من بين أهم الأشياء التي يمكن أن تثير فضولنا المعرفي ؛ العلاقة التي ينسجها ، من خلال الإبداع ، الأدب بوقائعَ تاريخية واجتماعية . وهي رحلة نحو تمثيل الحياة بكل واقعية ، بل نسخها ونحتها في قالب أدبي و تخييلي مميز . في رحلة الأدب الواقعي لابد أن نصادف ، ونحن في الطريق ، نتفا تاريخية تجعلنا ننصت ، بل نرهف الإنصات إلى همسات منسية من سير أسمعت من به صمم . وبهذا ، لا يجرنا الحديث ، أبدا ، إلى أمهات السير ذاتية العربية ، التي شقت الأرض وغيَََمت السماء ( الأيام ، الخبز الحافي ، زمن الأخطاء ، في الطفولة ...) ، وإنما سيكون الكلام مقتصرا على روايتين كتبتا بلغة موليير؛ فأصبحتا مزارا لكل المتيمين بالأدب المغربي ـ الفرنكفوني .
إن " صندوق العجائب " لأحمد الصفريوي ، و" الماضي البسيط " لإدريس الشرايبي اعتبرتا من بين الإبداعات المؤسسة للأدب المغربي المكتوب باللغة الفرنسية ؛ ولأنه التأسيس ، لابد أن يتفردا في بنائهما الأدبي ، وأن تكون لهما نقط مشركة ذات منحى واقعي وتاريخي بالأساس ، ومن هذه الزاوية يصبح التاريخُ معطفا أنيقا تتدثر به السيرة الذاتية . فالحياة التقليدانية التي عاشها المغرب ، إبان فرض الحماية للسلطات الفرنسية ، كانت مشتلا حيا لهاتين الروايتين. واستطاعتا أن تعبُرا مسافة زمنية دامت زهاء سبعة عقود من الحضور و التألق و التشكل المستمر .
ففي " صندوق العجائب " نحتفي بالبدايات ، فالسيرة الذاتية ، هنا ، تركب ذاكرة مغلفة من شمع ، قابلة للذوبان في أية لحظة . ومن حيث إنها ـ أي الذاكرة ـ قطعت امتداداتها المعرفية والإثنوغرافية مع الشرق الحالم والمبدع والمهيمن نصيا، وتخيليا سارعت بفضل ذلك إلى إنشاء عوالمها الخاصة المتميزة والحرص على الخصوصية الثقافية ؛ ممتدة كسرب حمام على طول سيرة أحمد الصفريوي الذاتية . ومن ثم جعلت من الحنين و العودة إلى البساطة في كل شيء ، التيمة التي تهز أركان هذا النص الأدبي الباذخ .
فعبر " المتريركية ـ الأم " ، التي لزمت المجتمع المغربي قبيل الاستقلال ، استطاعت المرأة أن تدخل عالم التدبير الممنهج ، والسيادة المطلقة على البيت و الأسرة وامتداداتها . ولازالت هذه الظاهرة الاجتماعية محافظة على وجودها وكيانها في المجتمع المغربي إلى الآن ، خصوصا في مناطق متفرقة من الشمال المغربي . وتبدو أن " المتريركية " في النص تتلون بعدة ألوان ؛ فالمحافظة على التماسك الأسري ، عند المرأة المغربية ، هَمٌّ ثقيل ينكشف عبر التدبير الجيد ، بما هو مظهر أساسي من مظاهر هذه اللحمة المجتمعية عند الأم . يقول أحمد الصفريوي في النص : " طلبت منها الجارة رحمة أن تستعلمها عن أثمان الأقمشة في السوق ، خاصة عن ثوب الشاش المسمى " بقدونس " وعن الثوب الحريري المسمى " باقة السلطان "، الذي كان على رأس قائمة الموضة آنذاك " . كما أن سعيها الخبيب نحو استقرار الأسرة ، والمحافظة على ثوابتها الأساسية ، يدفعها إلى تعقب أثر الزوج ومعرفة مصيره إبان غيابه ، ولو على حساب قناعات ومبادئ ؛ كالتردد على العرافات وقارئات الحظ . وهي صورة أخرى تعكس ، بقوة ، مركزية الأب في العلاقات الاجتماعية للأسرة المغربية .
انكشفت ، مع أحمد الصفريوي في " صندوق العجائب ، عوالمُ النساء الداخلية في الأسرة المغربية . من خلال حواراتهن ، التي كانت تسيج هذا النص الأدبي المفعم بالحيوية ، حول مشاغل الدنيا والآخرة والصحة والمال والعلاقة ، التي تربطهن بأزواجهن . فلولا حكي الصفريوي ، وهو لازال صغير السن ، في عشرينيات القرن الماضي ؛ لظلت حياة المرأة ، في المدينة القديمة بفاس ، لغزا محيرا . على اعتبار الطابع المحافظ ، والمهيمن في الآن ذاته على العلاقات بين النساء والرجال في المجتمع المغربي إبان فرض الحماية الفرنسية . ومن ثمَّ جاء تصوير الخصوصية المتفردة في الموروث الشفهي ، التي تتمتع بها النساءُ في " صندوق العجائب " ، انطلاقا من الأم لالة زبيدة مرورا بلالة عائشة والجارات الأخريات رحمة وكنزة . والمتمثل أساسا في تسلط الذكورة و عادات وتقاليد الأسلاف ، فضلا عن انكسار الأحلام و خيبات الأمل في العيش جراء غياب الرجل ، الذي يتحمل عبء الأسرة.
أما إدريس الشرايبي ، في " الماضي البسيط " ، كان رمزا للثورة على الموروث القديم ، والانتصار اللامشروط للحداثة ؛ فكرا وإبداعا وسلوكا . وإذا كان واقع الأحداث في " الماضي البسيط " مطواعا و لينا في يد التسلط الأبوي ، باسم الدين والتقاليد ، فإن الخطاب الروائي عند إدريس الشرايبي يركب صهوة الثورة على هذا الجمود والتحجر ؛ بهدف الانفتاح على ثقافة الآخر ، وركب الحداثة والتحديث الليبرالي والعقلاني . تحكي الرواية عن إدريس فردي ؛ الشخصية التي اختارت طريق الثورة على تسلط سي السيد ، باعتبار هذا الأخير ، القوة التي ينتكس عندها مشروع التحديث ، فضلا عن استعذابه ـ أي الأب ـ التعذيب و الإهانة . وبهذا ، فالرواية تفضح الأقنعة التي يتستر وراءها الأب المتسلط ، بما هو السبب المباشر في الخلل الموجود في بناء الفرد داخل المجتمع والكابح للطاقات الخلاقة ، التي تطمح إلى الحرية والانعتاق من أغلال ثقافة الوصاية المفروضة على كل مداخل ومخارج البيت .
فأيا كانت الدوافع التي تؤطر " الماضي البسيط " فإن خطابها يلج عالم التأويل من أوسع أبوابه ، مادام النص نصَا تأسيسيا . وعلى اعتبار ، أيضا ، أن الرواية طبعت في فرنسا ، فضلا عن مرحلة فرض الحماية ، التي تطبقها السلطات الاستعمارية على المغرب . فمن بين أهم الزوايا التي يـُنظر بها إلى " الماضي البسيط " ، هي أن شخصية إدريس فردي تعيش تحت رحمة استعمارين ؛ استعمار الأب البيولوجي ؛ موروث التخلف والقمع والاستبداد من جهة ، واستعمار ثان سياسي تنتهجه القوة الامبريالية الفرنسية ، ومن يدور في فلكها . هكذا نجد أن تلقي رواية " الماضي البسيط " لم يخرج عن إطار ما رسمه الكاتب إدريس الشرايبي من إيحاءات ورموز ، ترمز إلى أن التخلف ، في العالم العربي ، ممهد أسنى للاستعمار.
وبهذا فإن هذين النصين التأسيسيين " صندوق العجائب " لأحمد الصفريوي ، و " الماضي البسيط لإدريس الشرايبي كانا ، ولا يزالا تحفا فنية ، اعتمدا على أسلوب التشظي السردي و الإيقاعي في انحدار سريع إلى ما هو شعري . هذا التداخل السريع في الأزمنة والأمكنة ، وخصوصا عند الشرايبي ، نعته بعض النقاد ب" فوكنر المغربي " ، حيث استلهم من المدرسة الأمريكية ، التقاطع و التنافر في كل مكونات عمله الروائي .