لم تسعفني الكلمات عندما بدأت أكتب أول سطر في الحب، لم تكن موزونة كأبيات الشعراء، ولم تكن منمقة وسلسة كجمل الأدباء، لم يكن السجع من بينها ولا المجاز ولا الاستعارة، كانت حروفا متناثرة هنا وهناك، تبحت لها عن خيط ناظم ومستقر تأوي إليه وهي تكتشف خبايا الحب الذي اخترق فؤادي مع سبق الإصرار والترصد. راسلتها في زمن لم يعد فيه للقلم شأن كبير، أملا أن تحدث عباراتي الصادقة أثرا في نفسها. كتبت تخبرني عن أحلامها وطموحها فتطابقت رؤانا وتوحدت عواملنا.
تحدثنا عبر الهاتف، في ليال قضيناها سويا نخوض في كل شيء وأي شيء حتى لا نجد شيئا نخوض فيه فنصمت، ثم نتبادل عبارات العشق والغرام ونتماهى معها كأننا أرواح بدون أجساد تثقلها. نستحضر قصص قيس وليلى وروميو وجولييت .. وننسج لها من وحي الحب نهايات سعيدة. نبني بيت الحب لبنة لبنة، صرحا صرحا، نؤثث غرفه بأجمل الأثاث وأرقى اللوحات ونختار أمكنة الأسرة ونضع فيها أطفالنا ونطبطب عليهم ونغني على مسامعهم أعذب الألحان حتى يناموا في هدوء وسلام. تلك السعادة لم يكن يعكر صفوها سوى صوت نسائي يعلمنا بنفاد رصيد المكالمات. أحزن أشد الحزن لانقطاع الخط فجأة وأتذكر كلمات كنت أتأهب لقولها ولم يتسن لي ذلك. تم أستلقي فوق فراشي وأغوص في لوعة الحب التي لا تنطفئ، وأتخيل البلدان الجميلة التي سأزورها وأرسم بريشة الحب الصادق الحياة السعيدة التي سنعيشها في الدنيا وتستمر في الجنة في حلة لا أعلمها.
في الصباح، كان أكبر همي تعبئة رصيد الهاتف، أحيانا أحتفظ ببعض ما أسترده من البقال من نقود، في غفلة من أمي، وأحيانا أخرى أستلف من أحدهم بمبرر الصديق في وقت الشدة. وفي أوقات عديدة أقتطع بعض الدراهم من مخصصات الدراسة وأشياء أخرى أو أبيع بثمن بخس بعض الكتب التي أستطيع الاستغناء عنها. لم يكن يهمني ما يقال في غيابي من عبارات الاستهزاء، الأيام كفيلة بتلقينهم معاني الحب العظيمة. سيأتي يوم أتقلد فيه أحسن المناصب وأسدد تلك الدريهمات التافهة لأصحابها وأزيد عليها، سأوزع الهدايا والصدقات، وأنقد الأقارب والأصدقاء من براثين الفقر.
في ليلة ممطرة أرخت برودتها على سخونة حبنا، حدثتني عن القضاء والقدر في أمر الحب، فقلت لها بحماس: "الحب مثل الثورة لا يوقفها شيء لها قانونها الخاص، بل هي منبع قوانين الحياة والممات. أنا وأنت يا حبيبتي سيل جارف لا يوقفه أحد، شعب ثائر خلق لينتصر"، تم استشهدت ببيت شعري لازلت أحبه: "إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر". كانت تستمع إلى دفوعاتي عن إرادة المحبين بكل اهتمام رغم أنني كنت أحيانا أشعر بنبرة تشكيك في صوتها لم تنجح لحظة في إخفائها ولو حاولت. لم أشأ يوما أن أرى سنة الكون كما هي وليس كما أتمناها، كل الصعاب كانت تزول أمام حبنا الجارف.
دارت الأيام دورات وتسلل الفتور إلى علاقتنا وطفت إلى السطح متناقضات لم أهتم بها، كنت غارقا في بحر الهوى، تتقاذفني أمواجه بعيدا عن صخور الواقع وتأخذني إلى أجمل الجزر فأعيش في وهم ابتدعته. بعد مدة انتهت دراستي في الكلية وانتهى بذلك ما تبقى من دفء الحبيب الذي كان يهون علي آهات الحرمان والحاجة وعذاب التفكير في المستقبل. كتبت لها مذكرا بالوعود التي قطعناها والليالي التي قضيناها والأماكن التي ما تزال تتوهج جنباتها بلحظات جميلة كان الحساد يتمنون زوالها. ذكرتها بعبارات همسنا بها لبعضنا وبألقاب نادينا بها أنفسنا وبلمسات اختلسناها تحت سقف الغرام. كتبت وكتبت ولم يأتني جواب، سألت عنها الجيران والأزقة والشوارع والناس والحجر، فعلمت أن علاقتها بالبلدة قد انقطعت. تمنيت لو كنت مستبصرا أسبر أغوار الدنيا وأسافر إليها وأستردها فوق جناحي وأطير بها فوق السحاب وأطوف بها في الفضاء وأحط بها فوق القمر. أصبت بنوبات مرض شديد لم أبرأ منه قليلا إلا بمرور الأيام وظلت ألامه ترافقني حتى الأن.
روضتني الأقدار وأرغمتني على ترك مدينتي كارها بعدما أعياني الانتظار ونخرت روحي وجسمي ترسبات الماضي القريب. فابتسمت لي الأحداث على غير عادتها وقبلت موظفا بأجر لابأس به في إحدى الشركات في مدينة كبيرة لم أزرها من قبل. استأجرت شقة صغيرة وأثثتها بما ملكت من مال ثم وضعت صورتها ورسائلها فوق طاولة خشبية قبالة النافدة المطلة على الشارع لعل نسيم الهواء الداخل يحمل معه عبقها كلما لامسها أو مر من حولها. انهمكت في عملي بجد متناسيا مرارة الهجران.
في مساء أحد الأيام ارتأيت أن أستكشف المدينة، حاضرها ومستقبلها، أمكنتها وفضاءاتها، مساجدها وكنائسها.. جلست أستريح في إحدى الحدائق الجميلة، تحت ظل شجرة طاعنة في العمر وأستمع إلى زقزقة العصافير وأتمعن في رقصات الحب التي تؤديها الذكور تحت أنظار الإناث. فجأة لمحت شابة من بعيد تشبهها، تداركت نفسي: "يخلق من الشبه أربعين"، مرت من أمامي في مشهد الحب الذي تخيلناه بعد زواجنا، تمسك يده برقة ويخلل شعرها الناعم بأصابعه، تستند إليه بدلال ويضمها إليه بلطف. رمقتني بنظرات خاطفة، سكنت حركاتي وتوقفت المشاعر والأفكار عن التدفق والرموش عن الرف والقلب عن الخفقان، تتبعتها شاخصا حتى ركبت في سيارة كنا قد رسمناها في أحلامنا. ترجلت من مكاني وتبعتها في ذهول حتى توقفت، غير بعيد، أمام إقامة سكنية فارهة كنا قد بنيناها في ليالينا المقمرة. كدت أقع مغميا علي من شدة الاضطراب، فاستندت إلى الجدران وبدأت أزحف ببطء حتى وصلت إلى البواب، سألته عنها وعن الرجل الذي يرافقها، تجاهلني بحركة سريعة من وجهه، أشرت له بورقة نقدية فبدأ يسرد حكاياتها مع الرجال إلى أن كتب السطر الأخير في حكاية حب يجهلها.