إلى صديقي اللدود على الجانب الآخر من الجبهة،،
..........
هل فكرت يوماً يا صديقي أن تخوض عملية انتحارية، فدائية، وطنية؟ (لك أن تسميها ما شئت).
هذا بالضبط ما فعلته قبل ساعات من الآن، وأنا بكامل وعيي ودون تأثير من أحد. ولا يخالجك شعور بأنني أحدثك من البرزخ أو أي مكان سماوي آخر، فأنا ما زلت انتظر الصاروخ. أتذكر حين كتبت مقطوعة أدبية لم أقم بنشرها في أي من صحف الوطن خشية أن تتلصصوا عليها كغيرها من النصوص، رغم أنني موقن من أن رجالكم قد اخترقوا جدران عقلي وعرفوا ما فيه، يومها هذيت في مقدمة ذلك النص: "بين بيتي وبيتي شارع موغل في الموت"، هي الجملة ذاتها التي دفعتني إلى التفكير في العملية الانتحارية تلك. فقد قررت أن أخوض غمارها دون إبلاغ عائلتي أو حتى وسائل الإعلام التي ستمارس كل نزواتها كي تظهر وجه البطولة فيما أفعل.
فمنذ الصباح وزوجتي تهمهم بكلمات لم أفهمها، أو فلتقل إنني أفهمها وأفهمها جيداً لكنني غير قادر على إسكاتها، لأنها مجنونة وذات مزاج سيء، ولا أقدر على إيقافها إلا بمشاجرة قد تجعلني متوتراً طوال اليوم، كاللحظة التي جاءتني فيها طفلتي الثالثة.
اللدود أفرايم، يوسي، مردخاي.. أياً كنت،،
مساء الأربعاء الماضي، وعند السادسة مساءً، قام رفاق دربك بإلقاء حممهم البركانية فوق بيوتنا، فخرجنا نتعثر على وجوهنا. نتوسد الرمل، نجري، يحاصرنا التراب والكتل الإسمنتية. أحمل ولديّ الصغيرين وزوجتي تحتضن ابنتنا البكر. والقذائف فوق رؤوسنا تغرد كسيمفونية لا يعرف لحنها موزرت أو حتى بيتهوفن. ووصلنا رأس الشارع. هناك كانت سيارات الإسعاف بصافراتها التي تدّوي في انتظارنا. حملونا كموتى إلى بيوت المخيم المتلاصقة، وفي داخلي صوت يصرخ (أهلاً بالمعاناة مجدداً). ووصلنا، كان أبي في انتظارنا، استقبلنا بترحاب شديد وصمت على من سبقونا في الرحيل. وفي بيت العائلة جلسنا داخل غرفة صغيرة بجوار إخوة آخرين فروا من جحيم القذائف إلى رحم موت جديد.
ثلاثة أيام مضت دون أن أقوم بتغيير ملابسي، وكما تعلم يا صديقي، فأنا رجل أهتم بمظهري كثيراً ولا أقبل الحالة التي دفعني إليها رفاقك، فرغم كل صواريخ الموت والرعب إلا أنني لا يمكن أن أبقى رثاً مثل جنودكم. أعلم أنك ستستغرب من سذاجتي، وربما ستتساءل: "تقوم بعملية انتحارية/ فدائية من أجل ملابس جديدة".
صديقي اللدود، دعني أوضح لك الأمر على أن يبقى سراً بيننا، اتفقنا؟ الليلة استيقظت مبللاً في ثيابي. دهشت، بل صعقت، كيف يحدث أن أمارس الحب مع فتاة لا أعرفها في زمن الحرب، وفي الحلم أيضاً، وتحت سقف ليس لي؟ أصابني خجل شديد، ماذا أفعل وأنا لا املك سوى تلك الملابس؟ كيف أتوارى عن زوجتي، عائلتي، عن الناس أجمعين؟ وما زاد الأمر سوءاً أن أبصرتني زوجتي فلعنت وشتمت، واعتبرتها إهانة لأنوثتها، ثم أقسمت بأغلظ الأيمان أن تمارس معي شهوتها بعدد الصواريخ التي ستسقط على مخيمنا، وأنا في داخلي أدعو الله ألا يُنزل أي منها. كل ذلك جعلني أشعر بحالة من الاختناق الشديد، فقررت أن أذهب إلى بيتي وأحضر ما يلزم من ملابس وطعام.
خرجت... وعلى مقربة من المنطقة التي أقطنها استوقفني بعضهم، كانوا ينظرون إلى ثيابي المبللة ويضحكون، يسخرون مني حتى أوشكت أن أضربهم واحداً واحداً، إلا أنهم تركوني دون أن يسألوني كغيري عن وجهتي، وصوت أحدهم من الخلف يهمس:
- حاذر، فالمنطقة في خطر، والقذائف لا ترحم.
***
اللدود أرفكشاد، يكوف، بن يامين.. أياً كنت أيضاً..
... أنا موقن بأنك مثلي تكثر من مشاهدة الأفلام الأمريكية، تحديداً أفلام الأكشن وربما أثارتك تلك الأفلام التي لا يبقى فيها غير بقية ناجية، تبحث في أحد المستودعات عن الطعام أو الغطاء بسرعة. هذا بالضبط ما جرى معي، ولك أن تعود لمشاهدة أي من تلك الأفلام حتى تفهمني جيداً. فحين ولجت المنطقة لم يكن سوى الخوف والقشعريرة التي تسري في بدني. ولجت وأصوات الطائرات تغرد فوق رأسي، لحظات حتى جاءني الصاروخ الأول فانزويت تحت ظل شجرة. نجوت، كالأفلام الأمريكية أيضاً، وتوقفت قليلاً، أفكر: هل أعود من حيث أتيت أم ماذا أفعل؟ والجميع في البعيد يشيرون لي بأن تعال. لكنني قررت مواصلة المهمة تلك. سِرت ملاصقاً جدران المنازل. وحين وصلت بيتي كان الباب مفتوحاً بفعل القذائف. ولجت وبدأت كمجنون يريد أي شيء أجمع الملابس والطعام وسقف المنزل متسعاً للفراغ.
... خرجت من المنزل، ولم أفكر في إغلاقه، وسرت على أطراف أصابعي بهدوء كأن راجلة من جنودكم تراني، أعلم أنك ستضحك وستقول بأن الرعب تلبسني، ولكن لا تفرح كثيراً، فقد خرجت سالماً هذه المرة وحين وصلت جوقة الثوار، لم يسخروا مني كما فعلوا أول مرة، بل ابتسموا، وصفق أحدهم بعنف، ثم قال ووجهه يشي بالفرح:
- بإمكانك أن تبيت الليلة مع زوجتك بهدوء أيها المجنون.
***
أفرايم، يوسي، مردخاي، أرفكشاد، يكوف، يامين
سحقاً لكم جميعاً.