من خلف جلمود يفصل بحرين يتصاعد دخان سيجارته الكثيف ليختلط مع ضباب المساء الناعم وتذوب رائحته في عطر البحر العابق. تفقد قيثارته بثبات ووضعها بين ذراعَيه ثم استند إلى الأرض في حركة الكهول، تسلق صعودا حتى استقر فوق قمة الصخرة وداعب الأوثار لتصدر ألحانًا حزينة تدمي لها قلوب النسور وتدمع لها عيون الأسود. يستمع بتأثر إلى تقاسيمه وهي تتردد في الأفق ويراقصها النسيم على إيقاعات تياراته الباردة…
تتلاعب به الذاكرة وتأخذه إلى كل مكان مظلم يأبى النور، وتتزاحم في مخيلته الأفكار كلما ارتطم الموج على صخور الشاطئ وتتوارى كالأشباح كلما خمدت في أعماق البحر. يغيب عن الوعي للحظات ويستفيق عندما تحط فوق وجهه قطرات الماء البارد ويتذوق لسانه ملوحتها. يتألم في صمت ويبكي في سكون. يضيق صدره ويكاد قلبه يرفض الخفقان. يترجل بجانب الشاطئ ويسافر عبر الزمن، يسترجع أولى البدايات حين لامست قدماه هذه الأرض العابثة، ويمر شريط أسود أمام عينيه في ومضات. ينحني ويلتقط حصى ويرمي به إلى البحر معاتبًا إياه على تلك الخطيئة التي ارتكبها في حقه.
يتأسف ويتأوه، ثم يجر قدميه على الرمل ويلتقي بالأماكن التي أخفته عن عيون الشرطة والمتطفلين. توقف كعادته أمام الكوخ الذي رقد فيه رفقة أطفال وشباب وكهول، ذكور وإناث نسلوا من كل حدب و صوب، هاربين من بؤس السياسة وويلات المجتمع، فاشتعلت في دواخله آهات وأوجاع. تطلع بنظرات حائرة في الأرجاء وبحث عن ذاته وعن سر هذا القدر الأليم، تفحص الأشياء المبعثرة وتحسس الجدران المحفورة وتساءل عن مصير أولئك الحالمين بالفردوس الموعود. علق قيثارته في ذلك المسمار الذي علقها فيه وَقْتَذَاكَ وقعد القرفصاء في نفس المكان الذي قعد فيه وَقْتَئِذٍ، ورحل ببصره نحو النافدة الوحيدة التي كانت تمدهم بإكسير الحياة، ثم أخرج من جيب معطفه الداكن منديلا ورديا ومسح به وجهه كما كانت تفعل حبيبته وهو يرتمي بين أحضانها تحت شجرة اللوز في فضاء جبلي فسيح تزخرفه أزهار الربيع وتمتزج في سمائه الزرقاء زقزقة العصافير بطنين النحل، ثم تمتم بكلمات تسكنها نبرات الحزن والندم:
- آه منك يا زمان!
تلمس محفظته التي ورثها عن أسلافه واستنشق رائحة جلدها وطلائها النباتي، ثم تفقدها بلهفة كأنه لا يعلم أنه عبث بما كان فيها من مال، أمه وحدها تعلم كم عانت من أجله. قفز فجأة من مكانه ولعن بصوت مبحوح وصدر مجروح الأحداث التي ساقته نحو هذا المصير المشؤوم وتذكر كلمات أمه في أخر لقاء بينهما كنذير الليل المنحوس :
- لقد بعت كل ما أملك من حلي وماشية من أجلك...
استرجع نظراتها العابسة وقسمات وجهها الصارمة وهي تردد على مسامعه جملة ظلت ترافقه في زفراته وشهقاته:
- لا تشمت بي الأعداء...
تجرع كأس العلقم حتى ثمالتها وخرج من الكوخ ذليل القلب والآمال، صادف قطعة من الخشب لفضها البحر بجانب قارب محطم، جثا على ركبتيه وهزها بعنف في كل اتجاه ثم رمى بها إلى البحر منتقما منها على ما فعلت به، ما كان لها أن تطفو به بعد ما تحطم قاربه ومات كل رفاقه، ما كان لها أن تسبح به نحو باخرة الإنقاذ، ما كان لها أن تسلك ذاك الاتجاه.. ثم قام منتصبا وتوجه نحو البحر:
- أيها العابث بمصائر العباد، كان ينبغي أن تعبر بي نحو الجنة أو تتركني أموت وتدفن خِزيي في أعماقك...
يرخي اليل عتمته ويصل به المسير إلى المقهى التي رُسمت على كراسيها البدايات وعلى منصتها حُفرت النهايات، وبين جدرانها اختزلت أحلامه من موسيقي مرموق تطوقه أيادي الجميلات إلى عازف قيثارة بائس تلعنه ألسنة العاهرات.