" إنك تتحسس طريق الذين عبروا قبلك. يالك من أحمق أيها الشقي، كم يلزمك من حيوات لمعرفة الطريق؟"
كاتب سها البال عن ذكر اسمه.
حين توقع مارشينا أنه منذور لشيء عظيم، رفع بصره إلى السماء ليتلمس وجهة الغروب، فهذا النذر يرتبط في ذهنه أو قواه النفسية بالأشعة الوردية على الساحل الباسكي ببياريتز. كانت الأشعة قد مرت على معصمه، منزلقة على ساعته المتوقفة عند الساعة السابعة. كان بإمكان هذا النذر أن يكون سباقا، ويلقي بثقله عنوة وسط النهار. لكنها مسألة مبنية على مشاورات حسية، تسعفها عوامل خارجية كذلك؛ كيوم خال من الغيوم، وشمس لذيذة الملمس تخترق العصب الحركي، وجلال الصمت المنغمر بين ثنايا الموج حين يصدح، ويرجرج كسوة مده إلى شريط الرمل، أو نباح كلب السيد باستيان المتواصل، المؤشر على ميعاد خروجه بغية إلقاء حاجاته الطبيعية، وجريه ودورانه على نفسه، متوهما أنه يشاكس كلبا آخر بحركة من طقمه بتهديد لطيف. وحتى يقف عند القصد الذي لا يخذله، فقد أحس أنه لا يملك القدرة على تحمل جسده، إن لم تقل: إن ثمة خلطا في فهم الإحساس بين النذر والصدف الغامضة والحلم الصاحي، بعبارة أدق؛ إنها مرحلة تخطي القنوط والرتابة وديمومة الشعور إلى ذلك الحشد المنسجم مع الحواس كنوبة موسيقى أو مخدر يدب دبيبه إلى مراكز السعادة و موطن الأسرار عقب انتعاشة يرشح معها عرق بارد، تتدحرج حبيباته على ظهره حد المفرق.
كان على مارشينا أن يسيّج هذه الأحاسيس، ويلقي ببصره صوب الصخرة المستوية أو بالأحرى بجانبها، حتى يترجم هذا النذر من الطبيعة الحسية إلى الرؤية المادية الملموسة، وتتلقف عيناه المحفظة اليدوية الزرقاء الممهورة برقم سبعة بلون أبيض على واجهتها. فقد أحس بانجذاب إلى غلق عينيه على وجه السرعة ليخمن أو يستشعر محتوى المحفظة قبل الفتح. إنها رياضة ذهنية تلازمه، يتطلع من خلالها إلى التنبؤ بقيمة نذره، مع العلم أنه استبعد المال نهائيا عن هذا التصور، فهو يعلم أن المحفظة للسيناريست بيتر فيرتيل، ضيف المدينة، حيث أشار صديقه بشينتي موظف الاستقبال بفندق "القصر" قبل يومين حين زاره بموقع عمله، مؤكدا ذلك بعد أن فتح عينيه إلى حدهما الأقصى حتى يدب اليقين الكامل إلى مارشينا: سيقدم لنا خدمة مجانية نحن الباسك بأقاليمنا السبعة، ويعرف بنزوعاتنا للعالم، لقد عمل على تحويل رواية إرنست همنغواي" وتشرق الشمس مرة ثانية" إلى فيلم، سيمثل في القريب بمدينة بامبلونا مسرح الأحداث الحقيقية. لكن، شغفه بالساحل الباسكي جاء نتيجة تحفيز صديقه همنغواي على ذلك، إنه يقطن الآن بالغرفة رقم سبعة.
وأردف ذلك بابتسامة يشوبها بعض السعال الخفيف، مفشيا له سر اللوح السابع المخفي كذلك.
كانت اللطمة الأخيرة من اللون الوردي ارتسمت على عيني مارشينا المقفولتين، و نسج حيز المفاضلة بين لمس المحفظة والصورة المكرسة لانبعاث همنغواي وهو يلبس قميصا أزرق مفتوح الأزرار بصدره المشعر العسلي العرقان من فرط شموس سواحل فلوريدا. كانت الطاولة تخفي باقي جسده في مطعم و بار "سبعة دلافين" فانقبضت أساريره، يتذكر ذلك مليا، فقد عاوده نفس الإحساس حالما رآه يأكل ويشرب بجرعة زائدة من الثقة المنسجمة مع عقدة تفوق الإنسان الأمريكي، و ضاعف من حدة التوتر النفسي بينهما ساعة كان يلاعب الأمواج بلوحه على شاكلة سمكة مجتبيا الموجة العاتية في استعراض سلب لب الكل، لحظتها تأتى له رؤية جسد همنغواي كاملا هذه المرة. فطن مارشينا أنها إشارات ضمنية حركتها حواسه الآنية فقط، ففتح عينيه متجها صوب العمود الضوئي المترنح ليخرج النذر من المحفظة الذي كان عبارة عن مذكرة وقلم رصاص.
كان العنوان مستفزا إلى حد ما. ذلك الاستفزاز القائم على رغبة جاهزة. أحس بأن النذر لم يكتمل بعد، مادامت اللغة تخفي باستعداد قبلي عقدة التفوق، وتنخس الاستبطانات أو التفاعلات، فالإنسان الباسكي يكرس ميثولوجيته تحت التراب لا على الأرض أو الموج أو كالآخر المتطلع إلى السماء. كان العنوان: " كيف تقضي ستة أيام على ساحل الباسك وتنتظر اليوم السابع"، يفيد المجاوزة من خلال كلمة "على". كان من الأجدر أو من حسن اللباقة أن يدرج السيناريست بيتر فيرتيل كلمة "في"، حتى ينسجم التطلع مع حقيقة المكان. لم يمهله الضوء المترنح وعيناه المتوحشتان، فاندفع إلى لملمة اللغة والإحساس معا في أقرب مدة ممكنة كجشع حيوان مفترس ليلا، لحظة سقوط الضوء عليه:
السبت 1 يوليوز 1957
الوصول كلمة مرعبة نفسيا، نعتقد أننا خرجنا من المحطة الأخيرة لكننا نصادف المحطات أكثر ترصدا لنا.. لا أعلم ما السبب الذي يجهدنا على زيارة المدينة دون أن نأخذ قسطا من الراحة بالفندق؟ إنها خشية فقدان الطعم الطازج أو الرغبة في امتلاك الجانب الخفي قبل أن نخلد للراحة في اليوم الأول.
بيارتيز مدينة جميلة من حقها أن تتزيا بنفس برجوازي، وتقرع أحذية نسائها ساحتها المبلطة، وتنتشي بجودة شرابها و لحم خنازيرها.. البحر؛ هذا الأخضر اللامتناهي أفعمني أن أشرب نخب صداقتنا على ساحله.. وسأسهر في الغالب في الكازينو رفقة الشرس همنغواي.. أتمنى أن يسعفني جسدي المنهك من سفرة طويلة في ذلك...
الأحد 2 يوليوز
في الباسك يمكن أن ترى ظلك وظل الآخرين. الأحد هنا أشبه بتوماس الثخين حين يستفيق منهكا من ليلة حافلة بالصخب والمضاجعة بصوته الأجش، فلا مفر إذن سوى الساحل بعد أن نفدت كل حيلي في التخلص من همنغواي الشرس الذي بدا ثقيل الكلفة حالما كسر لوحي السادس على سواحل فلوريدا.
سقت السيارة لأختفي وراء التل حتى لا يقتفي أثري، أعلم أن صيد الأسود علمه عادة الإصرار اللعين، فلا رغبة لدي في أن يقاسمني لوحي السابع، إنها المرة الأولى التي سأجربه فيها كأنك تعقد موعدا للحب في بداية مراهقتك.
هنا على الساحل الباسكي سأبعث بسلامي إلى الثخين توماس في الجهة المقابلة ومتواريا عن اللعين همنغواي الشرس.
بالفعل كان يوما لا كالمعتاد. الموج راقه لوحي السابع. لكن على العموم كان الأحد متثائبا كعجوز تحلم بطرق أي كان على بابها.
الاثنين 3 يوليوز
الانتظار لعنة القديسين. كان علينا أن نمعن النظر في الوجوه الخفية التي ستربك حسابات فرانكو، والتعامل مع وجوه باسكية تحمل نوعا من النفور المبطن خاصة في مشاهد مسابقات الثيران. عكفت بغرفتي، أشرب وأتتبع مسالك الحب مع شانتال، يبدو أننا عوضنا نهاية الأسبوع ببدايته، رغم إلحاح الشرس همنغواي على أن نقوم بجولة بمركب السيد إيناكي عبر نهر لادور، ونقيم حفلة شواء على جادته.
كانت الشمس تعبر كل الغرفة والبحر يبدو هادئا حد السماء. ليس ثمة ما يبشر بموجة ترعب لوحي السابع. فانسقنا للشراب والموسيقى والحب، وقد تحددت سلفا طبيعة الوجوه التي ستؤجج الطرح الباسكي المبطن وتكريم الراهب فيرمين.
الثلاثاء4 يوليوز
الشرس همنغواي يعجل بسفرة إلى باريس، يطلب مني مرافقته، يرغب في أن يلملم ما تبقى من أشلاء سيرته الذاتية وحماقات الجيل الضائع، لم يفضل منهم عدا إزرا باوند على قيد الحياة، أخبرني أنه سيشرع في كتابة رواية في الخريف المقبل بكوبا.
لم تكن لدي الرغبة في السفر معه، سأستغل غيابه وأبتهج بالموج، لحسن الحظ أن الجو انقلب وتعالت حدة الموج حيث تماهى مع اللوح حد الغروب ، وبعدها خلدت لنوم وثير.
الأربعاء 5 يوليوز
الهاتف يرن، يصلني صوت همنغواي مخمورا كحبل تدلى، يلح من جديد في أن ألحق به إلى باريس، يقبل اعتذاري على مضض، ناعتا إياي بكلب السيد جاكسون التائه ببلدة كيتشوم، لم أكن على درجة عالية من الحيوية على ممازحته، متعذرا بموظف الاستقبال، مفتعلا حوارا وهميا، فهذا اليوم خصصته لزيارة مدينة بايون المجاورة رفقة شانتال لتناول وجبة الغذاء مع الكاتب جون دلاي الذي أسهم في تحليل الأمراض النفسية التي ستحلق المستقبل، فقد بدا سخيفا للغاية، تحس كأنك مقبل على لحظة قيء مستفزة. شانتال تبدي ابتسامة بلهاء مقابل تحفيزه، فتمادى في ذلك. الإنسان في الحقيقة خنزير قذر.
الخميس 6 يوليوز
يوم التطلعات إلى السماء، يرجرج النزوعات الدينية في اللاوعي. كن صديقا للمسيح كما يؤكد والدي، إلا أنني أفضل الرسول بطرس الميتم بالبحر، سأكون ممتنا إذا صلبت بقوة الموجة السابعة مقلوب الرأس كالرسول بطرس، من شدة القوة.. من شدة الحب.. رعشة البحر الكبرى حين تنتصر على الروح في يوم جميل تشرق فيه الشمس من جديد...
( عادة لا أكتب مذكراتي في اليوم السابع لأنني أعيشها في اليوم السادس عنوة).
مارشينا أحس بنوع من الزهو. كان هو الآخر يطمر فكرة الجمال عن الموت، لكنه كان يجهل الكيفية التي تجعله يدرك هذا الجمال المبهم، أحس بنبضان قلبه يقرقع في جسده، فاستنارت شعلته الداخلية. هبت نسمة عذبة حملت معها بعض المنبهات الطازجة، سرت في جسده بحيوية دفعته إلى العطاس، فاتحة معها مسالك الانغمارات اللغوية وسطوة الاستجابات. فرك قلم الرصاص ولفه بين سبابته وإبهامه، واستمال يكتب بلغة باسكية محكمة، مجتبيا أفضل ما لديه، كأنه يعلم مسبقا أن المذكرة سيكتب لها السفر والحياة، أو على الأقل، ستتغنى بفقرة باسكية خالدة في ديمومة الذاكرة البصرية و الحافظة معا:
الجمعة 7 يوليوز
(كل اللحظات تبوء بإنهاء ما نفكر فيه عند الرجة الأولى من تكسير شفير الحلم، لنجد أنفسنا نصارع هذا الحلم في حد ذاته من أجل إعادته بالشكل الذي نرغب فيه، إلا أن ثمة قوى خفية محكومة بنظام مبهم، قد ندعوه نظام المصادفات الذي يتخذ أشكالا عدة عند أفق الموجة السابعة في اليوم السابع المنتظر...)
كانت الشمس قد بكرت بخصلاتها على جسد مارشينا في السابعة صباحا، يوم السابع من يوليوز. ثمة سبعة نوارس تحلق بعلو خفيض، زاعقة بترانيم أقرب للمواساة والعزاء بينه وبين اللوح السابع والمحفظة الزرقاء الممهورة برقم سبعة الأبيض. يمكن أن نقول بأن النذر اكتمل هذه المرة.
هشام ناجح كاتب مغربي يقيم بفرنسا