-1-
أَجْلِسُ بَيْنَ يَدَيْهِ كُلَّ صَبَاحٍ، عَلَى الحَصِيرِ الخَشِنِ المَصْنُوعِ مِنَ "الحَلْفَةْ"، وَتَحْتَ ضَوْءِ مِصْبَاحٍ خَافِتٍ، لَا يَكَادُ يُنِيرُ حَتَى وَ إِنْ مَسَتْهُ نَارُ جَهَنَّمَ " الحَمْرَاء"، أَقُولُهَا وَ أَنَا غَيْرُ مقتنع بها فما أدراني أن السعير حمراء ، أما كان لها أن تكون بيضاء مثلا أو قزحية كعين "الباتول" الجالسة هنا وراء حجاب، إزار أسود ما كان ليحجب عطرها البلدي الذي اشتهرت به بين بنات الحي، كانت هي أيضا تجلس بين يديه، و تقاسمني نفس الخوف من تلك العصا الطويلة التي لا تفارق يده، طويلة حد الوصول إلى "عبد القادر" الذي عُلِمَ مكانه هنالك خلف الجميع، يحضر دائما متأخرا يستند إلى السارية ذاتها، بجلبابه الصوفي المرقع ذاته، يدخل رأسه في " القب" ، مهتزا يمنة و يسرة ، يستجدي إغماضة عين، قبل أن تباغته العصا مخلفة أزيرا يقذف الرعب في قلوبنا الصغيرة، كنا نهابه وكان أهل القرية يحترمونه
- " نْخَافْ نَكْذَبْ تْقُولْ عْلِيهْ نَصْرَانِي وَاسْلَمْ" بهذه الكلمات كان الكثير يتحدث عنه، إلا والدي فكان كلما التقاه أفصحت عيناه عن كره شديد يحمله بين جوانحه له، لكن خلقه فرض على الكل احترامه، هو نقيض تلكم الصورة التي التقطتها أذهاننا عن إخوانه في "الحرفة".
-2-
خراب.... الدور القديمة، و الأزقة المظلمة أمواج وحشة تعصف بي ، سألته قبل أن يغرغر بأيام:
- ما بال هذه الدور فارغة يا والدي.
أجابني بصوت خافت وكأني به خائف أن يردد الفراغ صداه:
منذ تلك الحادثة ما عاد أحد يستجرئ أن يعمر هذا المكان... في إحدى الصباحات الشاتية وجدت جثته ملقاة على عُرْض الشارع، وقد مُثِّلَ بها، قيل أن السبب إصراره على المبيت بإحدى هذه الدور الفارغة، كانت هي لا محالة من وضع نهاية لحياة " بوبكر" ، لازالت لعنتها تنزل على القرية و أهلها منذ قتلت غيلة، انظر هناك على ضفة الوادي كانت تغترف لابنها الرضيع شربة ماء، بينما الأقدار تحيط جيدها المرمري بحبال الموت في صمت، أقدار كتب لها أن تخط بيميني ، رمقتها من خلف تلكم التلة، تربصت بها بعين متعطشة للدم، منذ شاعت سيرتها على ألسنة أهل القرية ونفسي تحدثني بان أطهر الأرض من دمها النتن، كفاني أنها يهودية، وغير ذلك تفاهة تصلح لكاتب قصة يريد أن يمطط نصه ويغرق قارئه في بحر من "البلا البلا"، أما أنا فراعتني فكرة أن ساعتها أزفت، صوبت "الزويجة " لظهرها، طلقة واحدة صيرتها جثة مسجاة .
- والرضيع
سألته ذهلا
- هو ذاك الذي تجلس بين يديه كل صباح.
-3-
اليوم الجمعة – ككل جمعة بعدما واريتك التراب – يدفعني الشوق لزيارتك، يدفعني للوقوف على رأسك الذي ما فتئت أقبله لأحدثك عن القرية التي ودعتها، أن أحكي لك عن الفقيه الذي طالما أظهرت كرهك له، عن الضفة المقدسة قداسة الدم النتن كما كان يحلو لك أن تنعته.
ستسألني عن أمي لم لم تأت معي؟ أجيبك بكل بساطة، هي الآن تطلب لك الرحمات جنب الوادي، خدعتك الأقدار يا والدي، بيمينك أنت وحدك كنت تكتب قصة الكاتب اللعين الذي أغرقنا في "البلا البلا" .
الرضيع كبر وبنى على جنب الوادي قبة كتلك التي بنيت لرجال قضوا أيامهم في ذكر وعبادة متناسين الدنيا ونصيبها الذي ما غفلت عنه، كبر و حدث الناس عن امرأة صالحة لا زالت روحها تسكن المكان، و تحيطه ببركاتها، بركات يا للعجب بدأت تظهر ورحيلك عنا، حتى أصبحت قريتنا مزار لمحبي الروح الطيبة التي مرغت يوما في دم نتن.
العرق دساس يا والدي، و الأقدار ليست لعبة شطرنج في داخلية اللاعبين أمل من الفوز يدفعهما للاستمرار، لكن رغم هذا فأنا متعطش للدم، ما يمنعني هو الخوف فقط من أن تبنى على الضفة المقابلة للوادي قبة أخرى.
... وودعتك يا والدي و أنا أضحك من سذاجتك، و أتساءل: لم قتلت بوبكر، و أنت الذي كنت تحذره من المبيت بتلك الدور الفارغة.