافة ... عرض منفّر ومثير للإشمئزاز ... عرض مريض وتخريبي، خطر على الصحة وتاريخ سيء ..."
حتى في النرويج تعرضت المسرحية إلى انتقادت سيئة وبغيضة. لكن هناك من كانوا يساندونه. بيورن ستيارنا بيورنسن كان واحد منهم. وأملي سكرام كانت أيضا واحدة من الذين كانوا يؤيدونه. كان دعم بيورنسن على وجه الخصوص حارّا لابسن. كانت بينهما عداوة منذ أن نشر ابسن مسرحية اتحاد الشبيبة. على الرغم من ذلك كان من بين القلائل الذين تحدّثوا علنا بطريقة لطيفة عن مسرحية الأشباح. كتب ابسن في رسالة:" الشخص الوحيد الذي كتب بحرية وجرأة بطريقة جيدة عني، هو بيورنسون. جرأته تشبهه. في الحقيقة له عقل ملوكي كبير ولن أنساه أبدا. بعد وقت قصير كانت مسرحية أشباح تكاد أن تكون واحدة من أكثر مسرحياته عرضا. ومن جديد سيكون إبسن متقدما بفارق كبير عن جمهوره .
الحلقة القادمة:
ما الذي جعل مسرحية أشباح مؤثرة في جمهور اليوم ؟
موجز وتحليل مسرحية أشباح إبسن - زكية الشنقيطي
أدوات
شكل العرض
- أصغر صغير متوسط كبير أكبر
- نسخ كوفي مدى عارف مرزا
- شكل القراءة