كنت أوشك أن أصرخ طالبا ً من السائق ذي العنق الغليظة أن يرحمني من مجموعة من الأغاني الهابطة حول البرتقالة و المشمشة التي كان يبثها من مسجلة السيارة بصوت عال يكاد يصم آذان الركاب المحشورين في هذا الصندوق الضيق ذي العشر مقاعد. قلت بعصبية:
- نازل عند رأس الشارع.
اقتربت السيارة من الرصيف، فتحت الباب، فتدفق صوت المغني ليصدم بصوت قارئ الأدعية الذي كان يبث من أحد محلات التسجيلات على ناصية الشارع فاختلط صوت الغناء بصوت الدعاء. كان الجو البارد لأواخر الشتاء، و الشبابيك المغلقة للسيارة قد جعلا من تحمل الصوت و أنفاس الراكبين و ثرثرتهم و دخان اثنين منهم أمرا ً يشبه التعذيب، بل هو تعذيب حقيقي دون أن أملك أنا أو أحد الركاب شجاعة الاحتجاج عليه. لذلك فقد استقبلت الهواء البارد لصباح العشرين من شهر آذار بشهية إنسان جائع خاوي البطن و رغبة رجل أمضه العطش لكأس مترعة بالماء رغم الشتاء و البرد.
"ترى هل هو السكري ما يجعلني أشعر بالعطش في الشتاء أم أنها النار المتوهجة في داخلي؟" كان هناك بعض الأشخاص ينتظرون عند الناصية، فتدافعوا يريدون الصعود مكاني في السيارة التي نزلت منها توا ً. و في الحال أدركت أنني لا أعرف السبب في أنني نزلت هنا، و قبل أن أصل إلى هدفي الذي يبعد مسافة ليست بالقصيرة. لعل ضيقي بجو السيارة الخانق هو الذي دفعني إلى النزول، ربما. و إلا فإنني أريد أن أنزل عند جسر الحلة القديم (يسميه بالناس العتيگ). "لست أدري لم أحب أن أعبر هذا الجسر مشيا ً على الأقدام يوميا ً؟" هرم الجسر حتى قال عنه الشاعر موفق محمد:
مكتئبا ً أسيان،
شاخ على مهل ِ جسرُ الحلةِ،
طالت لحيتـُه و أبيضتْ...
فتعلق فيها الصبيان.
أيه ٍ، النهر شاخ، و المدينة شاخت، و الجسد شاخ و الروح ما زالت شابة، و المسافة إلى الجسر ما زالت بعيدة، قد تأخذ مني أكثر من نصف ساعة سيرا ً على الأقدام، و لكن لا بأس. السير يلهيني عن الاستغراق في تأمل هذا العالم الضيق مثل خرم إبرة. رحم الله أبا حيان التوحيدي، لم يستطع أن يتكيف مع عالمه، فغادره بإرادته حسيرا ً.
في الشارع يطلق سائقو المركبات الأبواق دونما حاجة. أهو نوع من الإزعاج المتعمد؟. لست أدري. "إيه ٍ يا أبا العلاء. كم أنت كبير في عزلتك!" سأشتري قنينة ماء لأطفئ هذا العطش. الماء الذي كنا نعد وفرته في بلادنا ميزة لها. لكنه ما عاد صالحا ً للاستهلاك البشري كما تقول الجهات الصحية. حسنا ً، الآن صارت البلاد العربية الصحراوية المجاورة تصدر لنا الماء نقيا ً رائقا ً في قناني بلاستيكية. لكن يصعب أن تعرف إن كان الماء غير مغشوش. ربما يكون هذا الماء مخففا ً. أليس كذلك؟
شاب ملتح يندفع، يصطدم بي فأكاد أسقط. لا يلتفت، أو ..... ما علينا، الناصية التي تقع عندها دار السينما التي لم تعد دار سينما تضج بالرائحة التي تنبعث من محلات بيع الأكلات الشعبية. الشارع يضيق و الناس يتمددون بالتكاثر الأميبي. و هذا الرأس لم يزل كما قال عنه الشاعر محسن أطيمش:
أيها السيد الرأس،
إلى أي وقت تظل مشتتا.
لست أدري كيف وصلت إلى السوق الذي يطوق الجسر القديم من الجانبين و يشغل مسافة ليست بالقصيرة تمتد على الشارعين المحاذيين لنهر الحلة. ترى هل أوشكت أن أصطدم بأحد؟ أو أن يصدمني أحد؟ لست أدري. ذات يوم قال لي صديق ما زلت أحترمه أنني حين أسير أبدو كالسائر في نومه. قلت له:
- لعلك تبالغ. فأنا لم أتسبب بأيذاء أحد، و لم أوذ نفسي.
فأجابني على الفور:
- الأمر كما تقول لحد الآن. و لكن من يضمن أن لا يحدث لك مكروه على حين غرة، فتندم؟
- الحق معك. و لكنني لا آبه لما يحصل.
- لِم َ؟ ألا تخشى على نفسك؟
- كلا، ليحدث ما يحدث. فما أبالي بالموت.
- و من قال لك أنك ستموت؟ قد تكون نتيجة الحادث عاهة مستديمة مع أوجاع و آلام، فيزداد و يتراكم ما أعرفه في نفسك من سخيمة و نقمة. فأنت إنسان حساس في عالم يفتقر إلى الروح.
ثم نظر في وجهي مليا ً، و أضاف:
- محمود، دعك من المكابرة. هل لك أن تخبرني عن هذه الكدمات على وجهك؟
تحسست جبهتي و صدغي، ثم قلت:
- أمس ِ قمت من فراشي. و كان الظلام دامسا ً. العجيب أنني لم أعد أستطيع السير في الظلام دون أصطدم بهذا الشيء أو ذاك. لقد فقدت تلك القدرة على الإحساس بالمكان بدون الاستعانة بحاسة البصر. تلك القدرة التي كنت أنت شاهدا ً عليها منذ زمن بعيد.
- نعم ما زلت أتذكر ذلك، و لكن عليك أن تهيئ لنفسك مصباحا ً أو فانوسا ً أو حتى شمعة حتى لا تؤذي نفسك عند انطفاء النور.
- لا أدري كيف حصل ذلك. فقد قمت أريد المصباح فاصطدمت بضلفة الباب، لا أدري كيف.
- هل كنت مخمورا ً؟
- كلا. فقد أقلعت عن الخمر. لقد أخبرتك بالحقيقة. لم أعد أحفظ أبعاد الغرفة التي أسكن فيها على الرغم من طول المكث فيها.
- على أية حال. في البيت قد يقتصر الأمر على بعض الكدمات، أما في الشارع، فعليك أن تولي انتباها ً أكبر لأن المسألة قد تصل إلى حادث يخلف عاهة مستديمة.
فكرت أن الحق معه، و لم أنطق بها تلك المرة، و إنما تركته دون إلقاء تحية الوداع؛ أحسست أنه يقرأ ما في داخلي، ما فائدة الكلام إذن.
لست أدري إن كانت رجلاي تسيران بي أم أنا من يسير بهما. كانت السوق مكتظة. و أصوات الباعة تعلو معلنة عما لديهم من بضاعة. نظرت إلى بائع الطماطم، كان رجلا ً في الأربعين، و كانت بضاعته تبدو حسنة في الظاهر، أما لو نظرت إلى ما خلف حبات الطماطم الجيدة المنثورة في الظاهر، فإنني سأجد أنها بضاعة رديئة للغاية. و لو نظرت إلى ما لدى بائع الخيار أو الباذنجان فلن يكون الأمر مختلفا ً. نحن مخدوعون دائما ً. مرة وقفت عند بائع تفاح و طلبت منه أن أعطيه زيادة على السعر على أن يجعلني أنتقي ما أريد فرفض ذلك بطريقة فيها شيء من الخشونة. أيقنت أن الإنسان، سواء أكان فردا ً بسيطا ً أم مثقفا ً، يخدع أخيه الإنسان و يفرض عليه ما لا يريد على نحو فيه مكر و دهاء. هكذا خدعنا ساستنا بشعارات كاذبة، و خدعنا الأمريكان و من جاء مع الأمريكان، و الحقيقة أن الخديعة تحاصرنا إن نظرنا في الآفاق أو في السماء!! و هكذا خيبت تجربة الوجود في المجتمع كل آمالنا. المجتمع، المجتمع، السيد الذي يغازله الجميع، إنه يتشكل من هؤلاء البشر المخادعون و المخدوعون. و بما أن الإنسان هو عنصر الوجود الأول، كما يزعمون، فأن الوجود كله مبني على الخديعة. فليست سناء بالمرأة الشفافة التي تقترب من الوجود النوراني، تلك المرأة التي أحببتها ثم سرعان ما اكتشفت أنها امرأة شهوانية تستبدل الرجال كما تستبدل المناديل الورقية. و ليس سعيد بالإنسان النبيل المؤتمن، إنما كان وكيل أمن لم يتورع عن الكتابة محذرا ً السلطة مني. و حين سقط النظام، ذلك السقوط الذي أتاح لي الاطلاع على ملفات الأمن و أن اكتشف أنه هو من كان يتجسس عليَّ و على أخويه أيضا ً، تحول سعيد إلى عميل لدى الأمريكان. و ليست ... ، مرة ناقشت مثقفا ً متحمسا ً لما يجري الآن في موضوعة الطبيعة المخادعة للبشر فقال:
- أنت غير قادر على التكيف، و تعلق فشلك هذا على شماعة الطبيعة البشرية.
فجأة كانت هناك أبواق سيارات و صراخ، و شخص يتكلم بحدة:
- ألا تنتبه لنفسك؟
- إذا كنت لا ترغب في الحياة فلم تريد جعل مشكلتك سببا ً في قطع رزقي.
انتبهت. كان سائق السيارة التي أوشكت أن تدهسني و لكنها توقفت على بعد شبر مني هو المتحدث. اعتذرت و واصلت السير.اتخذت طريقي نحو الصوب الكبير. و فوق جسر الحلة القديم لاحظت أن هناك مجار لمياه ثقيلة تصب في نهر الحلة الذي لم يعد بهيا ً مثلما كان. نزلت إلى الجانب الأيسر خلف عمارة بنك الرشيد. كان الباعة قد احتلوا الشارع و زاحموا المارة و أصحاب المحال التجارية. "لكي أعرف طريقي في هذه الحياة أمامي سبيلان: إما أن أغادر الحياة بشجاعة و شرف، و إما أن أشتري لي بسطة حاجيات و أنافس هؤلاء الباعة. لا شك أن الحل الأول أكثر وجاهة و اختصارا ً، و ليقل الخائبون ما شاءوا. لقد فرض علينا أن نعيش في هذه الدنيا بدون إرادتنا، فلا أقل من أن نملك شجاعة مغادرتها بإرادتنا. أليس كذلك؟" فجأة، كان هناك لغط كبير عند عربة أحد باعة الفاكهة. خمنت أنه خلاف بين البائع و الشاري حول ما تم شراؤه. "إذا فنحن نختلف على صغائر الأمور و عظائمها، و نختلف حين نعرف أن الآخرين قد خدعونا، أليس كذلك؟" ثم ترامى لسمعي كلام و شتائم أثبتت صحة تخميني. لا أدري كيف أفهم ما يدور. ازداد التعليم لكن المكتبات اندثرت في الحلة التي غدت عجوزاً؛ و ازدهرت المحلات و البسطات على الرصيف فحاصرت المارة و الشوارع الرئيسية في المدينة حتى أننا لم نعد نر الرصيف إلا في الطرق الخارجية و في أزقة و أحياء المدينة الحديثة. فهل تحولنا إلى شعب من الباعة المتجولين؟
فجأة سمعت:
- أهلا ً بمحمود العارف. كيف الحال؟
- أهلا ً يا سعدون.
- أين أنت يا رجل؟
- في هذه الدنيا؟
- لم أرك منذ فترة طويلة.
حدقت في عينيه العسليتين، فهالني أنهما عينان غير مستقرتين، و فيهما قلق لم أعهده من قبل. قلت:
- و أنت. ماذا تفعل في هذه الأيام.
- أركض عسى أن ألحق من سبقوني.
- و إذا افترضنا أنك سبقتهم؟
- سأركض حتى لا يلحقوا بي.
- و النهاية.
- أنت تعرفها منذ أن قرأنا معا ً الفلسفة يا صديقي. أليس كذلك؟
و أطلق ضحكة ثم اعتذر بعمل تجاري مطلوب منه إنجازه، و سارع بالدخول إلى إحدى محلات بيع المواد المنزلية بالجملة.
سرت .....، و سرت ......، و سرت ..... . مررت بأسواق مسقفة و أخرى مكشوفة، حتى وصلت إلى شارع تجاري حديث فيه سوق لا يحاصرها الباعة المتجولون و أصحاب البسطات. نظرت إلى محل لبيع الملابس الجاهزة. كان في واجهة المحل مانيكانات رجالية و نسائية. ترى كم هي سعيدة هذه المانيكانات!؟ خطر في بالي أنني أكتشف الآن سبيلا ً ثالثا ً للخلاص. كان صاحب المحل منشغلا ً بالزبائن. اقتربت رويدا ً، و في مدخل المحل كان للواجهة مدخل جانبي. فتحته و دخلت. نزعت ملابسي أولا ً ثم أمسكت بمانيكان لرجل زنجي نحيف مثلي، و نزعت عنه ملابسه بهدوء و لبستها؛ ألقيت بالمانيكان أرضا ثم وقفت في مكانه متخذا ً وضعيتهً. شعرت بسعادة غامرة. كنت أنظر إلى المراة بعينين ثابتتين. فجأة كان هناك لغط أخذ يعلو شيئا ً فشيئا ً، و تجمع بعض المارة و أصحاب الدكاكين أمام المحل. سمعت صاحب المحل يصرخ:
- إنه مجنون! استدعوا الشرطة.
قال أحد الحاضرين:
- يا جماعة، إنه الأستاذ محمود العارف، و هو واحد من مثقفي مدينتنا المعروفين. و لكن لا حول و لا قوة إلا بالله. لا حول و لا قوة إلا بالله.
ازداد اللغط كثيرا ً، لكنني كنت أقف بصلابة و ثبات، و أنا أحرص على أن أرسم على وجهي ابتسامة خفيفة لكن ملحوظة. تلك الابتسامة التي لا أشك لحظة أنها قد كانت ترتسم على شفتي سقراط حين تجرع كاس السم من نبات الشوكران. أما المانيكان الزنجي فقد كان يضطجع في عريه على أرضية الواجهة. و كان ينظر نحوي بغضب، وددت أن أعتذر له، و لكنه كان يتمتم بكلمات لم أسمع منها شيئا ً. ربما كان يلعنني، بينما كانت إحدى المانيكانات تبتسم و تغمز لصاحباتها نحوي.