لأكثر من عشرة قرون، وشهرزاد تغمرنا بقصصها الساحرة الواحدة بعد الاخرى مثيرة اعجابنا ودهشتنا احيانا وحتى تعاطفنا كما لو انها قريبة جدا منا، وكل هذا دون ان نعرف من يقف وراء تلك القصص ولا فصول القصة الكاملة لشهرزاد وما وراء شخصيتها الغامضة من عوالم واسرار، كما لو كان ينبغي انتظار عميد الادب العربي طه حسين ليزيل الستار عن كل ذلك ويجعلنا نستمتع بحكاياتها المليئة بالحيوية والحكم والاخبار والغرائب وهي تقصها على شهريار.
ورواية "أحلام شهرزاد" هي من أجمل أعمال هذا الأديب المصري الكبير، وهي تروي ضمنا قصة تلك المرأة الرائعة شهرزاد ومن خلالها قصص ألف ليلة وليلة، بصورة غير مسبوقة بفضل اللغة الراقية والأسلوب الشيق والمعلومات المستفيضة التي يسردها. ورواية "احلام شهرزاد"، التي لم تُترجم إلى الفرنسية مطلقًا من قبل، تكتسب في ترجمتها هذه الصادرة مؤخرا عن منشورات "اورينت" (Orients Éditions)، اهمية خاصة من خلال محاولتها ابراز الدور الحضاري لهذه الشخصية النسوية اللامعة. وفيما يقدم لنا المستشرق الفرنسي الراحل أندريه ميكيل André Miquel نصًا وداعيا رائعا كمقدمة لهذا الكتاب الجديد الذي قام بترجمته الى الفرنسية فيليب فيغرو، يضيف الرسام العراقي الكبير ضياء العزاوي جمالية خاصة عليه عبر خمسة عشر رسما وغلافا في غابة الروعة يبرز فيها صورة هذه الشخصية العالمية وعن احداث هذه الرواية المثيرة عموما.وكتب طه حسين رواية "أحلام شهرزاد" في 1943 ونشرها لأول مرة في 1949، وتعد من أشهر مؤلفاته حتى أن البعض عدها أحد أفضل كتاباته وأهمها لغويًا، وقد لاقت منذ نشرها قبل نحو ثمانين سنة وحتى اليوم، ترحابًا واسعا في العالم العربي وخارجه. ومن الواضح ان طه حسين عمل في هذه الرواية على إعادة قراءة التراث وتقديمه في شكل روائي قصصي جديد ومبتكر وهذا نجده جليا في "أحلام شهرزاد" التي تعد بمثابة المحاولة الأولى من نوعها على الإطلاق، وقد تأثر بها عددٌ كبير فيما بعد.
وتتناول هذه الرواية قصة الملك شهريار التي تتوزع فصولها وموضوعاتها ما بين الحقيقة والخيال وبين الواقع والأحلام فيما تواصل ابنته شهرزاد، رواية الكثير من الأحداث المفعمة بالمشاعر والاثارة والشديدة التنوع في موضوعاتها والزاخرة بالتناقضات والمفارقات الى جانب المعلومات والتصورات، حيث تتقاطع فيها صور الظلم والطغيان مع صور نماذج انسانية جادة وأخرى هزلية.
ويعتمد طه حسين في سرد احداث رواية "احلام شهرزاد" والتي تتقمص شخصية أبنة الملك شهريار، أسلوبا جذابا معتمدا على نهج وطريقة تعكسان درجة كبيرة من الإبداع والرقي والتشويق، حيث التنقل بين أحوال ومراحل يصعب الجمع بينها ظاهريا، ومن بين الأحداث الخاصة بشخصياتها، تنقل لنا هذه الرواية الكثير من الأحداث والوقائع التي من الممكن أن يسقطها أي منا على كثير من الوقائع التي تجري حولنا وبشكل يومي، ففيها كثير من المشاعر والأحداث والمشكلات والحلول التي يكون منبعها الرئيسي أنماط وأنواع الظلم الذي يقع على كثير من الناس في أي مكان وزمان والذي قد لا يشعر به إلا من عانى او خاض احداثه.
ففي هذه الرواية أبدع المؤلف في تناول أسطورة شهرزاد بصورة غير مسبوقة، حيث يأخذنا من عالم اليقظة إلى عالم أحلام شهريار مع قصة ملك الجن وابنته والتي استغلها الكاتب في اسقاطها على الواقع وتبيان العديد من المشكلات ومظاهر الظلم في عصره حيث يوظف طه حسين السرد لخدمة آرائه السياسية والفكرية الخاصة معتمدا لغة رفيعة المستوى وعميقة المعاني مع أسلوب شيق وممتع وتسلسل الأحداث الرائع الذي يجعل الملل صعبًا على القارئ، ولكن الأمتع في رواية أحلام شهرزاد هو وصف الكاتب للشخصيات بعناية ودقة تجعل القارئ أكثر تأثرًا واندماجًا مع أحداث الرواية.
ويبدو ان ما يحمله هذا العمل من قيمة تراثية كبيرة؛ شجع المؤلف على استخدامه واسطة لنقل أفكاره دون أن يجعل هذا الهدف متحكمًا في النص والانطباع الأصلي عنه، فيحكي لنا عن «شهريار» بعد مضي ألف ليلة من سماعه لقصص «شهرزاد» وقد تغير في نفسه شيءٌ فلم يعد ذلك الملك الأرعن الذي تحرق نفسه الشهوة ويستبد به الغضب، بل أصابه نوع من القلق الذي يصنعه الظمأ للمعرفة، حيث انطلق يبحث عن الرموز والمعاني وراء غموض «شهرزاد» وقصصها، وأيُّ شيء يمتلئ بالرمز أكثر من الأحلام؟! فأخذ يتسلل كل ليلة ليشاهد أحلامها محاولًا الوقوف على ما وراءها من معانٍ.
فطوال الألف ليلة وليلة تتعمق تلك العلاقة المدهشة التي نشأت بين الملك شهريار وملك الجن، ونكتشف كيف سحرت شهرزاد عينَي شهريار وجعلته مسلوب اللب والحواس، ولا يدور في خلده سوى أقاصيصها ومعانيها ورموزها، ليقول لنا طه حسين خلال روايته لأحلام شهرزاد عن الفترة المسائية التي تعيشها وهي تنتظر بقلق ورعب لحظة صياح الديك وهو يُعلن عن عمر جديد لها: إذا ابتسم الصبح وأشرق الضحى واستيقظت الحياة ذابت كل المروعات.
والحقيقة ان طه حسين برع في سرد الحوارات المُمتعة التي تكشف عن نوايا كل شخصية في الرواية والتحولات التي تعرضت لها جرّاء الأحداث المُتتابعة والمتعاقبة، ومن الاقتباسات الحوارية التي حملتها الرواية في طياتها وكان فيها إسقاط مُتعمد على استبداد فترة الأربعينات إبان الحكومات المُتتابعة التي حكمت البلاد بقبضة الحديد:” أليس من العجب أن يكون هذا الضوء الذي أخذ يغمرنا شرًا من الظلمة التي خرجنا منها؟ إن أحدنا لن يستطيع أن يهتدي في هذا الضوء إلا إذا قاده صاحبه لكن الامل الإنساني يظل قويا في نهاية السرد: " لعل عقول الناس أن ترتقي ذات يوم أو ذات قرن.. يومئذ أو قرنئذ تصلح أمور الناس.."
بهذه الكلمات ينهي طه حسين "احلام شهرزاد" مودعا الملك شهريار الذي ظل ينتظر صوت شهرزاد وهو يأتيه بشكل يقطر حكمة: "لشد ما هانت عليك أمور الملك يا مولاي! ها أنت ذا تخلو إلى نفسك في زاوية من زوايا غرفتك، كأنك فرد من أفراد الناس قد فرغ للفلسفة والتفكير. ألم تحاسب نفسك على هذا الوقت الطويل الذي أنفقته في غير شؤون الملك؟ ألم يخطر لك أن للشعب حقوقًا يجب أن تؤدى إليه، وأن أوقات الملوك ليست خالصة لهم من دون الرعية؟!"