كقبضة يد، يشتغل العداد وفق رنات ثمانية، يعد الشذرات الواحدة تلو الأخرى، وأنا أجهد رئة الشوق كمن يطارد قطعان حملان وديعة، أنتشي بقفزاتها باحثا عني بين ثنايا السطور:
كمن يتأمل خطوط يده- الغياب وكف الزمن- يد على خد- قبضة من حديد- اليد القصيرة- يد النجدة- كلمات وكتب- الحب يد تربت على قلب- حفنة فرح.
وإذ تطالعك أولى العتبات، تتساءل عما يمكن أن تقبض عليه، وأنت تمسك الديوان، فتحتار بين العنوان، كقبضة يد، وبين لوحة الغلاف التي تقول: هذي يدي ممدودة، للفنانة خديجة الفحلي... وبين القبض والسدل، سرعان ما تتبخر حيرتك وأنت تقرأ صفحة الغلاف الخلفية، وتعي أن البداية من حيث انتهى الديوان بشذرة تلخص كل شيء، تعبر عن حياة لا تستقيم إلا بصراع الأضداد:
الحياة
غبار الطرقات
والمتاعب
تضع على وجوهنا
طبقة من سواد
ووحدها يد الأم
أو ابتسامة حبيب
تمسحها
لتشع من جديد...
تزول حيرتك، حين تمتزج هذه الروح، وهذه النظرة العارفة، بابتسامة أديبة متمرسة، اختارت أن تكون الابتسامة أحد فصول دراساتها السيميائية، واختارت أن تجعل من ديوانها شذرات شعرية مرقمة. وقد حالفها التوفيق في ذلك، سواء على مستوى التقسيم البصري للمقاطع الشعرية أو على مستوى تساوق الشذرات مع اشتغال الذاكرة البشرية؛ فنحن لا نفكر بالأشياء دفعة واحدة وإنما على شكل شذرات متقطعة، يحاول العقل أن ينسج منها أردية فكر منسجمة.
حين تضم يدك للقبض، فأنت لا تمسك دائما بنفس العناصر، وبنفس الطريقة، فالقبض على الرمل لا يشبه القبض على الماء أو على الفراغ حتى... وتلك كانت وسيلتها للقبض على أفكار متوازية أو متضاربة أو متدافعة، ووسيلتها لتنويع الأسئلة الحارقة التي تسائل الذات والآخر...وتجعلك تعيد النظر في طريقة تفكيرك، سلوكك ونظرتك للأشياء والأحياء، بكلمات تختارها الشاعرة بعناية فائقة وبمعجم بسيط وممتع، يجعل من كل شذرة شعرية ذلك السطر الأخير في إنتاج المعنى الحقيقي لعبارة " السهل الممتنع". أليست الصورة الشعرية هي المحرك الأساسي لبوصلة الشعر؟! فالشعر بالنسبة إليها لا يرقى بالغوص في معجم التوابع والزوابع وإنما بالغوص في التأملات الفلسفية، ومحاولة تقديمها في طبق لغوي أنيق. ولنتأمل قولها:
قد تخسر أشياء كثيرة في ترددك
لكنك قطعا ستربح
سلامة أصابعك من العض ندما
أنك فعلتها...
الحديث عن التردد هو دعوة للتريث في اتخاذ القرار المناسب درءا للندم، ولعل في تجربتها الطويلة عبر سنوات الدراسة والتدريس والبحث والكتابة ما ساعدها على اكتساب هذا النفس الطويل. فهي تتماهى مع واقعها في أدق تفاصيله، وتجعل من كل المكونات الشعرية وغير الشعرية سمات ذات دلالة ومغزى. ففي ترقيم الشذرات مثلا إشارة مواكبة للعد اليومي لكل شيء في زمن المال والإهمال، عفوا الأعمال... زمن النفط والقحط... العد في حياة الناس أصبح لازمة كبرى...
تقع عيناي فجأة على الشذرة الخامسة من أولى قصائد الديوان فأقرأ:
هناك قلوب نعرفها بيضاء وهشة
كجبس الغرف الفخمة
وفجأة
وأمام ناظرينا
تهوي طبقة الجبس تلك
فيطالعنا
صدأ الحديد
وقسوة الإسمنت
من أين لها بهذا التكثيف، حيث تختبىء عشرات المعاني خلف كلمات معدودات، فتبدو شذراتها مثل الشجرة التي تخفي الغابة. ولنتأمل ذلك أيضا ضمن قولها في الشذرة رقم 7 ،ص 11:
أغلب الذين تسلط عليهم الأضواء
وراءهم ظلال سوداء...
لاشك أن التكثيف يبقى أحد المعايير والملامح والسمات الإبداعية التي تكشف قدرة المبدع على الخلق والإبداع من جهة، وعلى التشكيل والتعبير والتركيب من جهة أخرى،وعلى إعادة رسم ما هو مألوف ومتداول برؤية مميزة تخرج اللغة والصورة الشعرية من دائرة التكرار إلى حيز الإبداع، دون أن ننسى دور التكثيف في جذب المتلقي المخصوص بالخطاب الشعري، بما يتضمنه من دلالات وإيحاءات تغني عن الإسهاب والإطناب.
فكلما تقدمت في قراءة الشذرات، كلما أحسست بالتعرف أكثر على صاحبتها، وعلى العالم الذي تعيشه أو تفتقده أو تنشده؛ فهي حاضرة بقوة حتى في أحلك مراحل الغياب...
سيدة من الشرق المغربي، ذات قلب بآلاف الأوردة الشعرية، تمسك بتلابيب النبي* ، تعيش الغربة في وطنها، لتؤكد الانتساب الحقيقي للمدرسة الرومانسية في أدق تجلياتها، سواء من حيث سهولة التعابير أو من حيث الإغراق في الشجن، لكن بأمل، أو من حيث الالتصاق بالطبيعة على امتدادها، متمردة على الطيران بأجنحة المعادن، تتساءل باستمرار كيف يمكنها التخلص من رومانسيتها القديمة دون جدوى:
كيف أتخلص
من كل ما بقي في من رومانسية قديمة؟
كيف أتعلم ألا أربط قلبي بأحد
ولا حلمي بغد
وأن أترك تساؤلاتي المرة
معلقة على طرف اللسان
وأصفق كبلهاء
للتافه من الكلام؟
لدى الشاعرة ثريا وقاص، كل الأشياء ذات قيمة، مهما بدت صغيرة أو تافهة، وهي بذلك تتساءل بطريقة غير مباشرة، في حيرة كبرى، كيف تتهاوى قيمة الإنسان في هذا العصر؟
في هذه الدنيا
كل واحد منا
عبارة عن حبة رمل صغيرة
في صحراء شاسعة
وتلك الحبة الصغيرة
ستبكي عليها الصحراء
إن هي غابت.
ولا شك أن حضور البعد الإنساني والبعد الاجتماعي وما يحيط بهما من قلق وهواجس في أشعار ثريا وقاص، يستدعي بالضرورة البعد السياسي بشكل من الأشكال:
في أوطاننا
هنالك من ينجز العمل
وهنالك من...
ينال التصفيق
ولعل أبرز سمات الإبداع الأدبي هي تلك الدهشة التي يتركها النص لدى القارىء، إذ تعد الدهشة من أبرز عناصر الإبداع الأدبي،
وتتوقف الدهشة على عناصرالإدهاش التي تميز النص الأدبي من حيث جمالية البنية اللغوية وجمالية التصوير الشعري وجمالية التشكيل الإيقاعي والموسيقي، وكذلك في القدرة على التوصيل والإيحاء الفني...
حتى وهي في حالة مقت لمآل المال في عصرنا، تجترح الشاعرة أنغاما من قاموسها الخاص للتعبير المدهش:
المال لا رائحة له
طبعا نعم.
فمتى تثاقل في أيدينا
حتى يتعرق؟
متى مكث في حقائب النساء
ليفوح بالعطر
وفي جيوب الرجال
ليمتص التبغ؟
وتزداد دهشة القارىء حين يجد نفسه إزاء معجم من نوع خاص، بانتظامية مختلفة، تنحو تصنيفا غريبا وتعريفا أكثر غرابة، انتظامية التنظير بتقاليب العشق والتأمل والحنين...
الحياة؟
إنها ذلك الطائر الجميل
ذلك الذي يجلس على حافة سريرك
ويبتسم لك
وإن أنت مددت يدك لتلامسه
سيطير من النافذة
تاركا بعض الريشات الصغيرة
تحوم حول غطائك الأبيض
ثم تقول:
ما هي الشجاعة؟
هي أن ترى عالمك يتهاوى
وتحتفظ رغم ذلك بفكرة البناء...
تتوالى الشذرات حيث يتم تجسيد المجرد وتجريد المحسوس بين الغياب والحضور، ضمن كتلة رائقة من الاستعارات والكنايات والتشبيهات على اختلافها...
يكفينيأن أتأمل مرورك نحو الله
ذلك الشعاع الذي تركته فوق الأرض
لا يزال في سنته الثامنة
يمسح الأسى عن القلب...
هكذا يتحول معنى الشعر، فيصير معناه أن تملأ الحضور بالغياب، فيستحيل الغياب حضورا... هو الاغتراب إذن كما تعبر عنه قائلة:
نحن ما عدنا نعيش
في هذا العالم الذي يجهلنا
إننا نحلق فوقه عابرين
فنترك بعض ريشنا
على أسلاك الكهرباء...
يكفي ختاما على سبيل الاختصار أن أثبت قدرة الشاعرة على جعلك تسبح عكس التيار وأنت تمخر عباب الديوان، فلا تلبث أن تجد نفسك غارقا في بحر الشذرات، تتساءل معها عن جدوى الكتابة:
هل نكتب لنتذكر
أم نكتب لننسى؟