الصمت وأنا في دهاليز بيت مهجور، أصمت ويصمت ظلي تحت عيني مصباح ذو شعاع باهت ، يتحدث إلي دون أن ينبس بكلمة، يقول لي : أنت شقي أخرسه الزمان، أنت ذلك الزاهد الذي لا تتعب شفتاه من ملامسة فناجين القهوة الساخنـــة ، ذلك الذي يضع سيجارته بين أصابعه فيتركها لتحترق في صمته،
أنت الذي تشتاق شفتيه لملامسة صمتك ،لتقبّله،طبعا لن يخرجك أحد من عالمك هذا كرها،أو دون إذن منك .
قلت : السكينة وأنا ،والصمت يأوينا ،يتحدث إلي وإلى كينونته، ولكنه يفضل أن يتعبني ،يتبعني ،يبعدني عن الصخب والضوضاء هناك، ليلقي بي وبك يا ظلي ،في منأى سر الحياة ،فأنتبه بغتة لعيون الليل ذات يوم آناء صمتي وسكوني ،لأراها تحرسنا وتراقبنا مخافة السقوط ،ومخافة العبث بما أشعل الأنوار على حين غفلة من حراس المكان الخرافي،ومن هدوء النفس، كي لا نرى تلك الشرارات الملتهبة المنبعثة من العينين الغائرتين،خلتهما تتوقان لنوم هادئ، هذا ما ظننته آنذاك ،و لكنني ظننت كل ذلك من أجل يوم جديد،نرقد فيه بين حنايا الفطرة التي وازنت بين الصمت وشيء آخر، بنَت لها فضاء من السكنات والحركات على منحى احتار فيه الكل، وما عرف أحد سرا من تلك الأسرار الغائبة ،التي لم يبُح بها الكون، ولا من سرى في أعماقه، و لا من جال في خباياه، ولا من تدبر الزّبر و كتب الأولين.
هنا وهناك ، يبقى الصمت ذلك العالم الأزلي الذي يفسر الخبايا ،و يقهر الكلام ،ويسترسل في الأحداث الغائبة، دون أن يعلن عن رحلاته التي يقوم بها كل وقت
وحين، في كل الأرجاء ،وكل الأنحاء،محتلا كل الفراغات ،ومختزلا مسافات
الأزمنة والسنوات الضوئية ، لا يأبه للمعيقات و الحواجز ، ولا يعرف العجز
والتراجع ،قال لي ألن تكف عن الكلام؟ ، نظرت إليه وقلت: أنا لم أتحدث إليك بعد ، وعدت لصمتي ممتطيا صمته وإصراره على أن أظل صامتا ،لنحترف سويا فن الميم و نبدع للأيام قصة من دون كلام .