منذ صدور الديوان الأخير للشاعر المبدع بنسالم الدمناتي إلى اليوم، لم أعثر فيما أتصفح من دراسات ومجلات وملاحق ثقافية لجرائدنا على ما يمكن أن ينصف هذا المبدع، أو يجلي الدور الطلائعي الذي نهض به من أجل إرساء معالم القصيدة المغربية الحديثة والمعاصرة.
وهذا لعمري جحود من طرف نقادنا لا أجد له من مبرر سوى آفة النسيان التي ألمح إليها الدمناتي في ديوانه: "واحة النسيان".
نعم، أنا أحترم مواقف الشاعر وقناعاته حين يفضل أن يبقى بمنآى عن الأضواء، معتكفا في محراب إبداعه متمسكا بخجل الناسك سابحا في مملكة الجن – على حد تعبيره في قصيدة: "مأدبة الأفعال".
إلا أن فضيلة الاعتراف بمن صنعوا مجد القصيدة المغربية الحديثة دين يجب أن يرد إلى أصحابه – وإن جاء بعد فوات الأوان-.
من هذا المنطلق أرى أن تكريم صاحب مأدبة الأفعال والذهب الشفاف واللهيب الأحمر، الشاعر الموهوب الذي اكتوى بأوجاع آلام الحطيئة وأحزان كامب ديفيد، إنما هو امتنان ووفاء لمن ظل معتكفا في محراب مملكة الشعر يمتح من وادي عبقر طيلة خمسة عقود من الزمن ويزيد.
إن تكريم المتمسك بخجل الناسك؛ إنما هو دين كان على أعناق أجيال فتقت وعيها على أسرار الكتابة الشعرية حين كان بنسالم الدمناتي معلمها وأستاذها ومرشدها ومربيها بثانوية: "النهضة" في الحاضرة الإسماعيلية، قبل أن يرحل عنها ناشدا رحمة الله في أرضه الواسعة.
ولا بأس إن جاء هذا التكريم متأخرا بعدما بلغت شمسه عرض الحائط. وهذه مناسبة لنا جميعا أيها الإخوة الحاضرون كي نسأل الباري عز وجل أن ينعم عليه بموفور الصحة والعافية حتى يبقى لنا منارة نهتدي بها في خضم هذا الزمن الجاحد الكبير.
إن تكريمك اليوم أيها المفتون بفوانيس الفصحى- بمناسبة حلول اليوم العالمي للشعر- إنما هو تكريم لمن أعلن فروض الغربة والتشرد في ملكوت البهاء.
ألست القائل في قصيدة: "مذكرة من غربة الحلاج":
غريب
قصتي حمراء.. يكتبها المدى
ويتيه في ركبانها الشفق
...
غريب ما أعاني في الفؤاد أراه في
وهو تكريم للظامئ من علل الشرب والمنخطف لنشوة الدهشة العالية؛ يرتوي من وادي الجن كي يطفئ الجمر الذي يهدد يناعة الوطن القومي المسروق.
ألست من قلت ذات يوم:
" ظامئ من علل الشرب
ودون الآهل في مكناس
حافات الكؤوس الحمر
أنى واجهتك انكسار المرايا
ساعيا أو واقفا بين طفلي و" كسرى"
تسمع الإنشاد
تستبدل أقداحا بأخرى
ليكن ثمة الشأن ممرا
لانسلال النشوة الكبرى على رحب العناق
ظامئ من علل الشرب
...
لوحة فيها شفوف الحزن فيها الخوف
فيها خجل الناسك والصعلوك والمعصر
والسابح في مملكة الجن." مأدبة الأفعال ص 35-36
نعم، بهذه الطريقة ينصاع بنسالم الدمناتي لغواية مملكته العذراء التي أغرته بأن يتفيأ ظلالها، فظل إبداعه فيها متواصلا طيلة عقود خمسة من الزمن، ومازال ناسكا في محراب هذه التجربة إلى الآن دون ملل أو سأم لأنه ابن "عبقر" البار الذي استطاع أن يجدد من نسغ رؤاه الشعرية، ويطور أدوات تعبيره الفنية، ويسهر على سبغ قصائده بالألق المتوهج، يشذب فروعها بروية، ويرعى أغصانها بحكمة كي تظل مورقة محتضنة للبراعم المتجددة بتجدد الفصول وانسياب الزمن. ومن تم يبدو ألق هذه التجربة الدمناتية مضيئا باستمرار، يستقطب الفراشات الزاهية الألوان كلما تقدم في تطوير تجربته الشعرية وكأنها مازالت في ريعان شبابها.
فهل تكريمك اليوم أيها الشاعر الموهوب؛ هو تكريم:
- للمبدع الذي نحت اللغة الرصينة وكشف خبايا الفصحى.
- أم للشاعر الذي ظل وفيا للإيقاع الدقيق الذي لا تخطئه أذن المتلقي.
- أم للأديب المحاور للتراث الشعري العربي والمتعاطف مع الرموز الأصيلة وتوظيف مواقفها الإيجابية في الحاضر.
- أم لأستاذ الأجيال الذي كرس حياته للدرس اللغوي والأدبي.
- أم للأخ الوالد والصديق الحامد...
إنه بكل تأكيد، تكريم لكل هذا المتعدد في شخصك جريا على مقولة المتصوفة: "خذني كما أنا في متخيلك، فليس فيه إلا إياي".
وهذا ما منحك أيها الشاعر الإنسان تجربة هائلة راكمتها منذ بداية الستينيات، ولا تزال إلى يومنا هذا راهبا في مملكة البهاء ترتل مزاميرك لوليمة الدنيا، حاملا تاريخك فوق ظهرك كالحطاب وأنت تتنقل كالنحل البري، تنفث عسلك المر، وتمضي.
أطال الله في عمرك، وأسبغ عليك نعمة الصحة والعافية، ودمت لنا مرفئا يدلنا على مواصلة المسير، وبوصلة تهدينا في خضم الموج المائج المغير، ومتعك بالهناء في ظل من أحببتهم وأحبوك.
والسلام عليكم أيها الحضور الكريم.
شهادة ألقيت في حفل تكريم الشاعر بمدينة مكناس بمناسبة إحياء ذكرى اليوم العالمي للشعر.