أحست الدنيا تموج تحت قدميها، تنزلق من مكانها، وكأن زلزالاً ناعماً يداعب مركزها بخبث ودهاء. وبدا الأفق على امتداد البصر يترجرج كالزيت حين تهز خابيته. غارت عيناها في المحاجر، أمسكت رأسها بكلتي يديها، حاولت التركيز ولو للحظة واحدة، لوهلة واحده، لكنها فشلت، وبسرعة غريبة راودتها فكرة العجز.. العجز... الموت، وجهان لحقيقة واحده، تؤرق العقل، وتكتسح المشاعر. قد لا نستطيع التأكد من الوحدة بينهما بسهوله. لأن التأكد يحتاج إلى فهم عميق لمعنى الوحدة، الاندماج، وقد نكون لا نريد التأكد. لأننا لا نريد الاعتراف بهذه الحقيقة، بهذه الصدمة، أو بتعبير أدق، الورطة. ولكن السؤال الذي يلح إلحاحاً شديداً، عاصفاً، مغرقاً، ما الفارق الحقيقي بين من يجلس على الأرض دونما فائدة، دونما فضل، دونما طموح أو رغبة، وبين من تضمه الأرض بذراتها؟ لا فرق. فالأول فاقد لكل معنى من معاني الحياة. والحياة نفسها تسخر من الاثنين بنفس القدر، بنفس الحجم. ولكي نكون أقرب للإنصاف، فإنها تسخر من الأول دون أن تعير الثاني أي اهتمام. لأن دوره ذهب وانتهى، مع ذهابه وانتهائه.
العجز... سيف واحد له حدان، سيف يخترق العقل ويمزق الوعي. ما الذي يحدث لو نهض الموت من الحياة؟ أو ماذا يتغير لو نهضت الحياة من الموت؟ وما الذي سيحدث لو اخترقت القدرة كل مفهوم للعجز؟ ما الذي سيحصل لو بكينا الفرح؟ وأشعلنا الزغاريد براكينا، للبؤس، للموت، للأحزان؟! ماذا يصير لو قلبنا الأشياء؟ لو بدلنا المفردات؟ وحورنا المعاني؟ الأمر سهل وبسيط لا يحتاج إلى ذكاء أو دراية، كل ما في الأمر، أن نقلب الأشياء، نبدلها، نزيفها.
فقط علينا أن نقنع أنفسنا، أن نعود عقولنا على التغيير. ندعي أنه تغيير جذري، من الأصول، من الجذور. كل ما نحتاجه فقط، هو أن نتنازل عن تاريخ، عن تراث، عن وجود.
وماذا في ذلك، هذا زمن العقل العاجز، والعجز والموت وجهان لحقيقة واحدة. إذاً، هذا زمن العقل الميت، زمن الشعب الذي يملك قدرة خارقة للتصفيق دون أي سبب. زمن الشعب الخاوي السائر نحو خطابات خاوية، من زعماء خاوين.
وهل سأرتكب خيانة لو قلت: بأني مفعمة بالحزن والبؤس، وكنت أريد بذلك، أنني أتشقق فرحا، وأقطر سعادة؟! ماذا لو تدفقت الدموع مني كلما تذكرت ضياع الوطن؟ هجرة الأرض؟ وكنت أعني بذلك احتفالاً ملائكياً يبارك دمعي وفكري بالسعادة التي أحس بها وأتعمقها، تتعمقني، لأن بلادي ضاعت، وأرضي هاجرت من مساحاتها إلى مساحاتها، من مكانها إلى مكانها، من مساحة ومكان، إلى نفس المساحة والمكان. هجرة توليفتها لغة جديدة، تاريخ جديد، لا أصل له ولا جذور، مهجن، يعج بالعفن، ويضج بالتقزز؟!
ماذا في ذلك؟ ألم يفقد العرب في حرب حزيران أرضاً من مصر، سوريا، لبنان، الأردن، وما تبقى من فلسطين، في ستة أيام، ثم استوى زعماؤنا على عروشهم وقالوا:
- بأن ما حصل لا يمكن أن يوصف أو يسمى بالهزيمة أو النكبة. فالحرب سجال، وهذه نكسه، فقط، فقط، نكسه. وكان على الأمة أن تقبل، أن تصدق، أن تصمت. فالتحريف والتزييف مصلحه، مصلحة وطنيه. والمصالح الوطنية لا يعرفها إلا الزعماء، ولأنهم قالوا أن النكبة، الصاعقة، الطامة، القارعة، -نكسة - مصلحة وطنية، قبلنا.
ألم يخرج الناس من فلسطين عام ثمانٍ وأربعين وهم يحملون فوق كواهلهم عذابات الهجرة والاغتراب؟ وفوق صدورهم، قرب القلب، وتحت العين، ألم يحملوا مفاتيح منازلهم؟ مفاتيح الوطن؟ مفاتيح العودة؟ أو لم يعدهم قادة العرب بالعودة السريعة إلى تلك البيوت ليديروا المفاتيح بالأقفال والسكاكر!!!؟
أحست رعشة تسري بأوردتها، انتفضت، أفاقت من تأملاتها، ليس هناك ما يستحق كل هذا. أحست الألم يمد أذرعته كإخطبوط هائل داخل رأسها حتى أجبرها أن تتكئ على حافة كرسي الخيزران القائم أمام مكتبها الكئيب باصفرار خشبه المشرب بسواد قاتم.
ألقت رأسها فوق كتاب التاريخ، وأخذت تخلل شعرها الناعم الفاحم السواد بأصابعها النضرة، فلاح على طرف أُنملة السبابة وهي تنسحب من بين ثنايا الشعر خيوط من حبر. الأمر الذي يدل على أنها كانت تمارس الكتابة قبل وقت قصير. ولم تتوقف إلا حين فاجأها الصداع ليتركز فوق الحاجبين وعلى الجبين.
تناولت الكتاب بيدها اليمنى في الوقت الذي كان إصبعا السبابة والإبهام يضغطان على منطقتي الألم جيئة وذهاباً. فبدت عيناها من خلال انفراجات الأصابع الثلاث الأخرى ذابلتان تماماً، بفعل النعاس والألم. كانت تقاوم رغبة شديدة، ملحة وعارمة في النوم. عليها أن تقف على الحد الفاصل بين عمر المدرسة، وبين مستقبل جديد، مستقبل مجهول الهوية والطابع.
كان الجميع يحثها بكل عزم وقوة على ضرورة اجتياز المرحلة الثانوية، فشهادتها هي جواز سفرها نحو المستقبل، نحو الحياة، نحو العمل، والأهم من ذلك كله، نحو السعادة.
وفي أحايين كثيرة كانت تكتب وعلى لوح كبير من الخشب، وبخط عملاق، منمق، منسق، كلمة السعادة. وتظل تحدق فيها، بإمعان حيناً، وبذهول في حين آخر. تحاول الإحاطة بتفاصيلها، بحدودها. وكانت من وقت لأخر تظللها بأشجار الليمون والبرتقال، بأشجار اللوز، بغابات من الزيتون، بينابيع وأنهر، بشاطئ حيفا وبحرها. ثم تعود لتحدق، تتأمل، بتركيز متعب، مضن. أجرت أصابعها أكثر مرات ومرات، فوق الحروف، فوق مفاصل الأشجار وجذورها، في محاولة لاستشعار شيء، للإحساس بالمعنى، حاولت امتصاص المعنى، بل حاولت وبكل امكاناتها أن تساير النسغ، الحياة، ولكن أناملها كانت ترتد باردة، مثلجة، متجمدة، مشوهة البصمات، خشنة الملمس كأوراق الصنفره.
عندئذ كانت تدخل في معنى آخر، معنى تعرفه منذ وقت طويل، لامس طفولتها، بل مد ملامسه فوق وجوه الناس، أطفالاً، ونساءً، شيوخاً، وشباباً، حتى أن ملامسه وصلت للأرض، للحجر، للشجر، لكل شيء.
معنى تعرفه جيداً، تحسه، تستشعره في أعماقها وكأنه مولود في ذاتها، في نفس الرحم، ونفس مسقط الرأس.
الكآبة، نعم، هي تدرك هذا المعنى جيداً، تحفظ كل تفاصيله، وتعرف حدوده. كما تعي وبعمق كل تضاريسه الشرسة.
فتحت الكتاب عشوائياً، ركزت بصرها، قرأت:
- (وبهذه الوسائل الخبيثة استطاع الاستعمار أن يسيطر على موارد الوطن العربي الطبيعية، وأن يستغلها لصالحه استغلالاً كاملاً، حارماً شعوب الوطن العربي نفسها من حقها المشروع فيها). تثاقلت يدها وهي ترتفع عن صفحة الكتاب، وما أن ارتفعت حتى انطوى الكتاب بتلقائية مغلقاً نفسه بنفسه.
نظرت إليه، حدقت به، تأملت عنوانه من جديد (تاريخ الوطن العربي المعاصر). صدمها العنوان، وكأنها تراه للمرة الأولى، صدمتها المفردات، الحروف، صدمة قاسية، أحست بغربة عميقة بين المفردات، الحروف ومعناها، غربة شاسعة، ممتدة من طرف العقل إلى طرف العقل. ما هذا؟ ما الذي يجري؟ وهل من الممكن أن يفقد الإنسان قدرته على فهم لغة ولدت معه؟ رضعت وإياه من نفس الثدي، دخلت في عروقه وسبحت في أوردته؟ نعم. لقد أحست الآن، وللمرة الأولى، بأنها تفقد أواصرها وصلاتها، مع حروف ومفردات العربية.
نظرت إلى الكتاب من جديد، حقدت عليه، اشتعلت غضباً على صفحاته المزيفة، ودت ومن كل قلبها لو تمزقه، تنثره قطعاً فوق أرصفة الشوارع وخطوط المارة. لكن موعد الامتحانات ووجه أمها البريء المشرب بقسوة الأيام والرحيل والاغتراب حالاً دون ذلك.
كانت تحب أمها بطريقة مجهولة، تقدرها، وكانت تدرك أيضاً بأن هذه الأم تنتظر نجاحها بفارغ الصبر، كانت تقول لها: "يا ابنتي، نجاحك همي، خلاصي من عذاب الألم والتشرد والعناء. أنت الآن أرضي، سمائي، وطني، شاطئ حيفا وبحرها، فيك أرى كل بيارات البرتقال، الليمون، ومنك أشتم رائحة البحر، عطر زهور بيارات أحمل عبقها بأعماقي، يا حبيبة عمري أنت من أفرغت فيها كل صبري وحلمي. وأنت، فقط أنت، مفتاح الوطن، وطن طفولتي وزفافي".
تأملت الكتاب من جديد، ودون شعور اندفعت بصقات محمومة، معبأة بالغيظ عليه، هوت بكفيها الرقيقتين تشبعه لكمات وصفعات. كانت تصرخ بعصبية وانفعال ظاهرين، ليس الموارد الطبيعية فقط، وإنما البشرية، البشرية أولا. لقد سخروكم، جعلوكم عبيدا في حظائر خيولهم وأبقارهم. سلخوكم من إنسانيتكم، من بشريتكم. أليست هذه الحقيقة؟ لماذا؟ لماذا لم تذكروها؟ لماذا لم تقولوا ذلك؟ بل كيف تستطيعون ذلك وأنتم عبيد؟ رعاة عند رعاة البقر. وفوق كل هذا تخرجون علينا تصرخون من فوق المنابر، من الرائي، من المذياع، في خطبكم الجماهيرية، تصرخون ملء حناجركم بمفهوم الكرامة. أية كرامه؟ كرامة العفن، أم كرامة الهزيمة؟ أم كرامة العبيد؟ وارتمت فوق سريرها، دفنت رأسها بين فخذيها وأجهشت ببكاء أليم.
سكنت العاصفة فيها قليلا، عدلت من جلستها، أبعدت خصلات شعرها عن عينيها وشفتيها. تدحرج رأسها على الوسادة. كان الألم ينتشر بقوة داخل رأسها، يطبق بكل قوته على الشقيقة. حزمت رأسها بحزام مطاطي، حاولت وبكل إمكاناتها أن تسيطر على الألم، تجعله يتراجع، يخف ولو قليلا، لكنها عبثا تحاول.
أراحت رأسها على الوسادة، اصطدمت عيناها من جديد بمفردات غريبة، هلامية، رجراجه، تلتف بضباب شديد. (جغرافية الوطن العربي). التقطته، فتحته بأصابع ترتعش، يبدو الألم، الألم متدفقا من أناملها. قرأت: "أعطت سعة الأرض، الوطن العربي عمقا إقليما كان بمثابة الدرع الذي تحطمت عليه آمال الغزاة في كل عصر". بصقت عليه هو الآخر، ولكن مع ابتسامة ممزوجة بألم الشقيقة، وألم النفس.
قالت: معنى هذا أننا نملك سلاحا فعالا، لا يقهر، لا يهزم، اسمه الهروب حتى العمق، أو بتعبير فلسفي، التقدم للوراء، التقهقر، حتى يضيع العدو وحده في متاهات "العمق الإقليمي" و"ظلام الربع الخالي" و"وحشة الدهناء". وبعدها نعود نحن مكللين بالنصر، دون خسارة، دون الحاجة لسقوط أي شهيد، أو تورم عيون الأمهات.
هكذا انتصر أجدادنا، وهكذا خاضوا حروبهم، لم يكن لديهم أي قوة، ولم يكن في قلوبهم أي إصرار. هم أدركوا كما نحن ندرك الآن معنى العمق الإقليمي، استخدموه جيداً. أتقنوا قواعد اللعبة، فمارسوها ممارسة حيوية. نثروا رمال الصحراء في عيون الغزاة. استدعوا العواصف وأداروها سيوفاً مهندة حول أعناق الأعداء. أسقطوهم في حوامات رمل متحركة. ثم أخذوا عتادهم غنائماً، وعادوا من كل معاركهم مظفرين، غارقين بالنصر حتى شحمة أذنيهم.
لهذا، لهذا فقط، علينا أن لا نصدق ما يقال عن مقبرة البقيع، وعلينا أن نعتبر كل قبر فيها مجرداً من أي قصة، من أي صفة تاريخية أو تراثية. وعلينا ألا نصدق ما كتب التاريخ عن عمر بن الخطاب، أو صلاح الدين الأيوبي – رضي الله عنهما – وعلينا أن نقرأ رثاء الشهداء في الشعر العربي على أنه خيال، خيال شعراء، شعراء يقولون ما لا يفعلون. وعلينا أن ننكر خولة بنت الأزور، كذلك عليتا أن نمزق ديوان الخنساء، ونبعد دموعها من قلب الرمال في الصحراء، حين قال التاريخ أن أولادها سقطوا شهداء.
ثم ما الذي يضير بكل هذا؟ أليس اللعب بالألفاظ وقلب المعاني فن هذا العصر؟ ما أحقر هذا الكتاب، قالت وهي تنظر إليه من جديد. بصقت عليه مرة أخرى بقوة وحقد بصقات متتالية. فغرق الوطن العربي في بحر من البصقات المتأوهة. وتساءلت:
- هذه البصقات الممتدة فوق مساحات الخارطة، أهي أغلى أم الخارطة؟
اشتد الصداع، تركز في الشقيقة تماماً، تقلبت فوق سريرها، انبطحت على وجهها، دفنت رأسها بالوسادة، عاودت الاستلقاء على ظهرها. حركت الوسادة حتى كتفها، فتعلق رأسها كخط مائل بين الوسادة والسرير. إلا أن الألم ظل يتجول فوق الحاجبين. نهضت مسرعة إلى خزانة الإسعاف، ازدردت مجموعة من الأقراص المسكنة مرة واحده، دون قطرة ماء. تهاوت فوق حصيرة القش المطرزة المتناسقة الألوان. دخلت الألوان جميعها كخيوط معقدة لتساند الألم، الوجع.
وقعت عيناها على كتاب "المجتمع العربي" استندت في جلستها، حاولت القراءة، فتحت الكتاب، قرأت: "ومع كل هذه الضغوط استطاع الوطن العربي أن يبقى وحدة واحدة متماسكة، لا يمكن أن تنفصل، لأنها وحدة التاريخ، واللسان، والدين، والهدف".
قلبت شفتيها بمرارة الاستنكار، وتساءلت من جديد:
- لماذا أصبحت الوحدة أربعاً وعشرين وحدة؟ خمساً وعشرين وحدة، ؟ مئة وعشرين؟ ألف وعشرين؟ وغداً ستصبح نصف مليون ومليون وعشرين؟ وأي دين؟ حرق الأقصى؟ أم مسجد حسن بك؟ أم المساجد التي حولت لأندية خمور وبيوت دعارة؟ وأي هدف؟ بيروت، طرابلس، قبيه، عيون قاره، تل الزعتر، كفر قاسم، أيلول، دير ياسين؟ أي وحدة هذه؟
ضاعت في دوامة الماضي، حين أبرزت جواز سفرها، جواز سفرها الذي يشهد بكل ما فيه على أنها ليست فلسطينية- رغما عنها - هي فلسطينية الشكل والمضمون – تذكرت حين أبرزته على حدود السعودية – أرض الرسول - الحجاز سابقاً- أرض الرسالة السماوية – إن لم أخطئ الظن، أو إذا – لم تخن ذاكرتي-. أحست يومها وكأنها جسد غريب، تنبعث منه رائحة كريهة لا تطاق. كان الجميع يتحاشى التعامل معها. أو حتى تكليمها. راودها حينئذ شعور الغربة، أحست وكأنها بعيدة كل البعد عن وطنها، بعد الميت عن أهله. تطلعت نحو الكتاب بشماتة. بصقت عليه هو الآخر، "تفو.. تفوا.." "تفواااااا......"، بعصبية، بسرعة، بانفعال، بغضب.
علمت بقرارة نفسها أنها لن تستطيع مواصلة الدراسة، توجهت نحو المذياع. حملته بين يديها وتوجهت نحو السرير. أدارت المفتاح، ثم بدأت تعبث بعجل الموجات باحثة عن نشرة أخبار، ومع انتهاء دقات الساعة، أعلن المذياع أن البث من إذاعة ما في الوطن العربي، ركزت انتباهها:
- "مستمعي الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. نحييكم من صوت "... " من "..." ونقدم لكم نشرة الأخبار. توجه رئيس الجمهورية "الملك" السيد "... " إلى الولايات المتحدة في زيارة رسمية تستغرق عدة أيام، ومن المعلوم أن رئيس الجمهورية "الملك" سيبحث خلال لقائه هناك مع المسؤولين قضية الشعب الفلسطيني و"... " وقبل أن يتم المذيع كلماته حركت محرك الموجات من جديد بحنق بالغ، فأتاها صوت:
- "هذا وما زلنا نقدم لكم نشرة الأخبار من هيئة الإذاعة البريطانية، هذا مع العلم أن الطائرات الإسرائيلية ما زالت تحلق فوق أجواء بيروت منذ الصباح، وتلقي حممها على الأرض، تساندها البوارج البحرية الراسية على الشاطئ، إضافة إلى المدفعية البرية التي تقوم بضرب الحصار على بيروت منذ شهر تقريباً. أما المباحثات مع السيد "الرئيس" الملك "فإنها تتقدم تقدماً سريعاً، ولم يبق سوى وضع اللمسات الأخيرة على تفاصيل انسحاب المقاومة الفلسطينية من لبنان".
أخفت رأسها بين كفيها وراحت تبكي بصمت، أفاقت من نومها مرهقة يائسة، تحس كل مجاهل الصحارى بقلبها. ارتدت ثيابها وتوجهت نحو قاعة الامتحانات ترافقها دعوات أم مكلومة. أمسكت ورقة الأسئلة، امتحان التاريخ، قرأت السؤال الأول:
- "كيف استطاع الاستعمار الغربي أن ينفذ إلى قلب الوطن العربي"؟ عددت الأسباب كما حفظتها والدمعة تكاد تقفز من عينيها. لكنها تماسكت، ثم ألحقت الأسباب بجمله:
- "وبهذه الوسائل الخبيثة استطاع الاستعمار الغربي أن يسيطر على موارد الوطن العربي "البشرية"، شطبت البشرية لأنها وقعت سهواً – سهواً- ووضعت مكانها الطبيعية، - وأكملت- وأن يستغلها لصالحه استغلالاً كاملاً حارماً شعوب الوطن العربي نفسه من حقه المشروع فيها".
أكملت الامتحان وخرجت حزينة، مكفهرة الوجه، كانت تحس أنها سجلت اعترافاً كاذباً لتاريخ مقبل، سحابات من الغموض لفت وجهها. كادت أن تقع على طولها وسط الزحام. استعادت نفسها من دوامة الضياع، وسارت نحو البيت بأقصى سرعة ممكنه.
انسابت من تحت غطاء سريرها. ارتدت ملابسها، حملت الكتاب واتجهت لقاعة الامتحانات ترافقها دعوات أم مكلومة. جلست بمقعدها تنتظر ورقة الأسئلة. دخل مدير القاعة ليشهدهم أن الظرف مختوم، وبدأت الأوراق تدور، أحست أنها تشبه دورة الوطن العربي الكاذبة على محور تاريخ مزيف.
أمسكت الورقة، قرأت السؤال الأول:
- "عدد المزايا الناجمة عن سعة الرقعة الأرضية للوطن العربي"؟
أمسكت القلم، همت بالكتابة، لكنها أبت. قالت تحدث نفسها:
- "لن أسجل اعترافاً كاذباً لتاريخ مقبل" همت بالخروج. فجاءها وجه والدتها الحزين وهي تجلس أمام الطابون كل صباح تدعو لها بالنجاح. تراجعت، لسعتها دموع أمها، حارت. أمسكت رأسها بيدها اليسرى وباليمنى كان القلم يجيب على السؤال:
- "أعطت سعة الأرض الوطن العربي عمقاً إقليمياً كان بمثابة الدرع الذي تحطمت عليه أمال الغزاة في كل عصر".
خفضت رأسها، قفزت الدمعة من عينيها، أكملت الإجابه، نظرت قبل أن تغلق ورقة الإجابة، فشاهدت دمعتها تتوسط الورقة، دمعة حزينة، ساخنة، تتلألأ كقطعة بلور، فتساءلت في سرها:
- "هل يستطيع المصحح أن يفهم معنى السر الكامن في هذه الدمعة".