لم يستطعْ أن ينطقَ ببنتِ شفة , فقط دموعٌ ساقطة من عينيهِ خلف نظارتهِ الشمسية كشفَتْ النقابَ عن حزنهِ و روتْ وجههُ الجاف من تراكمِ غبارَ الزمنِ عليه. قبل عدةِ سنواتٍ أصابهُ الجنودُ في حنجرتِهِ و من حينِهَا لم يعُدْ يجيدُ إلا لغةَ الصمت , جاؤوا بإبنه محمولاً في الكفنِ ليلقيَ عليهِ نظرةَ الوداع , نظرةٌ يتغذى عليها الحنينُ في دوامةِ الزمنِ اللاحق , تأملهُ قليلاً , كلّ شبرٍ من جسدهِ من أعضائِهِ كأنهُ غريبٌ يحاولُ أن يمسكَ بملامحِ ابنهِ من بينها , بحثَ عن تلك الندبةِ التي كانت تفضحُ تلك الشقاوة البريئة , بحثَ عنها في رأسهِ وجدَهَا مستبدلة بثقب رصاصة, ابتسمَ قليلاً و قالَ في نفسهِ: لقد أردت دائماً يا بنيّ أن تزيلَ تلك الندبة بعمليةٍ تجميلية , حسناً لا حاجة الآن لإزالتها , فتلك الرصاصةُ يا ولدي تكفلتْ بذلك و لكنها للأسفِ تركتْ ندبةً خالدةً في قلبي الحزين.
قبّلهُ من وجنتيهِ ثم حاولَ أن يهمسَ في أذنِ ابنهِ , حرّكَ شفتيهِ أمامَ أذنهِ لكن أحداً لم يسمع ما يقول , كيف يسمعونَ صوتهُ و هو بدونِ حُنجِرة؟! كانَ يأملُ أن يسمعَهُ ولدهُ من فوقِ السماء و هو يقولُ له : لقد أحببْتُكَ يا ولدي طوالَ حياتي يا جرحي الخالد يا قُرّةَ قلبي , ارقُدْ بسلامٍ يا بنيّ.
بعْدَهَا ابتعدَ قليلاً حتى لا يرى الترابَ يأكلُ جسدَ ولدهِ رويداً رويدا , هناك يغرقُ في دوامةٍ أبديةٍ لا مجالَ للخروجِ منها , كانَ ابنهُ ذاهباً ليجلبَ شموعَ الجاتوه للإحتفالِ بعيدِ ميلادِهِ العاشر , لكنّ رصاصةً طائشةً أخمدتْ حياتَهُ و أشعلتْ نارَ موْتِهِ و حزناً لا يُطْفِئه الزمن.
بعدَ رحيلِ آخرِ الأصدقاءِ , ذهبَ إلى المطبخ أرادَ شيئاً يزيلُ طعمَ القهوةِ المرّة الممزوجِ بالألمِ من فمِه , أعدّ الشايَ ثم صبّهُ في الكأسِ و وضعَهُ على الطاولةِ, جلسَ على كرسي الطاولةِ, و بدأت دموعَهُ بالتساقطِ كشلالِ من الأحزانِ يسقطُ من القدر إلى قلبهِ , كانَ لوحدهِ و استمرّ الشلالُ بالتساقطِ , هوتْ دُموعهُ في كأس الشاي الحلوُ المذاق , تظاهرَ بعدمِ رؤيتِهِ لتلك الدموع و أخذَ يرتشِفُ من كأسِ الشاي الممزوجِ بالدموعِ , ليشربَ أولّ كأسٍ لهُ بنكهةِ الحزن