منذ شبابي المبكّر، أواسط ستّينات القرن الماضي، في مدينة باجة التي همّشتها دولة الاستقلال، وجعلتها قفرا بلقعا على كلّ الصعد، ولا سيّما على الصعيد الثقافي، كانت تبلغ إلى مسمعي رغما عن ذلك عبارات الثناء والإعجاب بالشاعر منوّر صمادح الملقّب بشاعر الحريّة والثورة، لنزوعه الدائم إلى تجاهل المحاذير والقفز على حصون المحظور السياسي التي شيّدتها سلطة "الزعيم الأوحد'' آنذاك، للتقليص من مساحة حريّة التفكير كما التعبير قولا وكتابة. بما جلب انتباهي إلى اسمه ليستقرّ في الذاكرة. وذلك بحكم إنجذاب الشباب إلى فعل التمرّد على السلطة أكثر من انجذابه إلى موالاتها. لا سيّما في تلك الفترة التي شهدت انتشارا سريعا للفكر الشيوعي التروتسكي (Trotski) الثوري بين الشباب. ولم أكن في تلك المرحلة أتذوّق الشعر، ولا أتوفّر على أدوات فهمه لتخطّي عتباته والولوج إلى مضامينه، فضلا عن تحليله وفتح مغاليقه وتقييم جماليته بأدوات نقد وتحليل الخطاب الشعري سيميائيّا، انطلاقا من العنوان ثمّ الفاتحة النصّية والخاتمة، ودراسة الأضداد والتناص، وثنائيّة التشاكل والتباين(1)، لدراسة الصوت والمعنى بما هما رمزية تشاكل الصوت، ورمزية تشاكل الكلمة.
ثمّ لمّا إنتقلت في مطلع السبعينات إلى تونس العاصمة للدراسة، ثمّ العمل والإقامة الدائمة، التقيت منوّر صمادح هائما متسكّعا في شوارعها محذثا نفسه بغمغمات يعسرعليّ فهم كنهها. وكنت أدعوه من حين لآخر- رغم فارق السنّ بيننا- ليشرّفني باحتساء فنجان قهوة بصحبتي، وتبادل أطراف الحديث حول كل شيء وأحيانا حول لا شيء. ولم يكن يرفض ذلك، لأنّه كان يعيش ضربا من ضروب الغربة النفسيّة والاجتماعية التي تفقد صاحبها لذّة الوجود، ما يجعله في قلق وجودي دائم. فضلا عن أنّ حالته الاجتماعية آنذاك كانت تدعو إلى التعاطف معه، لا بل و حتّى الشفقة عليه، بعد أن تجاهلته وزارة الثقافة وأرهبه الأمن وأرهقه نفسياًّ حدّ الاكتئاب الشديد والتعرّض إلى أزمات نفسيّة ونوبات عصبية متكرّرة، لا لذنب اقترفه، بل لأنّه كان يتوق إلى معانقة الحريّة - وهي وحدها ثورية (استعارة من مقولة لينين عن الحقيقة من أنّها وحدها ثورية)- ولأنّه كان متعفّفا عن المساهمة في مأسسة الاستعباد والاستبداد عبر المشاركة في عكاظيات جوقة المطبّلين ومدّاحي الرئيس صاحب "الصفات العظيمة والألقاب الفخيمة" ،الذي اعتبر نفسه"المجاهد الأكبر" فيما ذهب شاعرنا إلى أنّ المجاهد الأكبر الحقيقي إنّما هو الشهيد:
الباب فتحه الذين استشهدوا
فلمن ترى سلّم المفتاحا؟
ومن منطلق هذه القناعة، لم يقبل صمادح أن يكون شاعر البلاط، مهادنا للسلطة ومؤتمرا بأوامرها. فقد اختار مناكفتها والتصدّي لانحرافاتها بشراسة معارضي النظام -غير "الكرتونيين"- متّسقا في ذلك مع حسّه الوطني المرهف، ودوره كمثقّف حرّ في مواجهة السلطة أملا في تقليم" أظافرها ومخالبها" الطويلة. بما يتّفق مع المصطلح الأصلي للمثقّف -لا مع التعريف المعجمي العربي السطحي- وهو أن يكون منتقدا ومعارضا للسلطة أو لا يكون(2)
لذلك سيظلّ منوّر صمادح باصالة معالجته الشعرية وبخطه الإبداعي ذي الأفق المفارق، الموسوم بالتحديث في قرض الشعر، نقطة مضيئة ومتوهّجة في مدوّنة الشعر التونسي رغم التعتيم عليه في العهد البورقيبي. ولعلّ منوّر صمادح قد استشعر ذلك في قوله :
رغم الظلام أشعّ من نفسي وأشرق كالصباح
ورغم تعدّد المدارس الشعرية واختلاف مقارباتها، التي ميّزت وتميّز الحراك الشعري التونسي قديمه وحديثه فأنّ منوّر صمادح سجّل اسمه في المدوّنة الشعرية بمداد ذهبي بفضل منجزه الشعري الثري بنصوصه المتمرّدة، ذات الفرادة والنزعة النقديّة اللاذعة.
وفي غير ما مبالغة ولا نفخ في صورة شاعرنا، يقول الأديب مصطفى الفارسي- صاحب "القنطرة هي الحياة"- متحدّثا عن منوّر صمادح أنه :"لا يقل أهميّة عن أبي القاسم الشابّي"، ذلك الشاعر التونسي الفذّ الذي، لم تطبّق شهرته الأفق، رغم ذلك، في تونس و على امتداد الوطن العربي، ويحتلّ موقعا متقدّما في كوكبة الشعراء العرب، إلّا بعد موته فحسب(3)
و أنا في تقديري، لا أنفخ في صورة منوّر صمادح إذ أنزّله منزلة آرثر رامبو ( Arthur Rimbaud مؤلّف "موسم في الجحيم" وأحد أباء "الرمزيّة" لوجود ملمح جامع بينهما . أو حين أعتبره في حجم شارل بودلير (charles Baudelaire) صاحب "أزهار الشرّ " وأحد رموز الحداثة في العالم، أو محمود درويش شاعر المقاومة الفلسطينية ضدّ الكيان الصهيوني الذي قفى على أثره -ولعلّه لم يطّلع على أشعاره- أو أوكتافيو باث octavio paz، الشاعر المكسيكي الحاصل على جائزة نوبل والمعارض الشرس للفاشيّة، بمثل ما ستكون معارضة منوّر صمادح للزعيم بورقيبة بعد تولّيه الرئاسة إبّان استقلال تونس.
وإن كان لكلّ شاعر بيت يسكنه كما يقال- من باب المجاز، كناية على البيت الأكثر شهرة- فإنّ بيت الشابّي الذي يسكنه، ويسكن في قلب ووجدان كلّ عربي يتوق إلى التحرّر، ويجري على لسانه بانسياب وسيولة، إنّما هو قطعا:
إذا الشعب يوما أراد الحياة ...فلا بدّ أن يستجيب القدر
أمّا بيت مواطنه الشاعر منوّر صمادح الأكثر تداولا بين النّاس- في تونس على الأقلّ- لمعارضته للنظام البورقيبي التسلّطي، الذي كان يرفع شعار الصدق في القول والإخلاص في العمل فهو:
شيئان في بلدي قد خيّبا أملي ...الصدق في القول والإخلاص في العمل
وشهرة البيت- رغم أنّه قيل مشافهة- لا تعود في تقديري، إلى مدى جماليّة وإبداعيّة النصّ، بقدر ما تعود إلى تمرّده ومناوأته السلطة بطريقة ساخرة تذكرنا بأسلوب الكاتب الأنجليزي الساخر جورج برنار تشو (George Bernard Shaw). واللافت أنّ هذا البيت لم يرد في أشهر قصائد منوّر صمادح، وهي "كلمات"(4)/ المسكونة بالألم. وهي قصيدة مطوّلة كان قد كتبها في 2 ديسمبر 1969، وهو على فراش المرض، فيما كان على عتبات الجنون. حتّى أنّ البعض- ممّن ولج المسالة من غير بابها- لم يصدّق أن يكون ذلك كذلك، متجاهلا أنّ العبقرية والجنون لا يفصلهما إلّا خيط رفيع. ولعلّ الإقامة الطويلة، لشاعر الفلاسفة فريدريك نيتشة(5) (Friedrich Nietzsche) في مصحّة للأمراض العقليّة حتّى وفاته، يؤكّد هذه المقاربة. وبصرف النظر عن ذلك فإنّ قصيدة" كلمات"هي ليست أشهر قصائده وحسب، بل إنّها أشهر قصيدة في الشعر التونسي بعد قصيدة "إرادة الحياة" لأبي القاسم الشابي. وهي قصيدة تقطر ألما ونلمس فيها إحساس الشاعر بمرارة شديدة. وجاء في بعض أبياتها:
تألمـــت كثــيــــرا في جـــراح الكلمات
وسفحت العمـر دمعا من عيون الكلمات
ولقــــد مـــتّ مرارا في سبيــــل الكلمات
قل لمن همهم في النّاس وخـاف الكلمات
أو تخشى النــــاس والحقّ رهين الكلمات
حيــــــوان أنــت لا تفقـــه لــــولا الكلمات
ونبـــات أو جمــــــاد أنـــت لـــولا الكلمات
أنــت إنسان لـــدى الناس رسول الكلمات
فتكلـّـــــم وتألــّـــــم ولتمــــت في الكلمات
واللّافت أنّ "أبو القاسم الشابّي" ومنوّر صمادح، كلاهما واجه متاعب جرّاء بيته الشهير. فقد واجه الشابّي معارضة شديدة من معاصريه المحافظين، وأرباب "السلطة الدينيّة" التي بمثّلها شيوخ "جامع الزيتونة الأعظم" . فيما أنّ البيت يعتبر أنّ القدر، وإن كان يسير وفق مشيئة الله وحده، فهو في ذات الوقت- بعيدا عن الفلسفة الوجوديّة وفلسفة القوّة و الفكر الشيعي والتصوّف- طوع إرادة الإنسان في مجالات مخصوصة، دون أن يحدّ ذلك من قدرة الله التي اختصّها لنفسه. ولعلّ مجال هذا المبحث الفلسفي والعقدي في غير هذه العجالة.
أمّا منوّر صمادح فقد وجد نفسه بسبب بيته الساخر أعلاه، في مواجهة السلطة السياسيّة التي ناصبته العداء في أعلى هرمها، لتأخذ علاقته بالرئيس بورقيبة نقلة نوعية وقطيعة بنيوية - بتعبير اللسانيين- وليسومه سوء العذاب والمهانة والإذلال. ولتنطلق عندئذ رحلة متاعب منوّر صمادح، بما جعله يتيه في بيداء الجنون فيفقد عقله نهائيّا كما سيأتي بيانه.
ولعلّ في ذلك وجه شبه- مع الفارق- لما وقع للمتنبّي مع سيف الدولة عند سماعه قصيدة "وأحرَّ قلباه" التي يقول فيها :
سَيعْلَمُ الجَمعُ ممّنْ ضَمّ مَجلِسُنا بأنّني خَيرُ مَنْ تَسْعَى بهِ قَدَمُ
وهو ما أغضبه حتّى انّه رمي المحبرة في وجه أبي طيّب.بما جعل العلاقة تسوء بين الرجلين فيضطرّ المتنبّي إلى مغادرة حلب بما يشبه إضطرار منوّر صمادح إلى مغادرة تونس نحو الجزائر ليعمل بالإذاعة وبعض الصحف هناك.
ولكن لنعود بالتاريخ إلى الوراء، ولنبدأ من البداية التي لم تكن جميلة، فبداية منوّر صمادح كانت تعيسة وبائسة، ونهايته كانت أليمة وأكثر بؤسا، وإلّا لكان تكرارها لا يملّ كما يقول دوستويفسكي : "إذا كانت البدايات جميلة، دعنا نبدأ مرارًا وتكرارًا، دعنا لا ننتهي أبدًا (...)، ولا نمل فننتهي "ينحدر منوّر صمادح، المولود سنة 1931 بنفطة المعروفة بالكوفة الصغيرة(6) و(التي لا تفصلها عن توزر- مسقط رأس الشابّي- إلّا بعض الكيلومترات)، من عائلة ذات أصول أندلسيّة(7)، عرفت بالعلم و الأدب. فالوالد -الذي توفّي مبكّرا وشاعرنا لم تتجاوز سنّه عشر سنوات- عالم أزهري متصوّف ضليع في الفقه والتوحيد، فيما أنّ أخويه، أحدهما شاعر والآخر كاتب وجامعي. وهو الذي تولّى سنة 1989، تسع سنوات قبل رحيل منوّر صمادح، جمع وتحقيق الآثار الشعرية الكاملة لشاعرنا التي نشرت سنة 1995 (8).
لم يكن حظّ الشاعر العصامي منوّر صمادح من التعلّم في المدارس الرسميّة وفيرا، فقد انقطع عنه مبكرا (9) ، تماما مثل الشاعرين العصاميين (الفرنسي) آرثر رامبو(10) Arthur Rimbaud و (اللبناني) إيليا أبي ماضي(11)، ليتّجه مثلهما، وفي سنّ يافعة للعمل في التجارة لا مثل الفيلسوف لايبنيز Leibniz(12) ، الذي اشتغل حمّالا في السوق، رغم نحافته و ظهره المحدودب . فمنور صمادح انتقل من بائع متجوّل، إلى عامل في مخبزة بالقيروانّ في سنّ الثالث عشر من عمره، إلى مساعد تارزي بقابس وتوتس العاصمة، بعد اشتغاله كبائع فطائر في البقالطة وفي مكثر أين كانت له فرصة الالتقاء سنة (1949) بالزعيم الحبيب بورقيبة الذي كان يحرّض على مقاومة الإستعمار. فلمّا ألقى أمامه، ارتجالا، بزيّ عمل " بائع الفطائر" (13) قصيدة "نار القول" ، وكانت متماهية مع ما يريده الزعيم من بثّ الحماسة في نفوس المناضلين للالتفاف حوله:
أيّها القوم اسمعوني ها أنا فيكم أنادي
تُضرم النيران قلبي في الورى مثل الزناد
وحّدوا الجهد ولبّوا من دعا للاتحاد
إنتبه ، لحظتها، إلى فصاحة شعره فأعجب به وقبّله تشجيعا له، ثمّ قرّبه إليه فيما بعد. حتّى أنّه أصبح يطلب منه إلقاء قصيدة حماسية على الحاضرين في اجتماعاته قبل ان يلقي فيهم خطاباته النارية لاذكاء وعيهم بالإستعمار. لاسيّما وانّ أغراض قصائد منور صمادح التي سينظمها لاحقا، ستنزع إلى الإتّجاه الحماسي وأيقاظ وبثّ الحسّ الوطني والتغنّي بمعاني ومفردات حبّ الوطن و الثورة والحرية والعدالة الإنسانية ومناصرة حركات التحرّر السياسي والتغنّي بزعمائها (14). ففي ديوانه "نسر ونصر" ناصر منوّر صمادح كلّ حركات التحرير في العالم وفي مقدّمتها جميعا، الثورة الفلسطينية، حيث تغنّى بكلّ من الثورة الليبية في بداياتها، وهي التي سمّاها "ثورة الرمال" وافرد لها قصيدة بالعنوان ذاته. كما تغنّى بالثورة الاريترية، وثورة السود في أمريكا والثورة الفياتنامية. وفضلا عن ذلك فقد ناضل صلب الحركة الوطنية التونسية ضد االمستعمر الفرنسي وشهّر بفضاعاته في أشعاره مشجّعا التونسيين على ضرورة الكفاح . وقد لاحقه البوليس من أجل ذلك حتّى أعتقله وسجنه سنة 1954. وقد سبق ايقاف منوّر صمادح واعتقاله قبل ذلك في مظاهرة سنة 1953، لا بل و إيقاف حتّى الجريدة التي كان يشتغل بها، وهي"الأخبار". بما يعني أنّ مهمة المقاومة بالشعر لدى منوّر صمادح تكون مثلومة دون ممارسة فعل المقاومة الميدانية كرافد مهمّ للشعر الثوري المقاوم. لهذا فيجب تنزيل مدحه للزعيم بورقيبة في فترة ما، في سياق الإيمان المشترك بقضايا التحرّر بما هو الخلفيّة للنضال ولتمجيد المناضلين. على هذه الارضيّة المشتركة و بهذا المعنى، توطّدت علاقتهما أثناء فترة النضال. إلّا أنّها ساءت وآنقلبت رأسا على عقب بعد سنوات قليلة من الإستقلال.
بعد سنتين من فرصة لقائه ببورقيبة كانت لمنوّر صمادح فرصة ثمينة ثانية، وهي لقاؤه سنة 1950 بالأستاذ زين العابدين السنوسي الأديب والصحفي اللّامع صاحب "مطبعة العرب" ومدير مجلة العالم العربي وصحيفة "تونس"، وصاحب الفضل والأيادي البيضاء على الكثير من المبدعين الشبّان، فأعجب به هو الآخر، ولم يكتف بنشر قصائده في صحيفة "تونس" فحسب، بل انتدبه كذلك كمراسل للجريدة في إحدى جهات البلاد لتغطية الشؤون الإجتماعيّة مع توفير السكن له. كما فتح له مكتبته الضخمة الزاخرة بأمّهات الكتب، لييسّر له متعة المطالعة.
ولم يمنعه ذلك، من التردّد على "المعهد الرشيدي" لتعلّم الموسيقى التي كان شغوفا بها، وحضور الحلقات الأدبيّة التي كان ينشّطها كبار أدباء تلك الفترة وخاصة منهم الشاعر مصطفى خريف(15 )، الذي كان له ناصحا وموجها في خطواته الإبداعية الأولى. يضاف إلى ذلك إطّلاع منوّر صمادح على المنجزات الأدبية لمشاهير الأدباء في الوطن العربي و في المهجر. بما مكّنه من فهم واستيعاب الموسيقي كما العروض، وقواعد اللغة وتحرير المقالات. بما أثرى معجمه اللغوي ورصيده الأدبي، وبما جعله يطوّع اللغة العربيّة، إن في كتابة النثر أو في نظم الشعر، الذي استهلّه في هذه الفترة بقصيدة "الفردوس المغتصب". وهي ملحمة وطنيّة مطوّلة أهداها إلى الزعيم بورقيبة. وقد عجز المستعمر عن مصادرتها فيما تكفّل المقاومون بتوزيعها سرّا. و جاء في مطلعها :
لله تونس حسنها متفرّد
أبت الطبيعة أن تجود بثاني
فكأنّها والمرء يجزم عبقر
قد أزلفت للّحظ واللّمسان
انظر اليها وهي ترفل في
برود رصعت بزبرجد وجمان
إلى أن يقول
في كلّ شبر فتنة جذّابة
يهفو القصيّ لسحرها والداني
وطن به للحرب قَدْح إنّ عثت
أيدي العدا فالكل في هيجان
أبناؤه للحقّ يدفعهم صدى
في سكرة من خمرة الايمان
غاياتهم في العيش إمّا عزّة
أو ميتة والمجد درب قاني
أمّا باكورة إنتاجات صمادح الشعريّة، فهي قصيدة "إبتسم يا شعب" التي نظمها سنة 1948 ونشرتها له جريدة "الحرية"، والتي سيعقبها إنتاجه الشعري الخصب بوتيرة سريعة، بما جعله يصدر قبل أزمته النفسية الاولى سنة (1967)، عديدة المجموعات الشعرية ، فضلا عن كتابه النثري" شؤون وشجون" وكتاب "حرب على الجوع"(16) الذي جمع فيه مقالات ذات طابع سياسي واجتماعي صيغت بنفس بالنزعة الثورية الحماسية التي نلمسها في شعره. فضلا عن قصائد تترجم عن معاناة وهموم ومشاغل التونسيين، ومنها قصيدة " الثورة"
غيّروا الوضع وفكّوا القيد إنّ كنتم أباة
أيّ عدل؟ يُقتل الشعبُ لكي يرضى الطغاة
بعضكم يُتخم والبعض أمّانيه الفُتات
فئة ترفل في العزّ وآلاف عراة
وهو ما يمكن اعتباره تماه مع مطالب الشغالين وتقارب مع الاتحاد العام التونسي للشغل. لا سيّما وانّ شاعرنا نظم قصائد تشيد بالزعيم النقابي الشهيد فرحات حشاد. كما ساهم في تأبينه بقصيدة في الغرض .وكان ترجمان صوت العمّال والعاطلين حين قال في قصيدة "ثائرون"
ألا إنّنا ههنا صارخون ليسمع أصواتنا النائمون
ودافعنا رغبة لا تعي وحقّ تجاهله الحاكمون
فهاتوا لنا عملا أو فلا تلوموا إذا شنّها العاطلون
علما، وأنّه أصدر أوّل ديوان له وهو "فجر الحياة"، سنة 1954. وهي ذات السنة التي تمّ فيها اعتقاله وسجنه. ثمّ بأمر من أحد الجنرالات منعت الحكومة الإستعمارية الفرنسية نشر الديوان وحجزته بالمطبعة سنة 1955، إلّا أنّ القصائد الحماسيّة التي حواها الديوان تكفّل مناضلو المقاومة الوطنية بتوزيعها سرّا بينهم كما المناشير السريّة. بما جعله يصدر في سنة 1956 ديوانين إثنين هما "الشهداء" و"صراع"
باسم الجماهير التي في عزمها
تدوي الحياة فتخلق الأبطالا
لا باسم أفراد تمايز بعضهم
فغدا يعيش على البلاد وبالا
و رغم غزارة إنتاجه الشعري في هذه الفترة زاخرة العطاء، فانّه أشرف، في ذات الوقت، على الصفحة الثقافية ل"جريدة العمل" (اللسان الرسمي للحزب الدستوري الحرّ بزعامة بورقيبة )، كما عملمشرفا ومراقبا للبرامج الأدبية والثقافية بالإذاعة و مسئولا عن الصفحات الأدبيّة لمجلّتها. فضلا عن مساهمته في تأسيس "رابطة القلم الجديد " التي تولّى كنابتها العامّة لاحقا.
وفي هذه الفترة أيضا سافر إلى روسيا وزار ضريح صاحب الرباعيات الشاعر عمر الخيّام في نيسابور مخلّدا ذلك في عدة قصائد. كما زار العراق سنة 1965، وألقى محاضرة حول "الغزو الفكري" إضافة إلى قصيدة "على ظهر الأسد" مساهمة منه في مؤتمر الأدباء العرب المنعقد ببغداد.
ومباشرة إثر عودة الشاعر إلى أرض الوطن، بدأت السلطة تتوجّس منه، لحساسيّتها المفرطة من الفكر القومي العربي، الذي كانت تعاديه وكانت العراق من أهمّ عناوينه بعد مصر.
ولم يفوّت زملاؤه الإنتهازيون بالإذاعة التونسية هذه الفرصة السانحة، فاستغلّوهاّ في حبك الدسائس ضدّه، بما أدّى إلى إيقافه عن إنتاج يرنامجه الإذاعي وإبعاده إلى قسم الأرشيف ليظلّ بعيداً متواريا،ً ويعيش محنته الأولى ذات الطابع الإداري. وهو وإن تجاوزها بسلام، فإنّها تركت له آثارا نفسيّة ستفاقمها محنته الثانية ذات الطابع السياسي. بما سيعصف به ويجهز عليه بالضربة القاضية كما سيأتي بيانه. لأنّ قذارة وخساسة السياسية ليست لها ضوابط ولا حدود في التنكيل بالمثقّف الصادح بموقفه المختلف عمّا يتبنّاه "الزعيم الأوحد"، كما كان حال منوّر صمادح دائما.
لقد تأكّد الشاعر العروبي الثائر في هذه الفترة العصيبة، من نزوع النظام إلى تنكّره لما بشّر به وإلى الانحراف والاستبداد و الظلم والدكتاتورية والتفرد بالحكم. حيث كان مستاء، لا من نفوذ الحزب الحاكم فقط، بل وكذلك من سياسة بورقيبة التي تنزع إلى التقارب مع الفرنسيين والأمريكيين، على حساب التعاون السياسي و الاقتصادي مع البلدان العربيّة. ليس هذا فقط،، بل إنّ صمادح كان كذلك شديد الاستياء من الفساد الذي أخذ في الاستشراء. وقد شهّر به الشاعر في قصيدة “الملاك العائد” التي نشرها، 4 سنوات فقط بعد الاستقلال:
“..وأكول بطر قد أتخمته السرقات
ويد تجني ولكن منحوها السلطات ”
لهذه الأسباب، إهتزّت الصورة البرّاقة النّاصعة للزعيم لدى الشاعر وتغيّرت بالتالي نظرته إليه، ما جعله لا يستكن ويقبل بالواقع السياسي العفن، ونظم، قصائد ساخرة من الرئيس بورقيبة، وهو في أوج قوّته، ووصفه في جرأة نادرة - وفي مناخ غير ديمقراطي- بالتمساح والجلّاد والسجّان، ونحو ذلك من النعوت المذمومة والإنتقادات اللّاذعة التي وردت في قصيدة "عهدي به جدًا... ":
عهدي به جدّا فكان مزاحا
بدأ الضحيّة وانتهى سفّاحا
من حرّر الأجساد من أصفادها
عقّل العقول وكبّل الأرواحا
كان السجين فصار سجانا لها
يا من رأى سمكا غدا تمساحا
الباب فتحه الذين استشهدوا
فلمن ترى سلّم المفتاحا؟
وبهذا، فتح صمادح على نفسه النّار وأبواب الجحيم، فأصبح مستهدفا من رأس السلطة. حيث ضاق النظام البورقيبي التسلّطي ذرعا به، وبدأ يضّيق عليه الخناق فمنعت دواوينه وصودرت أشعاره، كما كان حاله زمن الإستعمار، ثمّ منع من العمل في الإذاعة. في هذا الخضمّ المتوتر، شنّ النظام سنة1967، حملة شعواء على المعارضين، عقبتها أولى المحاكمات السياسية في تونس. وفي سياق الحملة، وجّهت له تهمة الخيانة وانعدام الوطنية، وهي أخطر التهم السياسية. واستوجب ذلك استدعاؤه المتكرّر للاستنطاق والتحقيق معه في دهاليز وزارة الداخليّة. بما يستتبع ذلك من فنون التعذيب التي تمارس عليه. ولرهافه حسّه لم يتحمّل ذلك و أصيب بالاكتئاب ثمّ بأزمة نفسية حادة، تحولت فيما بعد إلى انهيارات عصبية، حتّى أصبح نزيلا بمستشفى للأمراض العقلية . وإثر خروجه معافى، عاودت الشرطة استنطاقه من جديد . لذلك استشعر الخطر الداهم، واعتبر ذلك مقدمة لشرّ مضمور، فغادر البلاد أواخر سنة 1967 متسلّلا إلى الجزائر أين قوبل بالترحاب ووجد أبواب الإذاعة ودور الصحافة هناك مفتوحة أمامه. بما جعله يردّ لها الفضل بالتغنّى بحبّه للجزائر التي خصّص لها ديوانه ''السلام على الجزائر''. ففي قصيدته ''وحدة المصير'' قال مفتخرا بهذا البلد الشقيق:
قالوا: هجرتَ؟ فقلت تونس قبلتي
قالوا: الجزائر؟
قلت مفخرة الأمم
أهلي هنا، وهناك نبع صبابتي
من قال إنّا أمّتان فقد ظلم
وبعد سنتين من الإقامة في الجزائر، عاد منوّر صمادح أواخر سنة 1969 إلى تونس، حيث أصدر 5 دواوين في فترة لا تتجاوز السنة. وفي الأثناء تأكّد، بما يقطع الشكّ باليقين، أنّ السلطة متمادية في انحرافها وموغلة في مسارها التسلّطي والنزوع إلى الحكم الفردي، فلم يقبل بالوضع وتعمّق إحساسه بالألم ، فعاوده الانهيار النفسي الذي ضاعفت حدّته قصّة حبّ لم تكتمل فصولها بما كان يشتهيه الشاعر. ما أدّى إلى أصابته بنوبات عصبيّة حادة أفقدته عقله وجعلته يعاني من الرهاب، بما هو الإحساس الدائم بأنّه طريد جهة ما تريد قتله. وفي حالة شاعرنا فإنّ هذه الجهة كانت تحديدا المخابرات الأمريكيّة. وكان من نتائج ذلك ولوج منوّر صمادح عالم الجنون الذي استعصى علاجه. وهكذا، إنقطع نهائيّا عن الكتابة ونظم الشعر. لا بل حتّى عن الخوض فيه. وهكذا غيّبت تونس بالحضور شاعرا من كبار الشعراء، ظلّت حياته تتأرجح بين البؤس والشقاء والإنتاج الشعري المتمرّد والمعاناة والإذلال والتنكيل. ومن غرائب الدهر ومفارقاته العجيبة، أن يرحل شاعر بمثل هذه القامة الشعرية السامقة، في صمت رهيب - تماما كما كان حال المصلح الاجتماعي التونسي الطّاهر الحدّاد- ويغادر إلى مثواه الأخير، من مسكنه الذي كان -للأسف الشديد- أقرب إلى الأطلال أو "الخربة" منه إلى محلّ سكنى. فحتّى الفيلسوف شوبنهاور (Arthur Schopenhauer) زعيم التشاؤم الذي رغب في الانتحار ودعا صراحة إلى "نبذ الحياة، لأنّها شر وليس فيها الاّ الالم والمرض... وجوهرها الشقاء والتعاسة"، لم يبلغ هذا الحد من الحياة الضنكة رغم الشقاء والتعاسة اللذين لازماه طويلا. فرغم مقاطعته لأمّه حتّى موتها، وعدم زواجه مثل صمادح، فقد عاش في شقّة من غرفتين متواضعتين بصحبة كلبه، ومات وهو يتناول قهوة الصباح. فيما أنّ صمادح الذي كان محبّا للحياة واستهلّ مشواره الشعري بقصيدة " إبتسم يا شعب" بما هي دعوة إلى الإبتهاج والإقبال على الحياة، مات فيما يشبه الخربة بعد سنة من مصارعة شلل نصفي أقعده نهائيّا عن الحركة. لقد عاش منوّر صمادح شقيّا بائسا ومات موت التعساء الغرباء النكرات. كما لو كان هو المقصود من وصية الشاعر واللساني التونسي صالح القرمادي، إلى أهله، إذ قال:
إذا متُّ مرة بينكم
وهل أموت أبدا؟ -
فلا تقرؤوا علي الفاتحهَ وياسين
واتركوهما لمن يرتزق بهما
ولا تمنعوا القطط من البول على ضريحي
فقد اعتادت أن تبول على جدار بيتي
ولا تزوروني كل سنة مرة
فليس لديّ ما أستقبلكم به
هكذا نحن العرب،على امتداد تاريخنا المظلم، نتجاهل العمالقة ونتركهم يصارعون الإهمال والفقر فتطحنهم آلامهم. فيما نحتفي بالأقزام وأنصاف الجهلة وأشباه المثقّفين، ونغدق عليهم الإمتيازات المتعدّدة والعطايا السخيّة، " فقط، لأنّهم يمجّدون السلطة ويجمّلون صورتها البشعة، بما يجعلها تعتقد ذلك، فتتمادى في ظلمها للنّاس. فتبّا لهؤلاء المهلّلين بكلّ حماقة يأتيها أسيادهم، وتبّا لأسيادهم أصحاب السلطة المؤسسة على قاعدة ظلم الناس والمنتصبة، في صفاقة وخساسة، فوق جماجم منتقديهم من قادة الرأي الشرفاء.
المهندس فتحي الحبّوبي
------------------------
المراجع
- حارس الشمس/ عادل الجريدي/ منشورات إتحاد الكتّاب التونسيين 2016
- الأعمال الشعرية الكاملة لمنوّر صمادح، جمع وتحقيق الكاتب والجامعي، عبد الرحيم صمادح. وقد صدرت سنة 1995، في 515 صفحة عن الدار التونسية للنشر و بيت الحكمة.
- الموسوعة التونسية
- معلومات شخصيّة متفرّقة
الهوامش
(1) التشاكل والتباين هو كل تكرار منّصل أو منفصل لوحدة لغوية.
(2) أنظر مقالي على النت، بعنوان "المثقّف منتقدا ومعارضا للسلطة أولا يكون"
(3) لم يكن الشابي في قائم حياته شاعر تونس الأول مثلما هو اليوم، بل لم يكن حتّى من بين الشعراء الثلاثة الأوائل. وهو يشبه في ذلك شارل بودلير(charles Baudelaire) الذي كان شعره متقدما عن شعر زمنه ولم يفهم جيدا الا بعد وفاته
(4) للشاعر نزار قباني قصيدة بعنوان كلمات تعرّض فيها كالعادة إلى موضوع المراة ، رغم انّه هو الآخر له قصائد نارية في الموضوع السياسي.
(5) - فريدريك نيتشة يشبه منوّر صمادح في تعدّد المواهب لديه، لأنّه شاعر وناقد موسيقي وملحّن مثله، وأصيب هو الآخر بشلل عام وليس نصفي مثل منوّر صمادح.
(6) إشتهرت مدينة نفطة بالكوفة الصغيرة لأنّها أنجبت علماء كثر.
(7) - قد تكون عائلة منور صمادح هاجرت إلى تونس من مدينة الصمادحية بجنوب اسبانيا.
(8) صدرت سنة 1995، عن الدار التونسية للنشر و بيت الحكمة
(9) بعد موت الوالد المتزوّج بامرأتين، أضحت اسرة منوّر صمادح الوفيرة العدد عاجزة على تسديد نفقات التعلّم لجميع أطفالها، رغم بيعها الجزء الأكبر من المكتبة العظيمة التي خلّفها الأب. لذلك اكتفى ّ الشاعر بدروس الكُتّاب فتعلم وردّد القرآن ثمّ أنقطع وفي مرحلة لاحقة درس بجامع الزيتونة لأسابيع قليلة ثم إنقطع كذلك
(10) الشاعر الفرنسي آرثر رامبو، اشتغل بتجارة البن والأسلحة، بعد أن عانى الفقر والمعاناة وانقطع مبكرا عن التعلّم رغم شدّة ذكائه. وقد نشر قصيدته الأولى وعمره 15 سنة.
(11) ايليا أبو ماضي كان بائع سجائر. إنقطع عن التعلّم مبكّرا لشدّة فقره، ثمّ عمل مع عمه الذي كان يتاجر في التبغ قبل أن يتحوّل إلى أمريكا.
(12) لايبنيز، هو أوّل من شكّك في إطلاقيّة اليقين في الرياضيات، وهو أحد مؤسسي علم التفاضل والتكامل بمعيّة نيوتن.
(13) تحدّث منوّر صمادح في سيرته الذاتية عن حرفائه فقال عنهم– “كان ابتهاجهم عظيما عندما تفاجئهم الصحافة اليومية والأسبوعية … فتراهم لا يصدّقون أنّهم يقرأون في المساء أدب من أشتروا منه الفطائر في الصباح ".
(14) تغنّى منوّر صمادح بعدّة زعماء حركات تحرير، من بينهم كلّ من هو شي منه، ولوثر كنغ.
(15) لو لم يرد ذكر البشير خريّف على لسان الطيب صالح كأحد أهمّ الروائيين العرب لظلّ مغممورا، ولما انتبه إليه التونسيون الذين يعتبرونه اليوم أب الرواية التونسية.
(16)أصدر منوّر صمادح في سنة (1955) كتابا بعنوان "حرب على الجوع"، قدّم له أحمد بن صالح الأمين العام للاتحاد العامّ التونسي للشغل آنذاك، وقد جمع فيه مقالات، ذات طابع السياسي واجتماعي علاوة على بعض القصائد ومنها قصيدة " الثورة" التي كان قد نظمها وأنشدها بمناسبة تدشين المقرّ الحالي للاتحاد العام التونسي للشغل.