أعود إلى عالم الكتابة بعد أن لم يبق لي أحد في هذا العالم تقريبا . أمي أيضا غاضبة .
البارحة كان صرير باب غرفتها و أنا أدفعه حزينا و غامضا .
أصدقائي أيضا ليسوا هنا . بعضهم نائم . بعضهم في العمل . بعضهم منشغل في الحب و الضحكات الشبقية الزوجية الليلية و بعضهم أخذ ولده إلى حلاق القلق و الثرثرة .
أعود إلى الكتابة مثلما يعود محارب إلى قريته من جبهة مشتعلة . أعود ملوثا بشوق مشاغلة اللغة و التعثر فيها مثل جندي ترك ركبة في أتون الموت و عاد لينفض غبار المعارك عن الركبة الأخرى .
أول أمس سألني رجل غريب في البار :
- من أنت بالله ؟؟
فأجبته بكل ثقة :
- حيدر حيدر صاحب رواية الزمن الموحش .
من غبائه صدقني و قال :
- تشرفنا صديقي .
الليل في هذه المدينة طويل جدا و الروث اليميني منتشر في كل مكان .
هنا ، علي أن أعيش كما ينبغي الصمت . هنا زمن فظيع من المحن و السعال أثناء النوم و الذكريات و الفراغات الغبية .
هنا كي أعيش يجب أن أكون أنانيا .
هنا الآخر هو - بالضبط - الجحيم . جحيمي أنا في الحقيقة .
حتى قرى الريح الصحراوية و الزكام ضيعت طريقي إليها و بقيت وحيدا .
أبي أيضا كان يقول لي في سنوات الطفولة الأولى :
- إذا عدت متأخرا ، سأعلقك !!
في الحقيقة ، رحل أبي ذات مساء و تركني معلقا .
إشتغلت بعده مدرسا كسولا . إشتريت سيارة بقرض بنكي . كلما ضغطت على دواسة بنزينها تذكرت كم مشيت مثل الكلب حافيا .
مساء رحيله ، طبخ لنا الجيران عشاء بالنحيب .
أعشق روايات البؤس و الوسخ . شغلني قلم الروائي محمد شكري - عاشق حواري طنجة و مقهى السوق الكبير - طويلا . حاولت بعد ذلك تجاوزه بحنا مينة خاصة بعد أن قرأت ( وصيته ) الكافرة .
أنا من رائحة أبي ذر و عمار بن ياسر . أنا أيضا من أكفال القديس أوغسطينوس و الجد إبن خلدون . الملحد الطبيب إبن سينا كان يبالغ في السكر و كنت مرعوبا من شال الشهيد شهدي عطية و هو يشتم القومية البرجوازية الصغيرة .
في القرية كانت هنالك كلاب متوحشة كثيرة و كانت تعوي في كل مكان و تهر خلف الحياة البطيئة . يقول الشاعر مظفر النواب عنها :
- ضحكت منها و مني ... هي يقتلها سعارها و أنا يغتالني فرحي !!
أبي قبل أن يتركني معلقا من الخوف و العادات و التقاليد كان عاملا في المحجر . كان فنانا رهيبا . يقلع الحجارة الضخمة و يطلق من بين شفتيه صفيرا و آهات حزينة . لم يكن يعلم أنه كان يربي الذئب ليأكله في ريعان الكهولة .
قصيدة الشاعر عبد الرحمان الأبنودي تحمل إسم أمي العجوز ( يامنة ) . قصيدة شعبية مرهقة .
ليت الله خلق مزيدا من مذيعات الأخبار البيضاوات لنقتل و نحن نبحلق في الشاشات مزيدا من الوقت و يكتظ بعضنا بالرغبة من أجل ليالي الشتاء المظلمة .
هرعت إلى الباب مسرعا كأنني طفل بعد . لم يكن هنالك أحد . كان هري السمين مرة أخرى يتمحك مثلي من شدة الملل .
أحن إلى بطيخ القرية و كلابها و قططها السائبة و سمومها و زكامها .
عدت إلى عالم الكتابة بكل نقاوته و كل رذائله لأقتل مزيدا من الأصدقاء و الأحباب و الرفاق و مزيدا من أشجار التين و اللوز و الصنوبر المتطاوح على ضفاف الطريق .
أنا وحيد جدا و بعيد ، تماما مثل رأس زرافة بينما أمي هناك غاضبة و تقرض شفتيها من الغيظ .
عدت إلى عالم الكتابة لأصرخ و أرمي كل خساراتي الموجعة وراء ظهر النص .
عدت لأكتب كي لا يعود الذئب الذي أكل أبي و يأكلني ثم يمضمض فمه اللعينة بكوب طويل من الشاي .