في الطريق إلى دمشق:
قلبي يسابق السيارة التي تقلني من عمّان إلى دمشق بعد أن تأجلت زيارتي مرات بسبب الطقس، بدأ الشتاء متأخرا، أمضيت أسبوعا و نظري معلق في السماء وأذني تتابع النشرات الجوية، فقد استجاب الله لصلوات الاستسقاء، ورحم عباده أخيرا، بعد يأس وخوف من نقص المياه وجفاف مبكر.
السيارة تطوي المسافات، وأنا أطوي صفحات من رواية، وأسلّي نفسي لأبعد شبح الترقب والقلق الذي لازم أيامي الأخيرة في انتظار الموعد المنشود.
خطر ببالي جمع عناوين وأسماء كتب رافقت سنوات عمري، واحتلت ركنا من ذاكرتي لا ينسى، لأستعيد بعض الهدوء النفسي والخوف الذي لازمني وكأنني تلميذة تخوض امتحانا لأول مرة..!
خرجت حافية القدمين من "(الـ)مستنقع" الطين، صعدت "فوق الجبل وتحت الثلج "نحو" المرفأ البعيد"، وخيوط من "الشمس في يوم غائم" في طقس متقلب، فلا أدري إن كان "الربيع أوالخريف". تمنيت لو كنت "حمامة زرقاء في السحب" لتحط فوق أغصان شجرة في شارع "المصابيح الزرق"، وتبحث في لحظة "الرحيل عند الغروب" عن "بقايا صور"، وتنقب في الماضي عن أسباب "مأساة ديمتريو"، و تنير بـ.."ولاعة " دربها الطويل، تحدث نفسها "كيف حملتُ القلم".
هل سأتقن كتابة "حكاية بحار" غاب كأوديسيوس، وأبحر دوني، وقضى ليالي العشق بين "الشراع والعاصفة"، ترى سيعود غانما مزودا بـ"القطاف"، و يسكنني عش الحب الدافىء و يحرسني، فأنا أخاف" الثلج "الذي" يأتي من النافذة"، ويمسح بيده جراح "عاهرة ونصف مجنون"؟
***
حنا مينه يقارع الزمن الأعور:
فجأة تبخرت الأفكار، توارت الحروف، ووجدتني أقرع الباب بقلبي الراجف قبل يدي المرتعشة وأخطو عتبة بيت "رجل شجاع "، شغل عقول الأدباء وسلب قلوب القراء لعقود طويلة.. لم أكن أحمل أقلاما، أوراقا، وآلة تسجيل.. كل ما أحمله ذكريات لقاءات مهنية سابقة، مرت عليها سنوات، وأبقت الود بيني وبين الروائي السوري الكبير "حنا مينه".
لماذا حين كنت أبحث عن العنوان كان بصري يذهب نحو "فلل" فخمة أو بيت مستقل بحديقة غناء؟ هل نسيت/ تناسيت أنه بسيط، متواضع في كل شيء، حتى في سكنه؟
عقربا ساعتي يشيران إلى أنني وصلت على الموعد، لكنه غافٍ الآن كطفل وديع، وطلبت من خادمته اللطيفة أن تدعه يستريح..
بدأت في التقاط صور غرفة الجلوس بعيني، ونفضت غبار تعب الفكر وأفسحت الطريق أمام مركز أعصاب الدماغ ليضخ دماء جديدة، ويعطي إشارات منشطة تمنحني القدرة على تتبع كل كلمة، سكنة، وحركة من أستاذنا الكبير..
أثناء نظرات الفضول لاكتشاف غرفة الجلوس انضم إلي كاتب جاء للزيارة والاطمئنان، تعارفنا بسرعة وتناقشنا في الأدب والصحافة..
خيل إليّ بعد أن قرأت كغيري وصية الروائي المشهورة أني سألتقي برجل مقعد، عابس ، يائس، قليل الكلام.. لكن خطواته القادمة من الداخل ثابتة، هادئة، وصوته يحادث الخادمة خافت، رقيق، وحين أطل نحونا مبتسما.. فوجئت..!
وجه نضر بلا تجاعيد، والجسد.. لشيخ جليل أنيق الملبس.. "روب" شتوي زيتي اللون وبيجامة رمادية.. وشعر كندف الثلج مسترسل.
تبادلنا التحية واحتضن يدي.. فوددت لو تنتقل عدوى الكتابة السحرية من كفه إلى كفي..
استدار إلى صديقه يرحب به، وحين قال: "اجلسي يا ابنتي" باللهجة السورية المحببة.. أحسست بأن العالم أسرة، والكلمة بيت دافئ وأب حنون، لم التفت إلا بعد لحظات،
وهو يسألني عن رحلتي وعن عمّان.. نحتسي القهوة يشعل سيجارة ويقول: طفت العالم، زرت كل البلاد، مارست كل أنواع اللهو، ولم أدمن في حياتي لا ميسرا،لا كحولا، ولا نساء.. إلا السيجارة، فهي الوحيدة التي تستعبدني وتلازمني..
تحدثنا عن الأمراض وآلام الظهر التي انتابته فجأة بعد ممارسة الرياضة الصباحية، ثم تحول للحديث عن عموده الأسبوعي في جريدة تشرين كل يوم ثلاثاء ويمد الصحيفة بعدة مقالات سلفا، لكنهم نشروا -ذلك- اليوم أيضا مقالا بعنوان: "نعم، نحن في الزمن الأعور"، وذلك سيضطره إلى الكتابة، وهو يريد أن يرتاح و يريح عقله، الذي يعمل حتى في النوم...
***
حين أستعيد تلك السهرة أعجز عن تلخيصها في سطور قصيرة موجزة، فقد كانت ساعات
بألف ليلة وليلة.. بها القصة، النكتة، الحكمة، التجربة، النصيحة والعبرة..
حاولت إعطاء كل ساعة وصفا مميزا..!
الساعة الأولى حديث عام، الثانية عن الأسفار والرحلات، الثالثة عن المرأة والحب، الرابعة عن القصص والروايات، الخامسة عن مشاريعي، والسادسة شجون، شعر، وذكريات..
ورقيّ في زمن الميديا:
أحد الأصدقاء الكتّاب رأى بأن الكتابة عن لقائي بـ"حنا مينه" لا جديد فيها، فقد استنفِد الحديث عنها.!
أجبته: من غير المنطقي ألا أكتب عن الجانب الآخر وألقي الضوء على ذلك الروائي العظيم الذي بلغ السادسة والثمانين، ومازال يتمتع بذاكرة قوية وذكاء ثاقب، وكفاءة في إدارة الحوار.. وهو ذاته المبدع الذي أعيد إلى البيت بحالة اختناق وغيبوبة أثناء احتشاد القراء لتوقيع إحدى رواياته، و تحاصره اليوم الاتصالات الهاتفية لإجراء مقابلات وعروض تحويل رواياته إلى مسلسلات تلفزيونية، وبأي سعر يريد.
من حق قارئ "حنا مينه" معرفة كيف يفكر الرجل ويعيش وأي جديد يكتب.فهو يقول: "أنا حنا مينه لست خريج معاهد وجامعات بل خريج منافٍ وسجون.. خرجت من الفقر الأسود إلى الفقر الأبيض.. أمضيت عمري أدافع عن مبدأ وقضية .. لا أسعى إلى شهرة ومال، ولا يمكن أن ألخص وأختصر حياتي الأدبية و السياسية في ساعة بث على الهواء أو حوار سريع..!".
عن العولمة والتكنولجيا الحديثة له رأي آخر: "هو اختراع مدهش يربطك مع العالم ويدخلك في أجواء المعرفة بوقت قصير، لا أمتلك حاسوبا ولا أريده عندي، لا بفعل الكِبر لكني أفضل القلم والورقة، ولمس أي كتاب وصحيفة بيدي لتواصل أجمل وأقرب..".
***
جرح حمامة زرقاء:
لم أكن أعرف أني سأفتح جراح قلب، وأعيد ذكرى أليمة حين أبديت إعجابي وانحيازي إلى روايته "حمامة زرقاء في السحب "، وأن الروائية التشيلية "إيزابيل الليندي" قد كتبت أيضا عن تجربتها ومعاناتها من مرض وموت ابنتها "باولا".. أجهش بالبكاء، يتحدث عن ابنته الشابة التي صارعت المرض طويلا وهو يلبي طلباتها في تعلم العزف على "الأورغ" والرسم والكتابة، ويخفي عنها الحقيقة كي تبقى على الأمل .
انتابني الحرج، واعتذرت وأنا أرى دموعه تنهمر، ليضيف: "عائلتي كل ما أملك ..
منحت ابني وبناتي الثلاث كل ما أستطيع، وهأنا أعتني بزوجتي المريضة منذ سنوات طويلة، وأقوم على خدمتها ،لا أفارقها أبدا.".
- يقال بأن المرأة -غالبا- في رواياتك.. الجميلة، الثرية، المتكبرة شخصية حقيقة بعيدة المنال، فجسدتها في الكتابة..!
التفت إلي ضاحكا: "يا ابنتي، حنا مينه لا يُحب ولا يسكر، المرأة في نظري شُجاعة ومُغامرة أكثر من الرجل، ولديها القدرة على المبادرة الأولى فهي من تجرأت وغامرت، وأقنعت آدم بقطف التفاحة والنزول إلى الأرض لتكتشفها، وهي من سارت إلى جانب الرجل وتأبطت ذراعه أول مرة ومن اخذته إلى السينما والمطاعم والحفلات، لم تخش المجتمع ولم تتراجع أمام أهدافها.. أما الحب فهو إحساس عميق وعاطفة نبيلة، يصعب تلخيصها بكلمات، وحين سئل أمير الشعراء أحمد شوقي : ماهو الحب؟ أجاب في قصيدة "سلوا قلبي" :
سَلوا قَلبي غَداةَ سَلا وَثابا
لَعَلَّ عَلى الجَمالِ لَهُ عِتابا
وَيُسأَلُ في الحَوادِثِ ذو صَوابٍ
فَهَل تَرَكَ الجَمالُ لَهُ صَوابا
وَكُنتُ إِذا سَأَلتُ القَلبَ يَومًا
تَوَلّى الدَمعُ عَن قَلبي الجَوابا
وَلي بَينَ الضُلوعِ دَمٌ وَلَحمٌ
هُما الواهي الَّذي ثَكِلَ الشَبابا
" لحنا مينه أسلوب جميل في إلقاء القصائد و لفظ الكلمات، يعطي كل حرف قوة ونغمة وإحساسا، فتنسى أنه روائي تظنه ولد شاعرا.. ولديه رصيد هائل من مخزون الشعر الجميل".
زمن الرواية:
الساعة الأصعب في جلستنا تلك التي حدثته فيها عن قراري بإصدار مجموعتي القصصية الأولى، و موعدي البيروتي مع احدى دور النشر.
قال: منذ متى توجهت إلى كتابة القصة "الرواية "؟
أجبته: لا أكتب روايات بل قصصا قصيرة وقصصا قصيرة جدا.. وأكتب الشعر والخاطرة أيضا، إضافة إلى المقالة بعد أن ابتعدت عن العمل الصحفي الميداني..
- هلا اخترت قصة وقرأتها، كي أعطيك رأيي؟
لحسن الحظ أنني كنت أحمل مخطوطة المجموعة، وبدأت في القراءة بصوت أقرب إلى الهمس، ولم أكد أنهي الصفحة الأولى حتى سمعته يقول بصوت نزق وعصبي:
- توقفي! هذه ليست قصة، هذه شعر منثور.. أنا رجل متذوق للرواية..!
- ولكنها قصة، وتسمى في وقتنا الحالي القصة القصيرة، وهي السائدة الآن، إضافة الى القصة القصيرة جدا، وغالبية الأدباء يكتبون بذات الطريقة..
- أنا روائي وأمضيت عمري أكتب روايات طويلة بشخصيات عديدة ولكل شخصية ملامح ووصف وحياة أغوص فيها وأضعها في الكتاب حقيقية.. وحتى لا تفهمينني خطأ.. فلا أقصدك في كتابتك، لكنني لا أعترف بهذه الموجة السائدة للقصة، لا أستسيغ قراءتها مهما كانت متكاملة.. ربما أصبح هناك فاصل وفجوة بين جيلي والجيل الحالي السريع الرتم، فحاجز العمر له دور بيني وبين كل جديد ومتغير.
أفضل لو تتأني وتتجهي للرواية فهي التي تدوم .. حتى لو كانت قصصك تلاقي الصدى والإقبال في النشر..
- أحترم رأيك، وتهمني نصائحك، لكنني لن اتجه إلى كتابة الرواية حاليا، فهي تحتاج إلى النفس الطويل، وأنا ما زلت في بداية الطريق..
-إذا، لا تتسرعي في طباعة المجموعة..
- أخاف أن أموت، وأريد أن أترك ذكرى للأحبة بعد مماتي..
يضحك ويطلب من الخادمة إحضار ورقة وقلم وهو يقول: "أمامك المستقبل وأتـنبأ لك بأيام جميلة!".
تُحضر الخادمة القلم والورقة، ويجلس بجانبي يكتب (لا يستعمل نظارة للكتابة)، ويلفنا الصمت..
خط منمق جميل وكلمات رقيقة قرأها على مسامعي، ثم أضاف :" لن أكتب لك مقدمة لمجموعتك القصصية، ولكن احتفظي بتلك السطور قد تفيدك بعد رحيلي.".
- طول العمر لك، فأنت -ماشاء الله- تتمتعين بحيوية وروح لا يملكها الشباب..
- أحيانا، أتمنى -يا ابنتي- أن أنام ولا أستيقظ أبدا.. كي يرتاح دماغي من التفكير بالكتابة، فلدي الكثير.. الكثير لم أكتبه بعد.. "عاهرة ونصف مجنون " آخر رواية وكنت أود كتابة جزء ثان ولكني توقفت ..الرواية هي رؤية حقيقية لمجتمع الفقر، حيث يخرج إلى المجتمع آلاف
الـ"لورانسـ (ـات)" "، يحملن الحقد والكراهية للأسرة، ويمارسن المهنة الأسهل: "بيع الجسد"..!
-هل كنت تود لو رشحت إحدى رواياتك لجائزة بوكر أو نوبل.. فقد طرح اسمك عدة مرات في سنوات سابقة لنيل الجائزة؟
-القارئ والمبيعات هي الجائزة الكبرى.. لا أسعى إلى جائزة أو وسام وتكريم، أكتب لنفسي أولا، و للقارئ وأشعر بالرضى حين أرى الشباب يقرأون لحنا مينه..
***
كلما استأذنت في الذهاب ليخلد إلى الراحة.. قال: "الوقت مازال مبكرا، فما أطال النوم عمرا، ولا قصر في الأعمار طول السهر..! وأنا أستمتع بالجلسة والحديث معك.. أنتِ محدثة لبقة، ذكية، لماحة، مثقفة، بسيطة ولكن عيبك الوحيد طيبتك، وفي هذا الزمن "الطيبة" ستجلب لك التعاسة.. خُذي الدنيا غلابا، تمتعي بحياتك، حققي رغباتك، لا تتراجعي عن قناعاتك وطموحاتك، لا تكوني أسيرة مشكلة، حدث، أو شخص.".
- إطراء جميل وشهادة أفخر بها حين تأتي من أستاذ كبير، لكن الطيبة صفة ورثتها وجزء مني،هكذا تربيت ونشأت. أصدق الناس، وأسامح وأجد المبررات والأعذار و(أتعامل معهم بأصلي)..!
كسندريلا حين تدق الساعة معلنة منتصف الليل، أودعه ونلتقط بعض الصور التذكارية، وأعده بزيارة قريبة.
- "البيت بيتك " مرحبا بك في كل وقت..
كنز الذكريات:
أحمل في جعبتي كنزا من الذكريات، وصورة لطفل في التاسعة من العمر يتسول في المقابر، يعمل حمالا، صيادا، حدادا، نجارا ليؤمن كسرة خبز لعائلة كبيرة، أحلامه تطاول السماء، أحبَّ الأرض والوطن، دافع عن قضية أمة، نحت في الصخر ولم يتوقف عند حد، حمل القلم الذي أحبه وسار على درب الأدب، عاشر الملوك والصعاليك، رافق الصالح والطالح، شاهد أسماء تصعد وأخرى تتعثر، لم يغضب من تلميذ مد له يد المساعدة أصابه الغرور تخلى عنه، لم يحزن من أقلام حين كبرت هجته أو تناسته، لم تغيره الشهرة "الزمن هو من تغير"، ولم تبدل معدنه الأوسمة والشهادات التقديرية، يعيش بضمير حي وقلب أبيض وحب الناس.
قصص، أسماء، وأحداث رواها ورويتها وددت الكتابة عنها هنا.. لكن هناك كلام يباح، وسر يُكتم، وكلام قد أعود لأكتبه ذات يوم..!
أمدّ يدي مصافحة، أتمنى له رحلة استجمام موفقة إلى اللاذقية يبتعد فيها عن رنين الهاتف، ضجيج الأصدقاء وملاحقة الصحافة.. آملة أن يعود بفكرة رواية جديدة، تضاف إلى كنوز رواياته.. يتلهف عليها القراء من قبل أن تكتب..
وإلى جانب هذا الصرح الأدبي المميز أترك أمانة.. قلبي وعقلي.. لأعود وأكمل ساعات أخرى بها المزيد من الحكايا والخفايا.
دمشق 4-3-2009
عمّان 1-4- 2009
محاسن الحمصي
كاتبة من الأردن
عقربا ساعتي يشيران إلى أنني وصلت على الموعد، لكنه غافٍ الآن كطفل وديع، وطلبت من خادمته اللطيفة أن تدعه يستريح..
بدأت في التقاط صور غرفة الجلوس بعيني، ونفضت غبار تعب الفكر وأفسحت الطريق أمام مركز أعصاب الدماغ ليضخ دماء جديدة، ويعطي إشارات منشطة تمنحني القدرة على تتبع كل كلمة، سكنة، وحركة من أستاذنا الكبير..
أثناء نظرات الفضول لاكتشاف غرفة الجلوس انضم إلي كاتب جاء للزيارة والاطمئنان، تعارفنا بسرعة وتناقشنا في الأدب والصحافة..
خيل إليّ بعد أن قرأت كغيري وصية الروائي المشهورة أني سألتقي برجل مقعد، عابس ، يائس، قليل الكلام.. لكن خطواته القادمة من الداخل ثابتة، هادئة، وصوته يحادث الخادمة خافت، رقيق، وحين أطل نحونا مبتسما.. فوجئت..!
وجه نضر بلا تجاعيد، والجسد.. لشيخ جليل أنيق الملبس.. "روب" شتوي زيتي اللون وبيجامة رمادية.. وشعر كندف الثلج مسترسل.
تبادلنا التحية واحتضن يدي.. فوددت لو تنتقل عدوى الكتابة السحرية من كفه إلى كفي..
استدار إلى صديقه يرحب به، وحين قال: "اجلسي يا ابنتي" باللهجة السورية المحببة.. أحسست بأن العالم أسرة، والكلمة بيت دافئ وأب حنون، لم التفت إلا بعد لحظات،
وهو يسألني عن رحلتي وعن عمّان.. نحتسي القهوة يشعل سيجارة ويقول: طفت العالم، زرت كل البلاد، مارست كل أنواع اللهو، ولم أدمن في حياتي لا ميسرا،لا كحولا، ولا نساء.. إلا السيجارة، فهي الوحيدة التي تستعبدني وتلازمني..
تحدثنا عن الأمراض وآلام الظهر التي انتابته فجأة بعد ممارسة الرياضة الصباحية، ثم تحول للحديث عن عموده الأسبوعي في جريدة تشرين كل يوم ثلاثاء ويمد الصحيفة بعدة مقالات سلفا، لكنهم نشروا -ذلك- اليوم أيضا مقالا بعنوان: "نعم، نحن في الزمن الأعور"، وذلك سيضطره إلى الكتابة، وهو يريد أن يرتاح و يريح عقله، الذي يعمل حتى في النوم...
***
حين أستعيد تلك السهرة أعجز عن تلخيصها في سطور قصيرة موجزة، فقد كانت ساعات
بألف ليلة وليلة.. بها القصة، النكتة، الحكمة، التجربة، النصيحة والعبرة..
حاولت إعطاء كل ساعة وصفا مميزا..!
الساعة الأولى حديث عام، الثانية عن الأسفار والرحلات، الثالثة عن المرأة والحب، الرابعة عن القصص والروايات، الخامسة عن مشاريعي، والسادسة شجون، شعر، وذكريات..
ورقيّ في زمن الميديا:
أحد الأصدقاء الكتّاب رأى بأن الكتابة عن لقائي بـ"حنا مينه" لا جديد فيها، فقد استنفِد الحديث عنها.!
أجبته: من غير المنطقي ألا أكتب عن الجانب الآخر وألقي الضوء على ذلك الروائي العظيم الذي بلغ السادسة والثمانين، ومازال يتمتع بذاكرة قوية وذكاء ثاقب، وكفاءة في إدارة الحوار.. وهو ذاته المبدع الذي أعيد إلى البيت بحالة اختناق وغيبوبة أثناء احتشاد القراء لتوقيع إحدى رواياته، و تحاصره اليوم الاتصالات الهاتفية لإجراء مقابلات وعروض تحويل رواياته إلى مسلسلات تلفزيونية، وبأي سعر يريد.
من حق قارئ "حنا مينه" معرفة كيف يفكر الرجل ويعيش وأي جديد يكتب.فهو يقول: "أنا حنا مينه لست خريج معاهد وجامعات بل خريج منافٍ وسجون.. خرجت من الفقر الأسود إلى الفقر الأبيض.. أمضيت عمري أدافع عن مبدأ وقضية .. لا أسعى إلى شهرة ومال، ولا يمكن أن ألخص وأختصر حياتي الأدبية و السياسية في ساعة بث على الهواء أو حوار سريع..!".
عن العولمة والتكنولجيا الحديثة له رأي آخر: "هو اختراع مدهش يربطك مع العالم ويدخلك في أجواء المعرفة بوقت قصير، لا أمتلك حاسوبا ولا أريده عندي، لا بفعل الكِبر لكني أفضل القلم والورقة، ولمس أي كتاب وصحيفة بيدي لتواصل أجمل وأقرب..".
***
جرح حمامة زرقاء:
لم أكن أعرف أني سأفتح جراح قلب، وأعيد ذكرى أليمة حين أبديت إعجابي وانحيازي إلى روايته "حمامة زرقاء في السحب "، وأن الروائية التشيلية "إيزابيل الليندي" قد كتبت أيضا عن تجربتها ومعاناتها من مرض وموت ابنتها "باولا".. أجهش بالبكاء، يتحدث عن ابنته الشابة التي صارعت المرض طويلا وهو يلبي طلباتها في تعلم العزف على "الأورغ" والرسم والكتابة، ويخفي عنها الحقيقة كي تبقى على الأمل .
انتابني الحرج، واعتذرت وأنا أرى دموعه تنهمر، ليضيف: "عائلتي كل ما أملك ..
منحت ابني وبناتي الثلاث كل ما أستطيع، وهأنا أعتني بزوجتي المريضة منذ سنوات طويلة، وأقوم على خدمتها ،لا أفارقها أبدا.".
- يقال بأن المرأة -غالبا- في رواياتك.. الجميلة، الثرية، المتكبرة شخصية حقيقة بعيدة المنال، فجسدتها في الكتابة..!
التفت إلي ضاحكا: "يا ابنتي، حنا مينه لا يُحب ولا يسكر، المرأة في نظري شُجاعة ومُغامرة أكثر من الرجل، ولديها القدرة على المبادرة الأولى فهي من تجرأت وغامرت، وأقنعت آدم بقطف التفاحة والنزول إلى الأرض لتكتشفها، وهي من سارت إلى جانب الرجل وتأبطت ذراعه أول مرة ومن اخذته إلى السينما والمطاعم والحفلات، لم تخش المجتمع ولم تتراجع أمام أهدافها.. أما الحب فهو إحساس عميق وعاطفة نبيلة، يصعب تلخيصها بكلمات، وحين سئل أمير الشعراء أحمد شوقي : ماهو الحب؟ أجاب في قصيدة "سلوا قلبي" :
سَلوا قَلبي غَداةَ سَلا وَثابا
لَعَلَّ عَلى الجَمالِ لَهُ عِتابا
وَيُسأَلُ في الحَوادِثِ ذو صَوابٍ
فَهَل تَرَكَ الجَمالُ لَهُ صَوابا
وَكُنتُ إِذا سَأَلتُ القَلبَ يَومًا
تَوَلّى الدَمعُ عَن قَلبي الجَوابا
وَلي بَينَ الضُلوعِ دَمٌ وَلَحمٌ
هُما الواهي الَّذي ثَكِلَ الشَبابا
" لحنا مينه أسلوب جميل في إلقاء القصائد و لفظ الكلمات، يعطي كل حرف قوة ونغمة وإحساسا، فتنسى أنه روائي تظنه ولد شاعرا.. ولديه رصيد هائل من مخزون الشعر الجميل".
زمن الرواية:
الساعة الأصعب في جلستنا تلك التي حدثته فيها عن قراري بإصدار مجموعتي القصصية الأولى، و موعدي البيروتي مع احدى دور النشر.
قال: منذ متى توجهت إلى كتابة القصة "الرواية "؟
أجبته: لا أكتب روايات بل قصصا قصيرة وقصصا قصيرة جدا.. وأكتب الشعر والخاطرة أيضا، إضافة إلى المقالة بعد أن ابتعدت عن العمل الصحفي الميداني..
- هلا اخترت قصة وقرأتها، كي أعطيك رأيي؟
لحسن الحظ أنني كنت أحمل مخطوطة المجموعة، وبدأت في القراءة بصوت أقرب إلى الهمس، ولم أكد أنهي الصفحة الأولى حتى سمعته يقول بصوت نزق وعصبي:
- توقفي! هذه ليست قصة، هذه شعر منثور.. أنا رجل متذوق للرواية..!
- ولكنها قصة، وتسمى في وقتنا الحالي القصة القصيرة، وهي السائدة الآن، إضافة الى القصة القصيرة جدا، وغالبية الأدباء يكتبون بذات الطريقة..
- أنا روائي وأمضيت عمري أكتب روايات طويلة بشخصيات عديدة ولكل شخصية ملامح ووصف وحياة أغوص فيها وأضعها في الكتاب حقيقية.. وحتى لا تفهمينني خطأ.. فلا أقصدك في كتابتك، لكنني لا أعترف بهذه الموجة السائدة للقصة، لا أستسيغ قراءتها مهما كانت متكاملة.. ربما أصبح هناك فاصل وفجوة بين جيلي والجيل الحالي السريع الرتم، فحاجز العمر له دور بيني وبين كل جديد ومتغير.
أفضل لو تتأني وتتجهي للرواية فهي التي تدوم .. حتى لو كانت قصصك تلاقي الصدى والإقبال في النشر..
- أحترم رأيك، وتهمني نصائحك، لكنني لن اتجه إلى كتابة الرواية حاليا، فهي تحتاج إلى النفس الطويل، وأنا ما زلت في بداية الطريق..
-إذا، لا تتسرعي في طباعة المجموعة..
- أخاف أن أموت، وأريد أن أترك ذكرى للأحبة بعد مماتي..
يضحك ويطلب من الخادمة إحضار ورقة وقلم وهو يقول: "أمامك المستقبل وأتـنبأ لك بأيام جميلة!".
تُحضر الخادمة القلم والورقة، ويجلس بجانبي يكتب (لا يستعمل نظارة للكتابة)، ويلفنا الصمت..
خط منمق جميل وكلمات رقيقة قرأها على مسامعي، ثم أضاف :" لن أكتب لك مقدمة لمجموعتك القصصية، ولكن احتفظي بتلك السطور قد تفيدك بعد رحيلي.".
- طول العمر لك، فأنت -ماشاء الله- تتمتعين بحيوية وروح لا يملكها الشباب..
- أحيانا، أتمنى -يا ابنتي- أن أنام ولا أستيقظ أبدا.. كي يرتاح دماغي من التفكير بالكتابة، فلدي الكثير.. الكثير لم أكتبه بعد.. "عاهرة ونصف مجنون " آخر رواية وكنت أود كتابة جزء ثان ولكني توقفت ..الرواية هي رؤية حقيقية لمجتمع الفقر، حيث يخرج إلى المجتمع آلاف
الـ"لورانسـ (ـات)" "، يحملن الحقد والكراهية للأسرة، ويمارسن المهنة الأسهل: "بيع الجسد"..!
-هل كنت تود لو رشحت إحدى رواياتك لجائزة بوكر أو نوبل.. فقد طرح اسمك عدة مرات في سنوات سابقة لنيل الجائزة؟
-القارئ والمبيعات هي الجائزة الكبرى.. لا أسعى إلى جائزة أو وسام وتكريم، أكتب لنفسي أولا، و للقارئ وأشعر بالرضى حين أرى الشباب يقرأون لحنا مينه..
***
كلما استأذنت في الذهاب ليخلد إلى الراحة.. قال: "الوقت مازال مبكرا، فما أطال النوم عمرا، ولا قصر في الأعمار طول السهر..! وأنا أستمتع بالجلسة والحديث معك.. أنتِ محدثة لبقة، ذكية، لماحة، مثقفة، بسيطة ولكن عيبك الوحيد طيبتك، وفي هذا الزمن "الطيبة" ستجلب لك التعاسة.. خُذي الدنيا غلابا، تمتعي بحياتك، حققي رغباتك، لا تتراجعي عن قناعاتك وطموحاتك، لا تكوني أسيرة مشكلة، حدث، أو شخص.".
- إطراء جميل وشهادة أفخر بها حين تأتي من أستاذ كبير، لكن الطيبة صفة ورثتها وجزء مني،هكذا تربيت ونشأت. أصدق الناس، وأسامح وأجد المبررات والأعذار و(أتعامل معهم بأصلي)..!
كسندريلا حين تدق الساعة معلنة منتصف الليل، أودعه ونلتقط بعض الصور التذكارية، وأعده بزيارة قريبة.
- "البيت بيتك " مرحبا بك في كل وقت..
كنز الذكريات:
أحمل في جعبتي كنزا من الذكريات، وصورة لطفل في التاسعة من العمر يتسول في المقابر، يعمل حمالا، صيادا، حدادا، نجارا ليؤمن كسرة خبز لعائلة كبيرة، أحلامه تطاول السماء، أحبَّ الأرض والوطن، دافع عن قضية أمة، نحت في الصخر ولم يتوقف عند حد، حمل القلم الذي أحبه وسار على درب الأدب، عاشر الملوك والصعاليك، رافق الصالح والطالح، شاهد أسماء تصعد وأخرى تتعثر، لم يغضب من تلميذ مد له يد المساعدة أصابه الغرور تخلى عنه، لم يحزن من أقلام حين كبرت هجته أو تناسته، لم تغيره الشهرة "الزمن هو من تغير"، ولم تبدل معدنه الأوسمة والشهادات التقديرية، يعيش بضمير حي وقلب أبيض وحب الناس.
قصص، أسماء، وأحداث رواها ورويتها وددت الكتابة عنها هنا.. لكن هناك كلام يباح، وسر يُكتم، وكلام قد أعود لأكتبه ذات يوم..!
أمدّ يدي مصافحة، أتمنى له رحلة استجمام موفقة إلى اللاذقية يبتعد فيها عن رنين الهاتف، ضجيج الأصدقاء وملاحقة الصحافة.. آملة أن يعود بفكرة رواية جديدة، تضاف إلى كنوز رواياته.. يتلهف عليها القراء من قبل أن تكتب..
وإلى جانب هذا الصرح الأدبي المميز أترك أمانة.. قلبي وعقلي.. لأعود وأكمل ساعات أخرى بها المزيد من الحكايا والخفايا.
دمشق 4-3-2009
عمّان 1-4- 2009
محاسن الحمصي
كاتبة من الأردن