بساط من شقائق النعمان و زهور الياسمين، تحضن شمس الأصيل و تراقصها. أطفال من علية القوم بأزيائهم البهية، يتسلقون شجرات التوت الوارفة الظلال، المتناثرة كعساكر تحرس الحقول على طريق سلا. يتطلعون في أمهاتهم و هن يتكلفن في الكلام و يتصنعن ما يليق بالسيدات، زوجات العمال و القضاة و قادة الجيش. في مثل هذا الوقت من كل عام، يخرجن إلى الحقول المترامية قرب الرياض العنبري للنزهة مع أولادهن، يحرسهن بعض العبيد، يفترشن قطائف زيانية تزينها موزونات تتلألأ كالمرايا و تبهر النظر.
كانت تتحاشى لقاء نظرتيهما، تحاول في كل مرة إخفاء ارتباكها بالحديث عن جمال الورود المختلفة الألوان. كلما كلمتها سيدتها، اصطنعت ابتسامات كاذبة و ارتسم الوجوم على وجهها و عادت إلى شرودها. أخبرها رودريغ أن السلطان يدبر مؤامرة على مدينة أخواله، و أن ضربته ستكون قاسية. لا تدري، إن هي أفشت سر المؤامرة، ماذا يكون مصيرها و مصير فارسها و من معه من نصارى الجيش السلطاني.
أمسك رودريغ بالمقذوف لتلقيم المدفع و يداه ترتجفان. لم تكن تهمه قصور المدينة التي تغنى بها الركبان، و لا مسجدها الأعظم و لا حماماتها و حاراتها ولا بساتينها، ذهب عقله نحو بيت سيدة تخدمها حبيبته، أسر لها بالأمر و أصر عليها بالمغادرة، لكنه لا يعرف أين حلت. كان من بين الذين توسلوا السلطان بإمهال السكان وقتا، ليجمعوا أغراضهم و يغادروا المدينة في سلام. رفض عبد الله بن إسماعيل كل المساعي و أمر بهدم المدينة على رؤوس من فيها. قام بنفسه بعد الفجر، يمتطي فرسا بالبطحاء و يقود الهديم و يأمر بالقصف. في اللحظة التي أشعل فيها رودريغ الفتيل، سلمه رجل من العبيد ورقة، قرأها على عجل فانفرجت أساريره، و قذف بالكور بلا تردد.
نساؤهم لا تصرخن و أطفالهم لا يبكون، وحدهن الخادمات يولولن و ينادين هل هنا من رجال. الرجال أسقط في يدهم و لا طاقة لهم بجنود حاقدين. ترك الناس كل شيء و فروا إلى حقول الرياض على أطراف المدينة. أكملت الفؤوس و المعاول ما بدأته الأنفاض، و ما انتصف النهار حتى صارت مدينة الرياض العنبري كومة من التراب.
توقف المنفيون في أرض الحمرية، تطاولت أعناقهم جهة مدينتهم المنكوبة، لعلهم يحظون بنظرة وداع. لم تسعفهم أسوار المرابطين و لا القصبة الإسماعيلية، و احتجب عنهم رياضهم إلا من عمود أتربة متطايرة و دخان و غبار تسمر في السماء.
عندما ركبت السيدة ناقتها، تحرك الجمع صوب فاس. أفضت لرجل يمسك بالخطام، بنبرة ندم و أسى. تكلمه و هو كالأصم لا يبدو عليه أي انفعال. مر بها وجوم خادمتها النصرانية و هن في نزهة الأمس، شاردة و متوجسة من أي حديث. لا شك أنها كانت على علم بتدبير الرهط، و لا بد أن عشيقها كان مع النصارى و الحاقدين من العبيد الذين أتوا على المدينة هدما و ردما. ضربت بعكازة على كتف الرجل بلطف لعله يبدي اهتماما، تكلمت تسمعه:
- عندما سألتها عن سبب صمتها الغريب، ترددت قبل أن تفك عقدة لسانها، أخبرتني أن النصارى و الشعابنية و بعض المنبوذين من جيش العبيد، يملؤون بطحاء باب المنصور بالكور و الأنفاض و المعاول و الفؤوس، و أن سوقة مكناسة و دهمائها يتحدثون عن الهديم. رأيتها بعد ذلك أكثر ارتياحا، كأنها أزاحت جبلا أثقل كاهلها. لم أفهم المغزى و ما كانت ترمي إليه، عرفت الآن أنها كانت تحذرني.
قرب العين الصافية، جلست تنتظر فارسها يوما كاملا. كادت الوساوس تدمرها، لعل الرسالة لم تصله، لعله لم يحظ بمكافأة السلطان، أو ربما أصابه مكروه. لم تهدأ بالا حتى رأته قادما من خلف الشمس. امتطت الفرس خلف رودريغ، لفت يديها حوله واختفيا.