إنّ الرّوحَ عنيدةٌ عنِتةٌ.. وهو ما يجعلُ مسألة تجاوبِ الأرواحِ وتمازجِها نادرةً.. أمّا الجسدُ فهجينٌ، مِطواعٌ، هَشٌّ،لا هويّة له.. إنّه رِخْوٌ سائلٌ. لا أصالة في الجسدِ.. إنّه مُنْبتٌّ اندماجيٌّ سرعان ما ينحلُّ ويضمحِلُّ..
روحي أكثر تمرّدا وتماسكًا أيّها الجسدُ ! .. كمْ أنّك انحداريٌّ سفوليٌّ فيما الرّوحُ ترفرِفُ في فِجاجِكَ مسكونةً بِعاصفةِ الخَفْقِ و الطيران ! إنّ دبيب الرّوحِ، شوْقٌ إلى سِنْخِها المتعالي.. يالغباوةِ الأجسادِ!..
في فجر التّاسع و العشرين، كنّا نجسّ الجسد اطمئنانا على الحياة أوّلا و لنروم السّفر إلى اللّحظة الأبعد ثانيا.. إنّ في جسّ الجسد اقتفاءً لأثر ميكانزمات الرّوح..
أمتطي موجة فريدة تركض بي في الفضاء.. ماذا لو أنّ أحدا يشاركني اعتلاءَ هذي المطيّة.. إنّ الجسد عبير حرّ .. فائض عن حدود مكانه و زمانه.. يروم بلوغ اللّحظة الأبعد. يروم بلوغ البعد الأبعد من تلك اللّحظة..
لا يكون الجسدُ حينئذ مَطلبا لذاته. هو مَعْبر جماليّ نحو فضاء جماليّ متخيّل. هو مساحة لاختبار نشأة المتعة المتلألئة، ذات الرّغوات الرقراقة. إنّه فضاء جماليّ أوّليّ يفتح على فضاء آخر أوسعَ أبعد أعمق أدومَ.. لن يكون وصفُ الجسد حينها، منتهى غاية القلم المنهمِكِ وصْفا، لن يكون أقصى أشواط دهشة الواصف إذ هو الدّهشة نفسُها و هي تتبلورُ و تُعِدّ مناخَ كينونة ما يتعلّق بها.. لن يكونَ حقْلُ اشتغال الوصف بحشْد موصوفاته حشدا حياديّا.. هو لن يكون نقطة ختامٍ تُدْرَكُ، محطّة الرّحلة الذهبيّة التي يقطعها صاحبُه مصحوبا بحرارة عابرة .. سيكون الجسد راحلة الرّحلة التي تغامِرُ و يُغامَرُ بها في متاهات القبْح ،حيث يكون نصب عينيه جمالٌ مرصود.. هو عنوان اللّحظة الأبعد، هو مفتاح جماليّ للجمال الثّاوي في اللّحظة الغائرة..
إنّ الجسد مساحة عبور لذيذة للحظةِ لذاذة أبعد.. و ليس عليه عندئذ أن يُقْهر بالإلغاء، و لا أن يُنْظَرَ إليه بعين الشفقة و الحنوّ أو الاستخفاف.. سيكون الجسدُ إزميلا ينحتُ فينا حضوره، وينحتُ بنا حضوره، وينحتنا بحضوره.
ماذا لو تكون الأشياء أكثر ألفة و تصويرا للعمقِ أصفى ؟
هناك، في ناصية المسافة المتبقية، ثمّة معنى مجرّد يسمّونه الحبّ، ينتظر بشغف ناشف كيف يصل به الجسدُ(إليْه) إلى لحظته البعيدة.. الحبّ بذاته ليس هو اللحظة الأبعد هو لحظة بعيدة في مسيرة الجسد المرتحل نحو الدّيمومة البعيدة.. ماذا تكون اللّحظة الأبعد؟ إنّها ديمومة ألَقِ الجسد ونخوة الرّوح.. لن يكون الحبّ حياديّا صرفا.. إنّه يقطع نفسَ الأشواط التي يقطعها الجسدُ، ويجوب نفسَ منطقة عبوره الجماليّ، و يحيا بنعومة عمياء لذيذة، نفسَ أطوار الغبطة التي يحياها في انتفاضاته اللّذيذة النّاعمة العمياء.. إنّ الحبّ يسكن الجسد رخيما، يريد أن يتناهى، غير أنّه يسبق الجسد إلى خطّ النّهاية حيث المغسل، حيث يتناهى عند المغسل، حيث الدّيمومة هي المغسل - تلك اللّحظة الأبعد غورا، اللحظة الكثيفة، لا ريب أنّها خارقة الصّمت والجلال.. تلك هي النّشوة الخالصة.
كيف يقطع الجسد أشواط عبوره الجماليّ مِخيالا لا حقيقة، مخيالا كالحقيقة، مخيالا أرقّ من الحقيقة، و أكثر ترسّخا منها في الخلود، و لونه أشدّ جاذبيّة من لونها؟ يصبح الجسد فراشة بيضاء تتهجّى طيرانها، تتعثّر في أزهار المتعة.. و ترنّق بحريّة نشدانا لمساحات فسيحة في اللّحظة الأبعد من اللّحظة الأبعد.. يصبح الجسد غيمة، لا شكّ نقيّة و ثريّة بينابيعها، تترنّح في سماء، لا أقول محض صافية، لأنّ بها شوْبا من كدر خفيف. لكنّ الغيمة تترنّح جذلى، تختال لتختار موطن هطولها الأشدّ لهفة، الأمضّ ظمأ..
تعالي.. تعالي، أيتها الغيمة الماطرة رِهامًا.. إنّ الأرض لُهاث مرّ ، و حنين سميك يتخاذل .. هنا سيكون الجسدُ غيمة و التّراب جسدا..
ليلة التّاسع و العشرين من مساحة اللّحظة الأبعد، بعد انحباس فظّ، تنثُّ الغيمة برقّتها النقيّة فوق الأرض المنكمشة ثلوجَ الحلم و الرقّة..
كان للغيمة صوت.. كان لهطولها همْس متقطّعٌ متباعدُ الخُفوت، لا يكاد يتّضح حتّى تتخافى معالمه في الأثير.. إنّ التّباعد سرّ التّواصل و الوصول.. و التقطّعُ مشروع حرمان الوصلة الجميلة.. إنّ الغيمة عطشى، مفعمة بالماء، و عَطشى. هي أيضا يُسمع منها لهاثٌ طائر ، متقطّع.. كانت الغيمة دليلَ صدًى.. كانت تحذق فنَّ العطش.. تحذق الغيمة فنَّ الهُطول نبْسًا و لهاثا.. تَرْوي الغيمة بالهمس عطشَ َالأرض. تذرف الغيمة أنينا ليس منه ألذّ .. الأنين مبتور.. انبتاراته المتتالية بلون الرّحمة.. الأنين الموتور حينا و المبتور آخر حوريّات من موج.. تستدرجُ حوريّات الموج نحو تيّار من بهجةٍ شرسة.. تكون البهجة الشّرسة أجملَ حين تتشحُ بالصّمت.. و يظلّ اللّهاث رخيما..
"اشششتْ.. ".
أين تعلّمتِ الغيمة هذا السّحرَ من الأنين ! متى تمرّنت الغيمة على ذاك اللّهاث الرّخيم المتموّج ! كيف تسنّى للغيمة أن تمتلك ذلك الكمّ النوعيّ من متعة الأنين ! الأنين نوتة تنخفض بالعزف إلى حدود الموت، و لا موْت.. فالعزف فوق الموت. الموت يُنجز فعلا محدودا في الزمان و منتهيا في المكان.. الموت لا يُفني المجرّدات.. العزف يتفشّى في الكون مستعصيا على أن يُحاط به.. العزف و الضّوء والعطر و الصّوت و الرّوح... و ما شابه، تتفشّى فتحْيا..
"اشششت".. و يُسمعُ منها لهاث.. وكان اللّهاثُ دفقةَ موسيقى الماءِ تَفْجَأ الحسَّ.. اللّهاث علوٌّ لماءِ الموسيقى في فضاء اللّحظة الأبعد حتّى حدود الطّيران و الانمحاء، في نقطة الكون الصّفر المتْرع بما يتفشّى فيه.. و لا انمحاء.. "اشششت".. الحسنُ سكونٌ كامل.. السّكونُ أثناء الأنين الماتعِ، حُسْنٌ عنيف أرجوانيّ سابح..
- اششت. دع الأشياء تنفعلُ..دعها تفعل ذاتها بذاتها..
- هل أصمت؟
- اشششتْ.
- ليس سوى الكلام أداة إبصار؟
- اششت.. هيتَ لك..
- أين الضّوء؟
- اشششتْ..
ينطق التّراب:
أنا مؤدّب. أجل، و بدرجة عالية. أصغي بجشع إلى الصمت. أرنو إلى السّكون..ها هي أزرار قميص الغيمة تتفتّق عن فتحاتها.. للغيمة أكمام من فوق قميص أبيض.. أزرار الأشياء ترقصُ وهي تتفتّق.. للأزرار إيقاع نورانيّ.. للأزرار ضوء إيقاعيّ الانسياب.. الضوء تحوّل زرّا.. والإيقاع كذلك أزرار تتناتر في كلّ اتّجاه.. نسمات هواء ذو برودة رخيّة تستجمع نعومةَ مطر قادم.. نسمات هواء تهبّ بثراء بحمولة محمومة من نغَـم.. ثمّة مغامرة خصيبة في الرّوح.. هي مغامرة للرّوح، معبرها الجسد العابر إلى أفقٍ من لهاث بنفسجيّ و بخارٍ بكلّ التّلاوين .. ألوان شهوانيّة تخدّر اليقظة..
كان ثمّة روح ثمِلة تنهض لثمْلةٍ أخرى.. أشياء في الروح تكسر أكفانها.. و ما أكفان الرّوح؟: روح لا تستجيب استيقاظا لجسد يجتهد أن يكون لنفسه بنفسه لا غير.. جسد مغرور ببراعاته التي لا توقظ الرّوح.. و من الأكفان أنْ لا تزامنَ في تناغم حالات جنون الجسد و جنون الرّوح..
ماذا في طيّات الغيمة البيضاء المكنونة بسواد خاطف؟ اللحظة الأبعد هي تلك التي تتكسّر أبدا ولا تنكسر مطلقا.. نخالها كانت فإذا هي زيْـغ و انفلات يتواتر في اطّراد..
- اششت.. اممم..
- أعشق هذا الصّمتَ.. أشتقّ من أصوات اششتْ فِـعْــلا: أشَشْتُ. و أقوله: أشَشْتُ..
الغيمة التي تتأهّب للنّحيب البطيء تتلألأ بالدّمع.. الغيمة الصّامتة المزدحمة بمطر الأنين، باللّهاث البنفسجيّ المشتّت، بعطشها المنسكب على يبس العالم، تؤرّخ لبخار الأرض الصاعد.. تؤرّخ لسيادة النّار تُطفئها فلا تخبو.. أنا صمتٌ لهِـــبٌ.. أنا لهَبٌ صَموتٌ..
تحدّق الغيمة في التّراب و هي تنزل فيه.. يحدّق التّراب في الغيمة و هو يصعدها.. وجهها يأكل وجهَه. وجهه يكلأ وجهها.. و لا يستقرّ المتناظران على التّناظر.. تضحك الغيمة خجلا من صرامة الشهوة في وجه التّراب.. تضحك.. يشرب التّرابُ الضّحك. يكون لضحكها في روح التّراب فعل منسكبٌ.. الانسكابُ صوتٌ . الصوت ماء.. كيف توصَف البرهة الخاطفة ! يخطف الصّوتُ الرّوحَ من مسافاتها الفارغة.. يملؤها بنكهة خلاّبة، لها بَرْقة الحلم الصّافي، لها من طُعوم الغلمة مساغ. لها رائحةُ جذلٍ فريد، لها مرأى مكتمل الوضَح من خلال حُجُب الغموض.. تهمس الغيمة :"اشششت".. و لهِجتْ بضحِكٍ حريريّ..
يئنّ التّراب:
مزيدا من لهاث اللّهفة كي أمتثل لصمت العطش.. أطلب الأنْفاسَ لا شيء غيرها يمطرني.
لا شيء غير الأنفاس و الضّحك و اللّهاث، ورائحة البخار السّخن الوارد من سماء بعيدة.. هذا ما يمنح الكائنَ أقساطَ اللّهفة المرتجاة المتصاعدة.. كلّ ما تجاوز العطاءَ الصّامت المحكوم ب"اششت"، فهو مزوّر مشبوه، هو لا يمْنحْـَـنّك مسافة اللهفة التي يطلبها الكمال، و لا احتمالَ تشكيل المتعة التي ينسجها الخيال.. هو مُتعة صادمة، سرعان ما تنطفئ..
تعالي أيّتها الغيمة.. أغدقي عليّ السحرَ الكتيم.. هات وجهكِ اللّهفان.. و أمطري..
ليس الجنسُ مجرّد لقاءٍ لجسديْن موسوم بلحظته السّخنة المباشرة.. ليسَهُ مباشرةَ البشرةِ للبشرة. احتكاكا.. ليست الشّهوة مجرّد برْق عرضيّ.. هي برْقٌ طويل، خُلّبٌ خلاّبٌ و طويل( يجدر بها أن تكون) .. ليست الشهوة سوى اتصال متقطّع. ليست سوى انقطاع متّصل.. إنِ الحبُّ إلاّ مصاحباتُ الحبّ.. مصاحبات الجسد إبّان تجسّده هو أن نقوى على استحضار كلّ المجرّدات المحلّقة في لحظة التجسّد.. ما سُمّي الجسد جسدا إلاّ لأنّه يتجسّد، موكول له هذه السّمة.. و ما سُمّيت الرّوح روحا إلاّ لأنّها تغدو و تروح.. تتفشّى في الكون، ذرّاته و التّفاصيل القصيّة..
الروح التي ترتديها تلك الغيمة رخيمة.. أسمع و أنا فيها، خريرا.. و نقراتٍ من ضوء..
مصاحبات الجسد هو أن تجعل المجرّدات بما في ذلك الرّوح، تحطّ من شواهقها، لتراقبَ الجسدَ عن كثب، تأمره،أن يتوهّج بإتقان، تعضده في خذلانه إن تخاذل، تلومه على أداء مشوّه منقوص.. تحثّه على أداءٍ رفيع.. ليس الحبّ سوى أشواط تترى من الخيال الحافّ بالحقيقة لديمومة ملحوظة.. على تلك الدّيمومة أن تكون ملحوظة مغذّية و عذبة ..
- أيّتها الغيمة، حرّضي بالخيال يُبْسي على أن ينفتح لاستقبال مصاحبات جسدك.. هذا هو الأمر البارع..
تنام الغيمة في بياضها العاري و تنسى أن تُمطر.. و مع ذلك ندرك قاع اللّحظة الفسيح حيث تغيض متعة أبديّة.
_______________