في حارتنا لم يكن الونش يحظى باحترامٍ يذكر، رأسُه الثقيل الأشعث أثار غيظنا، وكرشه زاده قُصرا .. لكننا كنا إذا ما غاب؛ افتقدناه .. وذهبنا إلى باب بيتِه، ننادي جماعةً :
يا ... ونش!
أبوه صاحب الشارب الكبير يخرجُ؛ لتقدح عيناه، ونحنُ نقفز متباعدين:
روحوا .. يا .. أولاد الكلب!
لكن الونش كان يأتينا، يغافله، ويأتينا . ..
دوما كنا نضربُ الونش، من شاء يضرب قفاه .. ومن شاء يقرصُ خديه الواسعين .. أو ينتف شعره المتهدّل المتسخ .. وهو يوزع الابتسامات .. وفقط يهمهم:
اسكت يا رجل!
يوما خطونا إلى البعيد، تعمقنا في الأشواك .. عيوننا ترمقُ بشغفٍ زهر الصبار .. وتدهش لمنظر الحساسين التي تتأرجحُ على أغصان البرتقال .. يومها طرقنا أبواب البساتين .. عبرنا بأرجلٍ تُقدّمً .. وبأخرى تؤخر إلى حيثُ يجلس الأفنديةُ :
يا خال .. نفرد لكم كوم الزبل تحت الشجر؟
تتبعنا كومات السماد، ودخلنا .. وكلُّ أفندي كان وهو يقيسُ قاماتنا .. يهزّ طربوشه، ويحرك عصا الأفندية؛ ليقولَ:
روح أنت وهو!
كانت جيوبنا فارغة .. ولم يعد بحوزتنا سوى الاكتئاب، فصببنا على الونش غضبنا .. صفعناه جميعنا .. وركلناه جميعنا .. ثمّ بطحناه، وبعضُنا صعده مثل ضباعٍ .. !
المفاجأة كانت حين صحونا على همهمةٍ باغتتنا على غير انتظار .. كانوا قبالتنا يحملقون، يهزون لنا رؤوسهم، وظهورنا وقتها كانت إلى السياج .. يومها قلنا: ضعنا ورب الكعبة ..!
حينما همّوا بنا؛ أغمضنا لمصيرنا، مرت ثوانٍ من الرعب؛ حتى سمعنا صوت الونش .. ثمَّ رأيناه !
كان قد صار ذئبا أصابه سعار .. قفز الونشُ بخفة لم تزل تحيرنا؛ اقتلع عمودا من أعمدة السياج ... وصار بطلا رثّا من ملابسه عاد .. سمعناه، يصيح، وهو يهز عموده مثل رمحٍ عملاق .. ورأيناهم يتراجعون .. رأينا كلا منهم ينكس أذنيه، ويهزُ ذيله للونشِ الذي كان لم يزل يصيح ..كان يصيحُ، ويتقدّم .. ونحنُ من خلفه لم نزلْ نحملقُ في الجمعِ الذي يفرّ، ويفتح لشلتنا الطريق!