يعد المكان من أهم المكونات التي تشكل بنية الخطاب الروائي, حيث يستحيل علينا تصور العمل الروائي دون مكان تسير فيه أحداثه لأنه بمثابة العنصر الفعال الذي تتجسد فيه أحداث هذا العمل.
1- المكان بين المفهوم والمصطلح:
لقد ورد مصطلح المكان في لسان العرب,فنجد: «المكان والمكانة واحد,المكان في أصل تقدير الفعل مفعل لأنه موضع لكينونة الشيء فيه، والدليل على أنه المكان مفعل هو أن العرب لا تقول في معنى هو معنى مكان كذا وكذا إلا مفعل والجمع أمكنة وأماكن جمع الجمع»(1) ونجد في بعض القواميس التي قدمت تعريفا للمكان على أنه موضوع كون الشيء وحصوله.
أما من الناحية الاصطلاحية فقد اختلفت مفاهيمه نتيجة لاختلاف الدراسات والاجتهادات إلا أنها استعملته كإطار تسير عليه أحداث الرواية، فعبد المالك مرتاض قد قدم بعض التفسيرات لمرادفات عدة للمكان كالحيز والفضاء وغيرهما:«لقد خضنا في أمر هذا المفهوم وأطلقنا عليه مصطلح الحيز مقابلا للمصطلحين الفرنسي والانجليزي(Space-Espace) ولعل أهم ما يمكن إعادة ذكره هنا، أن مصطلح الفضاء من الضرورة أن يكون معناه جاريا في الخواء والفراغ، بينما الحيز لدينا ينصرف استعماله إلى النتوء والوزن والثقل والحجم والشكل على حين أن المكان نريد أن نقفه في العمل الروائي على مفهوم الحيز الجغرافي وحده» (2).
لقد ميز النقاد بين هذه المصطلحات الواردة، فقد عالج حميد الحميداني مسألة المكان في الرواية العربية من خلال دراستها، متطرقا إلى مجموعة من المصطلحات المتعلقة بالمفهوم مثل:«المكان الروائي والفضاء الجغرافي والفضاء الدلالي والفضاء النصي والفضاء بوصفه متطورا»(3) ثم أبدى ميله إلى عنصر المكان مذهب جل النقاد المشتغلين في هذه الرواية، لما في هذا المصطلح من شمولية أوسع لكونه:«يشمل المكان بعينه الذي تجري فيه أحداث الرواية بينما مصطلح الفضاء يشير إلى المسرح الروائي بأكمله ويكون المكان داخله، جزءا منه»(4)
2-جمالية المكان في العمل السردي:
ففي المكان إ تتلاقى الأبعاد وتتماهى المسافات ويشترك المتلقي في رحلات متنوعة، يختفي الحد الفاصل بين المعرفة واللامعرفة وتصبح الذاكرة واحدة، فيفعمه بإحساس طوافه لتلك الأماكن بالتفاعل معه:«فيصف أماكن وإقامات ومناظر طبيعية ينقلنا كما يقول بروستProust بخصوص قراءاته الصبيانية خياليا إلى أقطار مجهولة تمنحنا للحظة الوهم بأن ننجو بها ونقطنها»(6).
وبعد هذا التقديم الضروري لمصطلح المكان وتمييزه عن المصطلحات الأخرى كالفضاء والحيز، يبقى المكان هو المجال الذي تسير فيه أحداث الرواية من تحولات على مستوى أفعال الشخصيات ومن رؤية السارد التي يحددها من خلال عالمه الإنساني الذي يبنيه والمواقف المختلفة التي تنبثق منه والقانون السائد في هذا العالم والنظم المتعددة التي تحكمه؛ إن المكان هو المدى الذي يحقق فيه الراوي كل تصوراته من خلال ارتباط عناصر الرواية. فأهميته لا تقتصر على المستوى البنائي، بل تتجلى أيضا على مستوى الحكاية(المدلول) وذلك حين يخضع الإنسان للعلاقات الإنسانية، والنظم لإحداثيات المكان معتمدا على اللغة:«لإضفاء الإحداثيات المكانية على المنظومات الذهنية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية. مما يسهم في تجسيدها وجعلها أكثر فهما وقبولا لدى المتلقي وهذا التبادل بين الصور المكانية والذهنية يتمدد لالتصاق معاني أخلاقية بالإحداثيات المكانية تنبع من ثقافة المجتمع وحضارته»(7). إنه يمنحنا فضاء خياليا عن طريق اللغة التي تبرز لنا هذه العلاقات الفضائية وقدرته على خلق جمالية للمكان ومشاركة المتلقي في فك الشفرات المضافة له لهذا: «فالنص الروائي يخلق عن طريق الكلمات مكانا خياليا له مقوماته الخاصة وأبعاده المميزة»(8). فيحقق الراوي باللغة عالمه الروائي بكل تصوراته وتمنحه الحرية في تشكيل فضائه بعيدا عن كل القوانين الهندسية بمشاركة الشخصيات ووظائفها المختلفة.
3-بنية المكان الدمشقي بين الأصالة والمعاصرة:
أ- البنية المكانية الكبرى(دمشق):
دمشق أول مكان يقابلنا ويصدمنا، هي الكلمة الافتتاحية التي نجدها في العنوان(الرواية المستحيلة، فسيفساء دمشقية)، فهي ليست مجرد بناء هندسي بل نسعى تجاوزه لنصل إلى أبعاده البنائية وأعماقه الدلالية.
هي واقع ملتحم بحياة الناس، تضم كل مفارقات الحياة، هي البؤرة المكانية التي يتناسل منها النص وينمو، جاءت دمشق فسيفساء من أماكن متعددة ذات أبعاد جغرافية وجمالية وأيديولوجية تدعو المتلقي للولوج إلى داخل الخطاب الروائي واستقصاء آثاره، فدمشق هي المدى الذي تدور فيه الأحداث ويأتي حضور هذا المكان انطلاقا من واقع المجتمع العربي السوري، عاداته وتقاليده، والممثل في الأسرة الكبيرة المعروفة (آل الخيال).
يظهر لنا المكان انطلاقا من الحفل التأبيني الذي أقيم على شرف المرحومة الأديبة هند زوجة أمجد الخيال:«انتهت دقيقة الوقوف حدادا.يعلن عريف الحفل في مدرج الجامعة السورية عن كلمة الخطيب الأول»(9). من هذا المكان وهو الاسم القديم لجامعة دمشق تتدفق بداخل أمجد رؤى متعددة بمعانقة حلم الزوجة الأديبة بالاسم المستعار، حيث تنطلق من المكان نفسه مصالح الشخصيات الأخرى وهذا نتيجة للمكانة المتميزة التي حظيت بها هند ثقافيا واجتماعيا فهي بنت اللاذقية:«أنا منحدرة من أسرة كبيرة ثرية من اللاذقية» (10). ومن هنا تظهر تلك المفارقة المكانية الواضحة بين الأصالة والمعاصرة في مكان واحد(دمشق)، بين أماكن مختلفة بعضها لها دلالة القدم والعراقة وبعضها يدل على التمدن والتحضر وهذا ما تثبته هند:«و أنت ابن الشام منذ مئات الأعوام، منذ حضور جد أجدادك من الحجاز مع الفتح والخطيب يطنب كما ترى في شرح ذلك، فبوسع قبيلتك الكبيرة جدا أن تؤمن له الكثير من الدعم القوي»(11). تبرز الفوارق الاجتماعية من خلال التباين المكاني (اللاذقية، الشام) فاللاذقية مكان ينفتح على مقومات المعاصرة بما في ذلك الثراء، العلم الذي يفتح آفاقا عديدة ومنها مثلا منح حرية المرأة والتي كان يرفضها أهل الشام، الأصالة والتاريخ بأصولها المتشبثة بالحضارة العربية القديمة (الحجاز)، ومنها يستمد مبادئه التي تبقى راسخة منذ أزمان غابرة وثابتة في هذا المكان بثبات شخصياته وثبات الأصول العربية.
إن هذه الثنائية:الأصالة والمعاصرة هي فسيفساء تشكل منها المكان باختلاف الهوية والأصل، فبين الرفض والقبول كانت معطيات بنائية تقف عند حدود الرؤية الدرامية لتقدمه كلوحة فنية تتداخل فيها التجارب وتتمازج فيها الألوان.
كان حب المكان صامدا أمام كل التغيرات الحضارية، فدمشق يستنطقها السارد من خلال شخصياتها وأحداثها عبر أزمنة مختلفة وبواسطة وجهات نظر متعددة ومتباينة، تشكل من أبعادها أسئلة وهواجس وإشكاليات ملتصقة بوعينا الثقافي والاجتماعي والجمالي وبنسيجنا السيكولوجي والمعرفي والأيديولوجي، فهذا الحب الوطني تمتد أنفاسه مع أجيال وكأنهم يتنفسون المكان لحظة واحدة ويظهر من خلال الحوار الذي دار بين زين ووالدها:«أغمضي عينيك وتنفسي جيدا... دعي الهواء النقي يدخل عبر مساماتك حتى روحك...تنفسي سوريا... تنفسي رائحة بلدك»(12). ينطلق استيعاب المكان من الأب إلى البنت، تتنفس سوريا حتى تسري في دورتها الدموية، تطوف بها الدنيا وتمر عليها الأزمنة دون نسيانها، هي المدينة التي تحيا لا لتموت، هي الملحمة الخالدة بآثارها وتاريخها وحجارتها وأناسها: «إن تلك الصخرة المنشارية في الربوة إلى يمين الطريق من دمشق صوب دمر كانت تأسر خياله، إذ يتعذر على أي شخص تسلقها دون تعريض حياته للخطر، ومن أجل ماذا؟ كي يكتب عبارة«اذكريني دائما»... ولطالما تساءل: ما هو ذلك الدهان السحري الذي سطرت به تلك العبارة ؟ وكيف يزيده المطر رسوخا ولمعانا ولا تمحوه الرياح......من هو ذلك العاشق؟ ولمن وجه تلك العبارة ؟و هل تسلقت حبيبته الأسطورية بدورها صخرة الموت المنشارية تلك لتكتب له الإجابة:«لا أنساك »، أم أن المقصود بالعبارة«دمشق» أي« اذكريني دائما يا دمشق» ؟... هل سطرها عاشق للمدينة مثله قبل سفره للدراسة مثلا، وكتبت له روح دمشق الحية إجابتها ببساطة: لا أنساك؟»(13) تقديم دمشق، المكان الأسطوري والتاريخي إثبات لاستقراره وثباته على طول السنين، هي تذكر كل من أحبها ومن يحبها لن ينساها، قصة حب يشترك في بناء أحداثها المكان والإنسان،فقساوة الطبيعة وتدخل عناصرها المختلفة ساهمت في ترسيخ تلك العبارة وخاصة في نقش حروفها على جدارية الذاكرة.
إن العنوان متجذر في الخطاب، دال على بنيته، ثابت في مكان الفعل وزمانه ما يبرر شرعيته من خلال الرواية، فكانت دمشق المكان الحاضر بكل تفاصيل الحياة الصغيرة والكبيرة، الواقع ببنيته السطحية والعميقة، باتساعه وعمقه، فكانت الرواية جديرة بحمل هذه الهوية وتتويج هذه الحضارة العريقة والعالم السري والسحري:«سوريا بلد عمره آلاف السنين، تبديله لا يتم ببلاغ رقم واحد بل بالعمل المستمر الطويل الذي لا يلقى على عاتق فرد.هذه مدينة دهرية»(14).
و نصل من خلال هذه المتابعة إلى أن المكان الدمشقي ينحصر في ثنائية الأصالة والمعاصرة بتاريخه وعراقته ومدى قدرته على التحدي لأجل الصمود والبقاء كمكان دهري خالد في الذاكرة وفي الوجود الإنساني. ساعد في بنائه تلك العوامل الخارجية ومساهمتها في تصوير تلك الفاعلية المؤثرة لإبراز الملحمة الدمشقية بماضيها وحاضرها ومستقبلها.
ب - البنيات المكانية الصغرى:
تتعدد البنيات المكانية الصغرى بتعدد البنيات المكانية الكبرى، وبالرغم من كثرتها إلا أننا حاولنا أن نحصرها في الأزقة والمنازل ا كإشارات لها دلالتها في هذه الرواية لأن الأحداث ارتبطت بالأماكن الأولى.
1- بنية الأزقة والمنازل:
إن للإنسان علاقة حميمية بالمكان الذي ينتمي إليه والتي يمكن رصدها من منظور روحي ومادي، فثمة تقاطعات وتشابكات بينهما. وتشكل المعرفة بهذه العلاقة مفتاحا من مفاتيح مقاربة المكان في هذه الرواية. يظهر زقاق الياسمين والبيت الكبير في فسيفساء دمشقية، والتي سنحاول من خلالهما إضاءة جوانب غامضة من أسرار هاته الأماكن ونبحث عن نظام العلاقات بينها والوظائف والدلالات التي تؤديها.
أ- زقاق الياسمين:
إن زقاق الياسمين يظهر لنا بعد أن قرر أمجد الخيال العودة إلى البيت الكبير(منزله) بعد الحفل التأبيني الذي أقيم لزوجته بالجامعة السورية. طريقه إلى المنزل يدعوه للمرور بأماكن متعددة وبطريقة متسلسلة :«من جسر فيكتوريا إلى محطة الحجاز، وقد خلف شارع فؤاد الأول وراءه. وعندما وصل إلى مبنى فندق الأوريان بالاس،لم ينعطف إلى اليمين صوب الحلبوني... تجاوز محطة الحجاز وهو يغذ السير إلى سوق الحميدية... ومشى حتى ساحة المرجة.....»(15) عبر أماكن مختلفة ونقاط عبور مختلفة بين المحطات والأسواق والشوارع، رحلة طويلة طول حزن أمجد وأفكاره السرمدية المؤلمة المرتبطة بذكرى وفاة زوجته، صمت وضياع ينتهي مباشرة بعد وصوله إلى الزقاق:«تاه طويلا ودار مع الدرب ثم جافاها وراح وجاء مثل روح ضالة......... لم يمش أكثر من عدة خطوات في الزقاق صوب البيت إذ أحس فجأة بالحاجة إلى أن يظل وحيدا،فبدل رأيه وغادره من جديد نصف هارب ليتيه ثانية في الأزقة الموحلة»(16) إنه يعيش حالات الحضور والغياب، الغياب عن عالمه الآني والسفر إلى الماضي، إلى الذكرى، والحضور للتمتع بجماليات المكان فتتواصل هذه الجمالية مع اللقاء الأول بزقاقه فيتنفس رائحة الحارة الشامية، لكن سرعان ما ينقطع حبل التواصل والحضور فتكون الرغبة الجامحة في الغياب مرة ثانية والبحث عن الوحدة. كانت الوجهة مختلفة والأماكن التي يعانقها هذه المرة غير الأولى:«يمشي أمجد طويلا وهو يهيم على وجهه يجد نفسه يهرول في سوق تفضلي يا ست مع خواطره ثم البحصة الجوانية ويمشي منها صوب شارع جمال باشا، يغيب في باب الجابية ويصحو في السكرية ويغرق في الشاغور... ويصحو في الميدان..........يغيب ويحضر فيجد نفسه في أزقة تأكل من قدميه... كأنه يستمد القوة من روح أجداده الذين تعاقبوا على هذه الأماكن على مر العصور وهو يتذكر أن تحت هذه الشوارع ترقد مدينة رومانية... وأنه يتسكع عبر الأزمان في الشام...»(17) إنه يبحث عن الفسيفساء الدمشقية حيث يدخل في برزخ الحضور والغياب ليدل على أبعاد هذه الأماكن، حضارات متعددة منها يستمد القوة بعد الضعف الذي ألم به. وهدف السارد في الوصول إلى صور لامرئية لأزمنة غابرة ترقد تحت هذه الأماكن، فيستعين بلغة خيالية موغلة في عمق التجربة الإنسانية التي تعايشها الشخصية الروائية بمعانقة الأسئلة الوجودية الماورائية: يغيب/يحضر، يغلبه الإرهاق/يصحو، يغيب في /يصحو في، فبين الغياب والغرق والغلبة والصحو بعدها، يحاول أمجد في كل مرة احتضان أماكن جديدة بوعي أو دون وعي لأن الخطاب الروائي:»يتخذ الفضاء أشكالا متعددة ودلالات متجددة تهب للرواية حقيقة كينونتها التي تحدد علاقات الإنسان بالعالم»(18) فتظهر أهمية هذه البنيات الصغرى المشكلة داخل البنية الكبرى (دمشق)، هي الفسيفساء التي شكلت اللوحة الكبرى والتي بها تعلقت الذات الإنسانية بجذورها الأولى.
ب- جدلية المكان بين البيت الكبير القديم والبيت الجديد في اللاذقية:
يعاوده الحنين لزقاق الياسمين فيقرر العودة عن طريق العربة بعد التعب الذي ألم به: «حين أقلت عربة أمجد الخيال ثانية إلى قرب مدخل زقاق الياسمين حيث يقيم كان الظلام مهيمنا. ترجل ومشى... لا ريثما يقطع الممر الروماني الضيق لزقاق الياسمين بأقواسه الحجرية حتى يصل إلى باب بيته الذي يتوسطه، مشى والزقاق ينفرج على فسحات تشع ببعض النور ولا يلبث أن يضيق كالمتاهة الغامضة حتى يصل باب بيته»(19). إن تحديد السارد لهذه المواصفات جاء نتيجة للتعبير عن حالات الحزن والضياع والألم التي تعاني منها الشخصية الروائية نتيجة وقوعها داخل هذا الزقاق مباشرة بعد وصولها إلى البيت الكبير، كان وصف السارد لهذا البيت وصفا خارجيا:«توقف أمجد الخيال امام الباب الخشبي الكبير لبيته المحفور بنقوش تتكاثف عند طرفه الأعلى المقوس،المطروق بالنحاس والذي ينفتح في أسفله باب آخر صغير يكفي لمرور شخص واحد»(20). هذا المظهر البنائي الخارجي رسم لنا شكله الهندسي المعماري القديم وخاصة الهندسة الدمشقية في الحارات القديمة التي يدهشك جمالها لمجرد رؤيتها، فتظهر كلوحة واحدة وما يزيدها جمالا هو الوصف الداخلي للبيت الكبير:«أقواس الإيوان وأعمدته والخطوط المضيئة الأفقية والشاقولية حول صحنه والأقواس فوق أبوابه الشبيهة بقباب رمزية تنحني لله»(21)، فشموخ هذا البيت امتداد للحضارة، ومدى خضوع الإنسان لأصول تاريخه وثباته واستقرار أبعاده التي أسهمت إلى حد بعيد في تقديم الصورة الشكلية الخارجية لهذا المكان الروائي وتزاوجها مع الصورة الداخلية لها، فهذا التزاوج هو رمزية الحضارة العربية الإسلامية.
أصبح البيت الكبير مكانا يحاوره أمجد فيبثه حزنه ويلبسه عباءة آلامه فيكتسب حلة جمالية بتلك الصفات التي تحلت بها كل أجزاء البيت وكأنه يعايش اللحظات من جديد، فالكل يبكي وينتحب:«كل تلك الأمكنة تبكي غيابها كما أبكيها، كل شيء يبكي... الكنز العتيق المدفون تحت رخام الديار يبكي.تبكي خطوط الدار بكل ما ترسمه من نوافذ وغرف،تبكي السطوح حيث كان يطيب السهر »(22)، إنها تزف للقارئ قدسية هذا المكان وتحاول أن تجعل منه فضاء ممتدا يجتاز الحدود الجغرافية حين تظهر تلك الذات المجروحة وهي تحاور كل لبنة فيه محاولة استنطاقها ومعرفة أسرارها الدفينة.
فالبيت الكبير يروي حكاية الزمن حين يتواصل المكان بالزمان، فيمثل ترسبات لمراحل زمنية عديدة، بؤرة للصراع بين قوى مختلفة أو بين تجارب اجتماعية متباينة لكن ما يرمز إليه هو حضور التوحد الأسري وغياب الفرقة، الصدر الرحب الذي يسع كل من يلجأ إليه، فمنه تنطلق الأحداث وفيه تدور، يثبت تعلق الإنسان بأزمنته الحضارية رغم امتداد المسافات ففيه:«يعيش الغائب والحاضر،الأحياء منهم والأموات،الأجداد مع الأحفاد... وتسكن الأرواح مع اهتراء الجدران»(23). جدلية هي هذا المكان، تتعالق فيه الأزمنة وتتعانق، تلتقي العصور مع بعضها البعض رغم تباعد الأجيال، يقترب الأحياء من الأموات والإنس من الجن، مفارقات كلها التقت في نقطة واحدة هي البيت الكبير.
إن هذا المكان بعد أن كان يحمل كل دلالات الأصالة والتاريخ والتوحد والانتماء للشخصيات التي تسكنه تغيرت دلالته بعد ما دخل أهل أم عامر النازحين من فلسطين هذا البيت، فأصبح بالنسبة لهم مكانا يوحي بالغربة رغم سعة صدر أهل البيت: «منذ مجيئها وأسرتها من فلسطين قبل ثمانية أعوام،و أم عامر لا تزال وأسرتها في البيت الكبير بالرغم من شراء زوجها أبو عامر لمنزل اليهودي... إن أواصر الصداقة انعقدت بين أبو عامر وعبد الفتاح وصار الثاني يقسم باليمين أن يبقى أبو عامر في ضيافته.... وهي دعوة لقيت من نفس أبو عامر هوى،فهي تقوي قناعته بأن وجوده في دمشق مؤقت، وأنه مجرد ضيف... وهذه القناعة اللاعقلانية وحدها كانت تساعده على الاستمرار»(24). فبين فلسطين ودمشق، بين الألفة والغرابة أصبح البيت فضاء فارغا نتيجة للهموم المتراكمة داخل نفسية الشخصيات، والرغبة في العودة إلى ديارهم ولكن الظروف الراهنة فرضت عليهم البقاء وهي الحجة الغير عقلية والتي تمنحهم العزاء والقوة.
إن بنية هذا المكان ليست كمعطى طبيعي يسهل اختراقه وإنما معطى مشحون بالدلالات والقيم الروحية، فلا يتوقف حضوره على المستوى الحسي بل يتغلغل في أعماق الشخصية راسما مسارات وأخاديد غائرة في مستويات الذات المختلفة ليصبح جزءا صميميا منها.
و يظهر في المقابل البيت الجديد في اللاذقية وبالتحديد في شارع أبو رمانة، البيت الذي تقطنه زين مع والدها وجدتها الحاجة حياة، إلا أن الحنين يخالجها لتلك الحياة السحرية في البيت الكبير:«ظلت زين رغم سعادتها في البيت الجديد في شارع أبو رمانة تحن إلى ذلك الزقاق الضيق الملتف على نفسه كرحم والنوافذ المتقاربة، وبشرة البيوت الطينية التي تكاد تبدو حية،و البت الكبير بأهله ودنياه وعطوره وبهاراته»(25) ولكن السعادة بالمكان الجديد تحقيق للحرية بكسر قيود العادات والتقاليد، فمن هذا المكان دعوة مجددة لحرية المرأة وتجاوز كل المفاهيم الضيقة التي تحاصرها، فينعدم الشعور بالمكان الأول من هذه الناحية وظهر الشعور بالمكان الثاني:«فرحت زين كثيرا بمساحة الحرية التي توفرت لها في السنوات الأخيرة منذ انتقالهم إلى البيت الجديد في ساحة المدفع... سعدت زين أيضا في البيت الجديد بغرفة تستقل بها بلا مداهمات أو عداء حاسد... وألفت بسرعة مناخ ساحة المدفع والناس المختلفين فيها عما عرفته في الحي العتيق زيا وتصرفا وسلوكا... وجذبت زين العادات المختلفة للناس في الحي الجديد وأسلوبهم المختلف في العيش والملبس وحتى المأكل والموسيقى الجديدة التي تصدح من النوافذ»(26). أحست زين بالحرية في كل شيء، في المظاهر الخارجية وفي التصرفات والسلوك، فاخترقها المكان ومنحها الألفة والاستقرار وامتص حالتها كي يمنحها حالة جديدة، في المقابل نجد الرفض لهذا المكان الجديد بكل تفاصيله لأن المكان الأول يسكن الحاجة حياة روحيا وعقليا مما يمنحها الشعور بالغربة تجاهه:«كم أفتقد للبيت القديم في غربتي في شارع أبو رمانة بساحة المدفع وأخاف عليه من التخمين والقص والهدم... أشعر بالحرج أمامهم من ثيابي وكلامي وعقلي... ذلك البيت الموحش... وسط البساتين الكئيبة التي تقرضها المباني يوما بعد يوم وأنا كمن يعيش في ورشة عمار وغبار... هناك حيث الناس عدوانيون لم أتمكن يوما من التعايش معهم»(27). المفارقة واضحة بين زين والحاجة حياة في تقبل المكان الجديد الذي وجدت فيه الحاجة حياة الغربة في كل شيء، فهي تعيش من خلاله بقيود وضعها المجتمع الجديد في الثياب والكلام والتفكير، فهي تحس بالعدائية وتشتاق لأصالتها وحريتها التي تنشدها في بيتها القديم حيث: «يشكل البيت مجموعة من الصور التي تعطي للإنسانية براهين وأوهام التوازن ونحن نعيد تخيل حقيقتها باستمرار ولتمييز كل هذه الصور يعني أن نصف روح البيت، إنها تعني وضع علم نفسي حقيقي للبيت»(28). وهكذا تكون العلاقة بين المكان والإنسان علاقة حميمية يدل كل منها على الآخر ويبادله ما عنده بلا حدود، فالمكان لا يكتسب حقيقته إلا من خلال اختراقه والوصول إلى ماهيته. فكان بناؤه ناتجا عن أبعاد الشخصية الروائية وإحساسها بوجودها في المكان.
ج- شعرية المكان(بيت بلودان) وجمالياته:
كما يظهر بيت آخر كإطار ليضم أحداث الرواية وهو المكان الذي يشمل في امتداده الواسع المكان الرئيسي دمشق، وبناؤه تجلى في سياق حكي التغيير الذي طرأ على مسار الأحداث.
إنه بيت الصيفية، المكان الذي يتحقق فيه التواصل الروحي مع الطبيعة، بألوانها الموحية بالهدوء والسكينة، سواء أكان هذا في مزرعة الريحانية أم في بلودان في البيت الذي استأجروه لقضاء العطلة الصيفية:«استيقظت زين على الصوت الجميل لوالدها وهو يؤذن أذان الصبح في بلودان، في البيت الذي استأجرته الأسرة خلال فصل الصيف»(29). المكان يعطي للشخصيات التواصل الدائم بتلك العلاقة السرية التي تتولد بينهما باحثين من خلاله عن النشوة والسحر الذي يغمرها مع كل المقومات التي تمدها بها:«تأملت زين الشمس وهي تلون بالذهب أطراف أشجار اللوز والتين والجوز ويظل ما تبقى من جسدها داكن الخضرة... هل للأشجار قلب ينبض ؟ هل الريح وحدها تحرك الشجر أم أنه يتحرك من تلقاء نفسه؟ »(30)
إن بنية هذا المكان ساهمت في اكتشاف أسرار الطبيعة والبحث فيها عن حرية من نوع آخر تلتقي فيها البساطة مع العفوية، يكون تحقيق الذات فيها بتجاوز الآخر: «النبع من جديد... النبع إياه الإغراء اللامتناهي المطلق المحرم، الحر اللاهب. الإرهاق. الشفاه الجافة. الماء الفضي بحصاه المسحورة ماسا،... تتأمل الماء،و للمرة الأولى تغمرها مشاعر متناقضة تنوء تحتها: تريد الماء،و لا تريده... تشتهي وترفض داخل لحظة واحدة»(31) من المكان ينبعث السحر الداخلي للشخصية أين تسقط تصوراتها عليه فتحس فيه بمتناقضات عديدة.
إن هذه البنيات الصغرى هي عبارة عن قطع صغيرة مشكلة للبنية الكبرى والممثلة في اللوحة الفسيفسائية الدمشقية فالانطلاق كان من الرؤية العامة في بنائها وتجزئتها إلى وحدات متعددة. فتلاحم هذه الأماكن وتباينها سمح للشخصيات بأن تخترقها وتكتشف كنهها بعيدا عن تحديد المسافات بل بانصهار كل العناصر المشكلة لها.
الهوامش:
1- ابن منظور، لسان العرب، مادة مكن، ج5، ص114.
2 - عبد المالك مرتاض، في نظرية الرواية،بحث قي تقنيات السرد،المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت1998، ص 141.
3 - حميد لحميداني،بنية النص السردي،المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 1991، ص75، 76.
4 - حميد لحميداني، المرجع السابق، ص62.
5- عبد المالك مرتاض، أي دراسة سيميائية تفكيكية لقصيدة أين ليلاي لمحمد العيد آل الخليفة، ديوان المطبوعات. الجامعية، الجزائر،1982، ص102.
6- G.Genette. Figure2. Edition de Seuil.Paris.1969. P43
7- سيزا قاسم، بناء الرواية،(دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ) الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1984، ص75.
8 - سيزا قاسم،،المرجع السابق، ص74.
9 -غادة السمان،الرواية المستحيلة، فسيفساء دمشقية، منشورات غادة السمان، بيروت، ط1، 1997، ص 11.إلى الهامش رقم 17 المصدر نفسه والصفحات على الترتيب التالي:ص 11،ص12، ص 161، ص 181، ص 312، ص 25، ص 26 و72، ص 30 و31.
18 - محمد سويرتي، النقد البنيوي والنص الروائي، إفريقيا الشرق،ج 2،الدار البيضاء،1991،ص 77.
19-غادة السمان، فسيفساء دمشقية، ص 31. إلى الهامش رقم27 المصدر نفسه والصفحات على الترتيب التالي: ص 32، ص32، ص36 و37، ص 307، ص 392، ص 394، ص 408 و409، ص 304 و305.
28- غاستون باشلار، جماليات المكان، ت: غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشروالتوزيع، بيروت، ط3، 1987، ص 45
29- غادة السمان،فسيفساء دمشقية، ص 153
31،30- المصدر السابق، ص 161، ص 162.
زهيرة بنيني
كاتبة من الجزائر