استيقظتْ تُنافس شروق الشمس ،محمّلة بجملة من الترتيبات ،لاتعرف رأسها من ذيلها ؛حركاتها المتسارعة وأطيافها المتراقصة في كل ركن تدل على ذلك ،هيأت وجبة الإفطار من شاي وخبز حاف ،ثم زحفت إلى أشغال أخرى تنتظرها في طابور ممتد ،نادتني بصوت عنيف احتجاجا على تأخري في الصحو والتراخي في تدبير أمري ،قصدت المائدة المقعدة التي تخلت عن إحدى أرجلها ،وعوضتها أمي بصخرة حتى تصحح الخلل ولا يختلّ التوازن وتضيع الوجبة ،فتُحدِث ثقبا في جدول الميزانية ..نهضت أفرك عيني أنفض عنهما ترسبات النعاس العالقة ،أسرعت إلى مايسمى الحمام :خُم الدجاج إن شئت مُنزوٍ في ركن ما ،قبل أن تتصيدني عينا أمي وتحدُث كارثة،فتحت الصنبور وملأت آنية ماء تجنبا لاختراق الثوابت المتفق عليها والمعلقة على كل جبين من أفراد الأسرة، والتي أجبرنا عليها جلاد الزمن وعلينا ألا نسقط خيطا منها ؛فقائمة المنع تنص على عدم الغسل مع انفتاح الصنبور ،ليس محافظة على نعمة الله من خلقه ،وإنما تحسّبا للفاتورة التي قد تنزل كالصاعقة بحديدتها الثقيلة على قمة الرأس وتكسر الترتيب ..
تناولت فطوري ،وتأبطت محفظتي المدسوسة بمجلدات تعادل وزني ،تثوي بين أوراقها صحراء جافة وريباخا من التميمات ، جُمعت بشكل فوضوي تكسر بفراغها الجماجم ،كان اليوم يوم امتحان حيث يُعز المرء أو يهان ،يزلزل الوجدانَ بهاجسه الماغولي المخيف ..أتخيل فخامة الأسئلة المرعبة ،وحال الارتباك كيف يطلسمها ويجعلها تغور وأجوبتها مقبورة في زوايا دامسة من الذاكرة ،لايتم إخراجها إلا بصراع عنيف مطلي بالرصاص ،يخلخلها ويطفو بها إلى السطح ..كنت بين الحين والآخر أحلق في شرود مجنّح ،وذاتي بكل أقاليمها عالقة بفَنَن الصبر ،أنتظر ثمرة النجاح المغروسة في ضلعي، والتي علّقت على مشجبها آمالي وأحلامي البنفسجية ..ماأتعس انتظاري وأنا أمور بين ورطة الامتحان ودهشة النتيجة ، وعواقبَ في الكواليس لاأدريها سبعا أم ضبعا ..كنت تارة أجدني أنط في حبور ،ذاتي تتراقص على خيوط الفرح، أبتسم، ألوح بيدي في الهواء وأنا أطلق الفراشات الملونة والعصافير المغتبطة ..وتارة رزمة من الديدان تنغل في صدري ،أسند رأسي على كتف أمي أبكي بمرارة ،أمقت السنة الملعونة التي دهست بحوافرها شارات الجندية ،واختزلتْ زينة عمري في ورقتين ..وأخرى أجدني أكرس الركض بين المؤسسات في غواية ،أتغنج في اختيار المسار المؤدي إلى مرفأ الضوء لأضع في سراديبي الحالكة بقعة من البياض ..ورابعة أنصاع إلى تلّي الناهض من قلقي لأقطع الحبل السري بالمدارس،وأردم في حضني تخومَها الشاسعة المليئة بالمرارة ،فأمزق أوراق بلائها ثم أفتح شرفة نحو بحيرة ساكنة بمسار ومرفأ آخريْن ...
ولجت القاعة المعنية مدججة بقلعة من المساحيق، التي قد تسعفني حين تضيق العبارة ،وتعتمّ الذاكرة ..و حبل الاستفهام يلتف حول العنق ،فلا أجد له ولا لي مخرجا ،يوم لاينفع صاحب ولا حميم ..طفقت أحملق حوالي ،أرمي بصري وراء ظهري وأمامي ،وكفّ الانتظار يجلد قلبي ،أنتظر لمحة المستقبل تسقط بين يدي مختزلة في ورقة ،وكمية من الأسئلة منحوتة من مقررات يركض فيها إبليس،وتتراقص فيها فروع الانكسار ..انقشعت غيمة الحيرة حين وزع الأستاذ الأوراق ،وغار في صمته يدحرج بليتي عينيه بين جثث الممتَحَنين ..كان هو نفسه ممتَحنا بكذا أشياء مسطرة تنزل كالسيف على الرقبة ،عبر شطحات الواجب الذي تآكل دينصوره اليوم مع نازحات ونوازع الزمن المتناسلة ،وعبر الرأفة بعيون أمامه بريئة لاحول ولا قوة لها ،غير أن كارثة ما طبيعية نحتتها من البؤس ...
حين يجتاحه الملل ،يتسلل من مكانه يتربص بطيف لحظة ليُقبر فيها تعبه ، ثم يعود يتكثل من جديد يعُد حلزون الوقت ..جالت عيناي في خضم الأسئلة تستوقفها علامات المرور،أتفقد تضاريسها بكل ما تحويه من مهاو وقمم ومنحدرات .. أسلك وعرَها وأنا أضرب بمعولي فراغ الصخر ...ورغم تكرار الضربات لم أنفذ إلى العمق ،ولم أجنِ من واحاتها شيئا.. اشمـأزت النفس وضاق الخاطر ،واعترتني دوخة محمومة ، كسَت جسمي عرقا ،التفتُّ يمينا ويسارا" هل من مُسعف "؟؟؟كان الصمت مخيّما والصراع محتدا ،والتفرد في التهام ما في البياض ساريا ،اختلست التفاتة أخرى برأس منحنية ،غير أن سهمين من عيني الأستاذ أطلقتا رصاصهما لتضربا الصدر ..دريت أن اللحظة حاسمة ،وأني صريعة الطرفين ...وقفت ثم جلست وكمّ من اللعنات تزدحم على لساني ،ألعن الامتحان ،وواضع الامتحان ،وحامل الامتحان ،والمحمول إليه الامتحان ، وأيام الامتحان ،وما قبل وما بعد الامتحان ،وواضع الأسئلة ،وحاملها والمحمولة إليه..لقد كانت كالمشارط تقطع أوصالي الذهنية ...،ثعابينها تتلوى حول القلم فتكسر أفكاري فكرة فكرة ،لقد وجدت نفسي في غابة شائكة من الألغاز ،أصابتني بدوار حوّلتِ الورقة إلى طيف أمامي يتراقص بالأبيض والأسود..دخلت في جدار الصمت وطفقت أفكر في الأشياء التي سلحتني بها والدتي قبيل الامتحان :"100فاطنة وفاطنة "أسماء ل 100 عقدة بخيط صوفي مقتبس من الحياكة "،وعبارة "شيّرتْ بالزيف ياالنجاح تجي بالسيف "وعبارة "الحجرة ياالبكيمة بغيت في الامتحان ماتصعاب عليّ حتى كلمية "مع وضع حصى تحت اللسان ...لقد كانت هذه المزوّدات باهتة فاشلة لم تؤد دورها الممكن ،ولم توت أكلها ولافعلها ..
تَشبُّتُ أمي بأمل النجاح فجّر سيلا من القذف والسب والشتم :
ـــ "أراس الطارو عرفاك غادي تكَحّلها "...
ـــ "كرانك تحفظ قرايتها وأنت عاطيها للدوران" ...
كنت المتهم بلا جريمة... نسيَت أمي أن المحتويات التي كنت أغرف منها في برود تام،ومجرد وريقات من القش سرعان ما تذروها الريح في لحظتها ..... وليس فيها ما يثير ميولي ويلبي حاجياتي ،ولم تنتبه إلى أن ماكنت ألتهمه كان يصيب ذهني بالكلس والشلل كالأحلام الطائرة ، لاعلاقة لها بي وولابإحساسي ولا بواقعي ولا بمستواي ،ولالتناسب العصر أصلا ..حشوة من النوافل انتهت مدة صلاحيتها تصيب متناولها بالإسهال ....على كل تلقيت الضربات الموجعة على حد النصال ...
مالكة عسال