لما رأيت المسابقة على شاشة الكمبيوتر لم أتحمس إطلاقا لها، ذلك أنني عهدت الفشل فيها و صارت المشاركة فيها نظير عدم المشاركة. لكن مثل هذه المسابقة لا يجب أن تضيع مني لأنها تتعلق باختيار محرر شاب لجريدة محلية جديدة. كان الأمر أشبه بروتين مألوف لدي، لذلك عندما أخذت نسخة من إحدى المقالات القليلة التي كتبتها واتجهت إلى العنوان تخيلت بضعة أشخاص يعدون على رؤوس الأصابع و خصوصا أن الأمر لا يعدو أن يكون شكليا، لأن جل المسابقات يكون الفائز فيها معروفا قبل موعدها. كانت دهشتي عارمة عندما وجدت أكثر من خمسة وعشرين شخصا ينتظرون أدوارهم، بعضهم جالس و البعض الآخر واقف لعدم كفاية المقاعد.
كدت أعود أدراجي لولا أن ريح المسابقة شدتني إلى الجو. في أحد الكراسي جلست فتاة نصف متحجبة ، تضع على ركبتيها حقيبتها الخاصة و ملفا خمنت أنه يضم المقالات التي كتبتها. بجوارها وقفت شامخا أنصت لأفكار غبية تضيق أفقي.
شعرت بالغباوة لأنني الشخص الوحيد الذي جلب ورقة واحدة دون حقيبة و دون ملف. مجرد ورقة منفردة طويتها و أمسكت أطرافها بأصابعي و كأنني أقول للناس بأعلى صوتي أنظروا كم أنا مغفل. أحسست بالسخافة و لكني لم ألق إلى ذلك بالا و ارتحت أيما ارتياح و خصوصا أنني أعلم مسبقا أنني فاشل، و إنما أتيت لأريح ضميري و لأطمئن نفسي.
خرج شاب من المكتب الذي ننتظر ببابه و كأننا طابور من المتقاعدين في انتظار صرف معاشاتهم، كان نصف أسمر، مجعد الشعر أنيق الملبس، خرج متجهم الوجه يبدو الغضب جليا في ملامحه. قفزت الفتاة الجالسة في الكرسي بقربي و كأن شخصا نغزها بشوكة و التحقت بالباب قبل أن يغلق. كانت تلك فرصتي الذهبية للجلوس. جلست و نظرت ناحية يميني. فتاة أنيقة غير متحجبة، تضع نظارة خفيفة على عينيها، لباسها السفلي أفضل من لباس الفتاة التي دخلت. كانت عموما جميلة.
صبت نظرة باتجاهي فاستغربت أن أحمل ورقة واحدة. فجأة قالت:
- كم الساعة؟
عرفت أنه استهلال لبدء حوار لذلك أجبتها فورا و ألحقت بالجملة جملتين، قالت،
- كيف لا تحمل إلا ورقة واحدة؟ لقد قالوا في الاعلان إنه لابد من جلب نموذجين على الاقل.
أجبنها بلامبالاة استعجبتها:
- حقا هل ورد ذلك في الاعلان؟ على العموم يكفيهم نموذج واحد ليعلموا من أنا و كيف أكتب.
نظرت إلي مليا و كأنها تستجلي سبب هذه اللامبالاة، قالت:
- تبدو واثقا. ثم مدت يدها إلى الورقة و أضافت:
- هل تسمح؟
كان ذلك آخر ما أنتويه و ما أرغب به، لكن ماهي المقالة غير شيء يملكه الجميع في أي وقت ليقرؤوه و ليحاسبوا صاحبه على أخطائه؟
أعطيتها الورقة برفق بالغ و كأنها صنعت من زجاج، أخذتها من يدي و انشغلت بقراءة ما خططته فيها. كان المقال يعبر عن سخط الشعب من غلاء المعيشة و استمرار ارتفاع الأسعار و أشياء أخرى. كانت فيه نزعة من السخرية تتجلى في إقحام بعض الأرقام المخجلة التي حققتها المملكة اقتصاديا و اجتماعيا على الصعيد العالمي. لحظات قضيتها و أنا أنظر إلى الشبان المنتظرين أقرأ ملامحهم. شاب طويل يقف قبالتي يبدو أنه يمارس نفس الهواية إذ بدأ يحدق في وجهي و كأنه شاشة تلفاز. نظرت إليه نظرة شذراء معناها: أبعد عينك، فسحب بصره بعيدا باتجاه النافذة اليتيمة. قالت لي الفتاة فجأة:
- أسلوبك جميل و ساخر و لكني أشك أن تنجح كصحافي حتى و لو نجحت في المباراة.
استغربت هذا الكلام، فالفتاة لا تعرفني و مع ذلك فيبدو لي أنها أفصحت عن رأيها بصراحة منقطعة النظير، لو كنت مكانها لما استطعت إلا أن أجاملها. قلت بعد تردد:
- لماذا في نظرك لن أنجح؟
أجابت و كأن الجواب كان مهيئا:
- كلامك في المقال محض لهاث وراء بعض الضوء الذي تتمنى أن يسلط عليك، الصحفي الناجح لا يسعى أبدا إلى الشهرة و إنما يسعى إلى إخبار الناس و سوق الجديد إليهم، و ربما تنويرهم و دفع الظلام عن عقولهم، اما مقالتك هذه فهي نفاية من النفايات.
أأأأأأو هذا أكثر مما توقعته، نفاية ‼ ‼ شعرت بغضب عارم يعصف بأعماقي، أردت أن أرد لها الصاع صاعين، اشتعلت كوامن الغضب المكبوتة منذ زمان وأفلت مني الزمام و كدت أصرخ في وجهها : بأي حق يا مخلوقة...
لكن نظرة واحدة إلى ملامحها الوادعة و ابتسامتها الحلوة الحائلة، جعلت الغضب العارم العاصف بأحشائي يذوب و يترسب و خرج من فمي كلام لين استغربته أكان صادرا فعلا مني أم أن أحدهم قد تقمصني:
- أغلب الظن أنك على حق، و كنت أشعر بهذا قبل مجيئي، إنما جئت لأطمئن نفسي بأنني فاشل.
لما قلت هذا رأيت لون وجهها قد تبدل و كأنني صفعتها، غاض الدم عن خديها حتى خشيت عليها أن تغيب عن الوعي. مدت لي الورقة بيد شبه مرتجفة و قالت :
- أنا لم أقصد أن أجرحك و إنما أردت أن أعبر عن رأيي بشفافية دون نفاق أو مراوغة.
كان ذلك اعتذارا أنيقا لطيفا، لكن رغم لامبالاتي إلا أنني أحسست أن الجرح غائر لأنها نفت عني كل موهبة ووصفت مقالتي بالنفاية. ربما كانت على حق.
نظراتها المنفعلة الزائغة و هي تترقب شأن الآخرين أثارت حنقي. لم كل هذا الانفعال؟ مجرد مباراة أخرى كغيرها . سألتها:
- ما سبب موجة القلق هذه التي تعصف بك؟
التفتت إلي و في عينيها نوع من الحزن الكظيم. تأكدت أن الأمر أعمق من أن تكون المباراة هي السبب فيه، بل هو شأن أكبر بكثير. انتظرتها ماذا تجيب فأطالت الصمت و نظرة الحزن إياها لا تغادر عينها.
تركتها ساهمة و أطلقت لخيالي العنان. لو صار كل شيء كما أشتهي فسأصير محررا مبتدئا و كاتبا في جريدة، يكون لي قراء يشيدون بمقالاتي كما أفعل أنا مع صحافيين أحبهم و أشتري الجريدة بدراهم أضطر إلى اقتراضها في بعض الأحوال.
خرجت الفتاة الذي دخلت إلى المكتب متأففة و دخل على إثر خروجها شاب أعرج، بحثت عيني في ساقه عن سبب لهذا العرج فلم أوفق. كان وجهه نحيفا أسمر، يشبه إلى حد بعيد أبطال إثيوبيا العدائين لولا ذلك العرج.
ضقت بذلك الجو و بالصمت القاهر من حولي و من الوجوه الكالحة التي تتجه نظراتها للباب و كأنهم يترقبون خروج الجلاد ليقتادهم إلى المقصلة. ما هذا الجو الكئيب المكفهر؟
و كإجراء على رفضي لهذه الكآبة المشتركة نهضت واتجهت ناحية النافذة مارا بين حشد المنتظرين. أسندت مرفقي على حافة النافذة ورحت أرقب الشارع من أعلى. سيارة جديدة تمر مسرعة تكاد تصدم رجلا يدفع دولابي كرسيه المتحرك بيديه. الرجل نفسه يسير صوب آخر يجلس في ركن قصي يبيع السجائر بالتقسيط. فتاة ترتدي تنورة قصيرة تسير بسرعة حينا و ببطء حينا تلتفت كل آونة و أخرى تبحث عن شاب طويل يقفو أثرها بحذر بالغ و كأن عين الرقيب عليه. في الجانب الآخر مقهى أو مشهى كما يسميه أنيس منصور نسبة إلى الشاي، خال من الزبائن، يجلس النادل الوحيد به يقرأ مجلة.
تنوعت الصور و اختلطت و نقلتني من عالم الواقع إلى عالم الأحلام فأغمضت عيني و أسندت رأسي بيدي الأخرى و رحت في رحلة لذيذة كنت فيها بطلا. بطل يأكل الزبيب و يحتسي النبيذ و بلف ذراعه حول شقراء يكاد يغرق في زرقة عينيها الواسعتين. أحلت ظلمة مفاجئة فأطاحت بذلك كله بضربة واحدة ووجدت نفسي أسير كرسي متحرك أشحذ الناس و أستخذيهم فلا يمنون علي إلا بكلام لا يشبع و لا يروي: الله ايسهل…دفعت عجلة الكرسي لأتقدم إلى الأمام فتخبطت أصابعي في الهواء و الفراغ دون أن تجد عجلة تدفعها.
انسياب سهل و لين من عالم إلى آخر و كأنها أبعاد عالم واحد تشتركه. انقلاب في الصورة و في اللون و في الموقف. مازلت أدور في ضباب رمادي أبحث عن وجهة دون جدوى عندما هويت . أحسست بالسقوط حقيقة لأن رأسي اصطدمت بجانب النافذة الصقيل و كدت أسقط على الأرض لولا تمسكي بإطارها الخشبي.
أمر غريب فعلا أن أغفوا و أنا واقف بجوار نافذة انتظر دورا في مباراة. لنسم الأمر إغفاءة النافذة فهي لا تخلو من إفادة. التفت لأرى كم بقي من طابور الكتاب فوجدت ستة أو سبعة مازالوا في الانتظار. ذكرتني الملفات التي يحملونها بشيء ما دون أن أدرك كنهه في تلك اللحظة، فأجهدت نفسي في محاولة للتذكر غير أنني لم أفلح، فأغلقت مجارير الذاكرة و سرحت نظري من النافذة من جديد.
هواء مقيت يدخل من أنفي له طعم كمذاق سمك عفن، أهو الهواء فعلا أم هي أوهام تشتغل بداخل عقل خرب؟ صفحات اسودت بخربشات لا يفهم منها غير نهايات توحي بأن القلم مازال يرغب أن يكتب. في هذه اللحظة و على ذكر الصفحات تذكرت الشيء الذي ذكرتني به ملفات طابور الكتاب، إنه المقال. لقد غفوت و سقطت مني الورقة. بحثت بعيني فرأيتها تحت كعب عالي تنتعله فتاة. بهدوء صرت ناحية صاحبة الكعب العالي و فتحت فمي بكلمتين:
- لو سمحت.
قلتها منحنيا لألتقط الورقة فابتعدت قليلا مانحة إياي بعض المجال، شكرتها بعدما أصبحت الورقة في يدي و جلست على المقعد. نظرت إلى الورقة فإذا هي مثقوبة إذ كانت بين مكانين أحدهما مرتفع و الآخر منخفض فخرمها كعب الفتاة العالي. لكن لا بأس الكلام مفهوم.
أعدت قراءة المقال لأستجلي أسباب ذكر الفتاة للهاثي وراء الضوء و الشهرة و لأعلم يقينا إن كان حقا نفاية. اقتنعت آخر الأمر أنه فعلا نفاية لأنه لا يزيد الأمور إلا سوءا. فكرت أن أتراجع عن الدخول لكن نظرة واحدة للصالة التي فرغت من المنتظرين أثنتني و دفعتني للوقوف. لحظة خاطفة و أصبحت داخل المكتب.
مكتب أنيق بأثاث عتيق و بجودة لا تنكر و خصوصا الطاولة الكبيرة إذ كانت من خشب العرعر و السجادة الصغيرة فائقة الجمال بتلاوينها ورسوماتها المختلفة. رجلان أحدهما بدين و تبدو رأسه كأنها موضوعة فوق كتفيه دون ارتكاز على عنق يجلس خلف المكتب، و الثاني ضئيل الحجم لا يرى من وجهه غير أنف طويل معقوف و نظرة من حديد.
خاطبني الرجل البدين بلطف مبالغ فيه و كأنه يستقبل ابن أخته، قال: تفضل بالجلوس. شكرته و جلست ثم مددت إليه الورقة قائلا:
- هذا نموذج من المقالات التي كتبها، و أرجوك أن لا تسيء فهمي بجلب ورقة منفردة.
أجابني بعدما نظر إلى الضئيل نظرة لها معنى لا يخفى علي:
- لا مشكلة أعطني الورقة.
انكب البدين على قراءة المقال بينما أخذ الآخر يقرأني، أخافتني نظراته الحادة العميقة. أحسست بها تنفذ داخل جلدي. نقلت البصر بين الرجلين مرارا فوجدت تناقضات غريبة في شكليهما و كنت أحسب أن الطيور على أشكالها تقع. مرر البدين الورقة للضئيل و أشعل سيجارة و سار تلقاء النافذة. مكث هناك دقائق لا يتحرك، ينفث دخان السيجارة في الهواء و يستمع إلى ضوضاء الشارع و كأنها من سيمفونيات بتهوفن.
كلام حاد أجفلني صدر عن الضئيل و قد انتهى من القراءة. لم أتبين الكلام لأنني كنت سارحا في تأملاتي.
عاد البدين إلى كرسيه بعدما ألقى بعقب السيجارة من النافذة غير مبال بالمارة، بش في وجهي و أراني أسنانه. قال:
- مقالك بديع ، غير شيء واحد.
و انتظرته أن يكمل لكن الضئيل أخذ المبادرة و كأنهما شخصان بعقل واحد:
- أنت لم تكلف نفسك عناء المحافظة على وحدة الموضوع و بدأت تنقب عن شيء يجذب القاريء عبر كتابة بعض الأمور التي لا علاقة لها بالموضوع.
أجهدت نفسي عن إيجاد هذه الأشياء الخارجة عن الموضوع فلم أفلح فما كان مني إلا انتظارهما أن يخبراني بالمزيد. قال البدين و قد أشعل سيجارة أخرى و جذب منها نفسين:
- أنت تكنس الموائد يا صغير، و لا تستوثق من المعلومات التي توردها فمثلا قولك عن المملكة أنها جاءت ما قبل الأخير في التصنيف الذي أعدته اليونسف بشأن التعليم ليس صحيحا.
هممت بالاحتجاج لكن الضئيل أخذ بالكلام فور سكوت البدين:
- أمر جاد آخر ليس من شيم الكتاب الصحافيين، أنت تبدأ مقالك بالشكوى و تبثها عبر الكلمات إلى المتلقي الذي هو بالطبع المواطن المسحوق صاحب الشكاوي اليومية. منذ البداية و بعد أن يستشعر الأنين في كلماتك لن يكمل القراءة.
مرة أخرى تحرك لساني للدفاع عن موقفي، لكن البدين كان أسرع مني فبدأ يلوك الكلام على طريقته و بين أصابعه تحترق السيجارة في صمت:
- ثم أنت جلبت المعلومات من مقالات منشورة مسبقا على صفحات الانترنت و في الجرائد و رتبتها و كأنك تلعب البازل، ليس فيها جديد و أنت تعلم أن القاريء دائما يهفو لشيء مستجد لا يعرفه.
قالها و صمت و انتظر ردة فعلي التي كانت نوعا ما غريبة لم يتوقعاها. وقفت و قد استبد بي الغضب لأنهما لم يعطياني فرصة للكلام و قلت و الكلمات تخرج من أنفي متناثرة من شدة الحنق:
- حاصل القول أن مقالي هذا نفاية، قولوها ولا تكثروا من شروح مستفيضة فأنا لا أحب من الأشياء إلا العصارة.
قلتها و استدرت مغادرا دون أن يحاول أي منهما إيقافي. خرجت من مقر الجريدة و أصداء كلام الفتاة لا تراوح جنبات أذني: مقالك هذا نفاية.