صحا وتمطى، ثم هب من مرقده، وتيمم الحمام، يجر رجليه من وهن مجهول المصدر هدّ جسده هذه الأيام.
فرش أسنانه ، وتوضأ، وأسبغ، ثم صلى، والفجر يلفظ أنفاسه الأخيرة؛ ولما اتم تربع حيث صلى مطأطئ الرأس، مغمض العينين، يتلو بعض الأوراد في صمت عميق .
بعد لحظات ثقيلة قام ومشى على رؤوس أصابع رجليه الحافيتين ، حتى... لا يفطن لحراكه أحد... ودخل المطبخ.
على كرسي استوى قدّام مائدة طعام توسطت الأجواء بشكل مستفز؛ قد كان عليها عاصرة قهوة كهربائية، وفرن ميكرو أوند؛ من الأولى صب له كأسا، ومن الثاني أخرج هلالية محشوة ساخنة.
عالج الكاس بمكعب من السكر واحد .. لا غير ، وغطى الهلالية بغلالة مربى توت، ثم أخذ يحتسي، ويقضم ...
على مقربة منه كان "لابتوب" بالشاحن موصل ، فتحه ، ولما جهزت صفحة النيت أخذ يتصفح الصفحات الإليكترونية للجرائد والأسبوعيات... باحثا عن ما جد من الأخبار، وما تولد من جديد عن الأحداث السارية...
مأخوذا بالفضول ، تواقا لما جد ... وما حدث في المتغيرات من نفط ، وأسعار عملات ، وحتى الأحوال الجوية للبلد... سهم ـ إذا ـ وهام بين المواقع ، تقوده الروابط، والأيقونات حتى انفتحت أمامه صفحة الجزيرة ( مباشر). قبل أن تستقيم صورتها أمامه زرع سماعتين في أذنيه، ثم شابك يديه وراء رأسه مستندا عاتق الكرسي مادّا رجليه مدّا ليكون استواؤه أمثل، وجعل يتابع الأخبار الصباحية للسادسة وبين حين وآخر يستغل لحظات ما بين الفقرات ليمسح خلالها الشريط الأخباري الأحمر المتحرك أسفل الشاشة .
وعودةً مما استغرقه أحس بقلبه منقبضاً ، ونفسه مضطربا ، و غمامة حزن أسود بمساحة بدنه تتمدد داخله ، تأفف ، وتأفف لعله يدرأ عنه بسْطتها ، لكنها تحدت صدّه وأناخت بكلْكلها على صدره ، فتعكر المزاج الصباحي الرائق، وفتر النشاط الدافق.
قد أضحت نمطية الأحداث، والإخبار عنها، وصورها المدعمة لها تثير عنده ـ يوميا ـ غثيانا واضطرابا نفسيا ، أما شريط الجزيرة الأحمر فصار عنده مرادف دمار ودخان متعال، وأشلاء مموهة رفقا بمن تبقى من أصحاب القلوب الهشة ؛ ووقر في قراره أن الحضارة مسخ كشف عن سماجته وتبدى عهره جليا ...وأن ابن الإنسان ما بارح قيد أنملة غابه... كما يبدو له، وأن الأمس واليوم سيان عدا أن الأنياب صارت صواريخ والأذرع الباطشات راجمات و قاصفات جوية ، و ذين المخاتلة والمكر باتا اصطلاحا (بوليتيك) تعشعش بين الفنون والأدب ...
كم...ودّ أن يغير من هذه الفظاعة !
كم تمنى لو بإمكانه أن يرسم البسمات على الوجوه العابسة، ويبلسم بإكسير ما... ذي الجراح الغائرة، ويلأم الوشائج المتصدعة ! ..لكن، وجد نفسه أوهن من خيط عنكبوت بل، اضعف من نسمة ريح تموج وتهز بعنفوانها صفحة غدير..فلاذ بالصمت ...
حفاظا على توازنه النفسي ، وخروجا من دوامة جلد الذات وشجون الحسرة غادر صفحة الأخبار بأنواعها واستقر على موقع " التويتر" حيث غرد بتلقائية :
" الحياة مأساة...تكون أكثر درامية إن كنت تتفاعل معها، ولا تجرأ ، أو تقدر على تغيير وجهة الأحداث صوب منحى يضمن للجميع فسحة ملهاة..."
تأمل التغريدة وأعاد قراءتها أكثر من مرة ولما تيقن ان فيها شيئا منه بل ندفة من كآبته ومخيض انفعالاته، عرج على الفايس بوك حيث وزع شيئا من المحبة والإعجاب وتقاسم آراء وصورا، ورد على المسنجرات ثم اغلق اللابتوب، وقام بهدوء تام حتى يفك برفق تشنج عضلاته وأربطة مفاصله المنخورة بالروماتزم والعطالة.
وكأنه منوم، أو اوتوماتْ... لم يستوعب انى وكيف لبس ملابس خروجه ، وربط ربطة عنقه، وانحنى ليزيل بمحرمة ورقية بعض ملامح غبار من على وجه حذائه ثم ينتبه ليجد زوجته تتابع حركاته وسكناته باستغراب واهتمام وتسأله لما تيقنت من لمحه في بريق عينيها رزمة تساؤلات:
ـ إلى اين با عزيزي مبكرا؟
رد بفتور وهو يمرر مشطا ليسوي من عطالة شعره المنكوش امام المرآة:
ـ إلى العمل ... طبعا.
وكأن الجواب غير المنتظر منه هزها استغرابا فاستوت جالسة في مرقدها وقالت له بنبرة انكارية:
ـ أتمازحني؟ إنه الشؤم عينه عند الاصطباح بالهزل.
ضحك ضحكة في غمغمة ثم رد قائلا :
ـ إن اليوم ياعزيزتي الثامن من شتنبر، ولعله تاريخ مميز تمَيّز تواريخ أعياد ميلادنا...
نظرت إليه نظرة كئيبة، حاولت أن تحجب من حدتها بيديها ألمرتعشتين ثم ردت بصوت هامس:
كأني بك ازهمررت يا رجل... !
وجد ردها حامضا و مستفزا فاكتفى بأن اشاح عن وجهها في صمت لحظة وجدتها ـ هي ـ دهرا ثم اقبل عليها ليسألها في استغراب:
ماذا...؟ كيف لك أن تقولي ذلك ؟
ـ إنك يا عزيزي ـ بكل بساطة ـ قد تقاعدت... وحسم امرك فلا...شغل من تاريخه... !
لدى سماعه لجوابها أحس بحرارة تتولد في أعماقه، ما فتئت أن أخذت شحنة منها بمعظم رأسه ،ثم تحولت إلى دوخة خفيفة كاد أن يفقد على إثرها توازنه، بيد انه تماسك ،واسترد ـ ايضا ـ ذاكرته الشاردة معبّرا عن حلولها بضربة خفيفة على جبهته.
تهاوى جالسا على اريكة كانت وراءه وأخذ يفك بيد راعشة ربطة عنقه ..ولما استوى سكن وغفا في ثوان وما ...استيقظ .