بذرة الحب التي القتها سناء في قلبه بدأت تنفض عنها غبار الحيرة وتشق طريقها الى النور ومافتئت تنمو وتكبر حتى اورقت بالامل ,,وازهرت بالفرح
وافعمت اعماقه بعبق ساحر لذيذ ,بشيء كالنشوة كالحلم ...شيئ غامض ,يدغدغ النفس باشواق مبهمة وحنين جارف ,ويمنح الروح رقة وخفة وقدرة على التحليق ,وكأنها طائر رشيق يرفرف باجنحة في دنيا مسحورة كل مافيها جميل وبهيج ,
اهكذا يفعل الحب ؟؟؟
هذا ماراوده صباحا وهو يستيقظ على طيف سناء يمس روحه مسا لطيفا ليوقظها من رقادها ,ويطلقها في عالم من الصفاء والحبور ...
وانبثق في اغواره تفاؤل عارم , فشعر برغبة للانطلاق ...للعمل ...للضحك...للطيران
دخل على امه في المطبخ وراح يساعدها في تحضير الطعام ,ثم حمل الاطباق الى المائدة في خفة ونشاط , وجلس مع والده يتبادل الاحاديث ...
لكأنه يتذوق الحياة للمرة الاولى ...
اقبل على الاكل بشهية عجيبة اثارت دهشة والدته , ولم يلبث اخوته ان توافدوا وهم يضحكون وانهالوا عليه بتعليقاتهم ودعاباتهم ...
انهى فطوره وغادر مسرعا الى المكتب ووصل اللى الصحيفة التي يعمل بها وراح يهبط الدرج بخفة ومرح وفي اعماقه شوق جارف لرؤية سناء ..
وراح يتجول في الممرات والغرف باحثا عن سناء ,ولكن اين سناء ؟؟
لقد مضى على بدأ الدوام اكثر من نصف ساعة , ولم تظهر ,لو انها حضرت لصادفها وهي داخلة او خارجة او مشغولة .
وشعر بانقباض ممض يقرصه من الداخل ,وتحولت نظراته من التفاؤل الى القلق , سأل عنها فاخبروه بانها اتصلت بمدير شؤون الموظفين , واعلمته بانها لن تحضر اليوم ....
لماذا غابت ياترى ؟؟ شغله هذا السؤال برهة وهو يفكر في امر غيابها , انها مثابرة وقلّ ما تغيب فلم غابت هذا اليوم ؟؟؟
في عين المشتاق تتحول الحقيقة الى سراب ويتبعثر الجمال ويصير بحالة اكتئاب ..فما اقسى الشوق عندما يشرب نبيذ الغياب !!
ولسعه خاطر مزعج اثار حفيظته وبدد هدوئه وعصف غياب سناء بكل الافراح التي كانت ترفرف بداخله !!!
مر وقت ليس بالقصير استحضر خلاله ذكريات الليلة السابقة
اخرج بدر البطاقة التي اعطته اياها سناء وأعاد قراءة ,عنوان شركة والدها ,,شركة الساري للتجارة العامة .
وراح يبحث عن البرج الذي يضم مكاتب الشركة بعينين مستطلعتين .
كانت عمارة شاهقة ترتفع كاسطوانة هائلة ..تحيط بين اضلاعها الواح كبيرة من زجاج خاص .وكان خيال السماء ينعكس على الواح الزجاج فيشملها بزرقة داكنة يعطي المبنى منظرا بديعا وروعة اخاذة ...
((لابد ان الذي يستخدم مثل هذا المبنى الفخم يحتاج لجيش من الموظفين ))
هكذا حدثته نفسه وهو يقرأ اسم الشركة الذي كتب باحرف ذهبية بارزة.
شيء ما كان يجذبه للخلف بقوة ,يعرقل خطواته ,يزلزل ارادته ..يسأله الى اين انت ذاهب ؟؟؟
كيف سيرضى رجل غني ان يضع يده بيدك ويزوجك ابنته ؟؟....ااعماك الحب؟؟
راودته نفسه على الانسحاب ..لكن كلمات سناء اندلعت في ذاكرته فجأة ,,
((اذا لم يوافق ابي على زواجي منك فلن تجمعني الحياة برجل من بعدك ))
,اتجه الى مكتب الاستعلامات , فوجد فيه موظفا وسيما يرتدي بذلة انيقة جعلته يشعر بالخيبة ..
بذلتي انيقة ايضا ,,لاتشكو من شيء , هكذا قال محدثا نفسه ,
سأله عن مكتب الساري للتجارة العامة ,فاجاب انه بالطابق السادس ..
ومضى الى المصعد , ينتظر هبوطه حتى يحمله للطابق السادس ليقابل السلطان ويسأله يد اميرته الاسيرة ...
اقترب من مكتب الساري بخطوات بطيئة يثقلها قدر من الحياء ومقدار اكبر من الرهبة والتردد ...استقبلته فتاة جميلة ...انيقة الملبس فاتنة البسمة هل من خدمة _
_انا بدر صحفي في جريدة الحقيقة ..اريد مقابلة الاستاذ عبد الحكيم الساري .
هتفت السكرتيرة بلهجة مرحبة
_انت ؟! اهلا وسهلا ...تفضل بالجلوس .
شعر بالارتياح وجلس ينتظر ...
بعد دقائق قليلة فتح الباب واخبرته السكرتيرة بان السيد عبد الحكيم جاهز للقائه ..
دلف الى مكتب واسع يزدان باثاثه النفيس الذي لايذكر انه رأى مثله من قبل ...
توقف السيد عبد الحكيم امام مكتبه الانيق المصنوع من الخشب النبيل ,ثم دعاه للجلوس على كرسي جلدي وثير ...
فك السيد عبد الحكيم زر سترته الانيقة ,وجلس قبالته على كرسي مماثل , ثم ابتسم ابتسامة مرحبة امتصت بعض القلق والتوتر الذي يملؤه ...
قال السيد عبد الحكيم بلهجة مرحة :
_ اهلا بكاتبنا الكبير,سناء حدثتني عن شخصيتك الفريدة كثيرا .
اخلاقك بالذات كانت مثار اعجابنا جميعا
ثم استدرك موضحا ..من خلال حديث سناء طبعا ...
ازاحت هذه المقدمة المشجعة كل القلق الجاثم على صدره فابتسم ممتنا لهذا الاطراء ..وهمس :
اشكركم على هذه الثقة ..
تنهد السيد عبد الغني وقال:
_سناء فتاة طيبة القلب ...وتتأثر كثيرا بالآخرين ..
لم يفهم قصده بالضبط ,قال مجاملا :
_ربيت ياسيدي ..فاحسنت التربية ,,
ضحك والد سناء وقال مداعبا :
_تشجع يابدر ..هل نسيت ما جئت من اجله !
اابتسم وهو يداري ارتباكا :
_انت تعرف لماذا جئت ..احب ان اسمع رأيك الصريح.
_انت تحب الصراحة اذن
_الصراحة اوضح طريق
_لكن الصراحة احيانا تكون قاسية !
تفاؤله ضوى قليلا ,ماذا يعني بهذه الملاحظة ؟
لم ينبس ..اراد ان يقول ماعنده بجلاء
عندما يجدالمرء نفسه معلق بين الشوق والحرمان .... يصبح الحنين سكيناً في خاصرة النسيان
ثمة اشياء كثيرة لاالقي لها بالا انه عالم الاعمال _
_رجال الاعمال عادة لايهتمون بالامور الصغيرة ..
_لااكتمك ..عالم الاعمال عالم غريب !يلتهم الوقت كما تلتهم النار الهشيم .
لكنه عالم لذيذ ,عالم ممتع ..فيه النجاح والربح والثراء ,,فيه الكفاية والقوة والنفوذ..
_ليس دائما ,,,
حدجه بنظرة جافة لاتريح ,لكنه سرعان ما انتبه لنفسه ,فابتسم وقال :
_انا لم ارب سناء ..سناء نبتت في هذا العالم وحدها كما تنمو الوردة في البراري الخضراء وفرت لها كل شيء ثم تركتها تترعرع بحرية ..انا اؤمن بالحرية وظفت لها خادمة تعنى بهالاني مشغول باعمالي الواسعة ..
لكن والدتها لم تراقب تطور شخصيتها كما يجب وهذا كان اكبر خطأ ارتكبته في حياتها
هذا الخطأ قتل الطموح في نفس ابنتي وجعلها تتأثر بخادمتها البسيطة ,اصبحت تهوى حياة الفقراء والبسطاء ...لم تتذوق السعادة التي نشأت في احضانها , ولم تحفل بها ..صارت تنظر للعالم بمنظار اسود . تبحث عن سعادة رومانسية كاذبة كالتي تقرأ عنها في الروايات وتسمع عنها في الافلام.
يؤسفني ان ابنتي فقدت قدرتها على الطموح , انها دائما مشدودة الى تحت ,لاادري كيف انقذها من هذه الافكار .
آه لقد بدأت التلميحات المؤذية ! الى اين يريد ان يصل هذا الرجل الانيق فشعر ان من حقه ان يدافع عن سناء ويصوّب نظرة والدها فقال متضاحكا :
_اختلف معك في ان سناء فتاة بلا طموح , فما اعجبني فيها انها فتاة طموحة تبحث عن صورة افضل للحياة ,صورة تتكامل فيها لذة المادة مع سعادة الروح ونظافة الوجدان
واردف _يبدو لي انك تبالغ قليلا في الحكم على سناء
سدد اليه نظرة غامضة ثم قال :
_انت تحب سناء اليس كذلك ؟؟
احرجه هذا السؤال وقال وهو يحاول اختيار الكلمات المناسبة :
_لقد وجدت في سناء فتاة مؤدبة ,ذكية ,حساسة ,طيبة .يحلم كل شاب بان يقترن بمثلها ,باختصار انا ارتاح لها جدا واطمح ان تكون لي شريكة في هذه الحياة .
_يعني تحبها صمت اعلانا للرضى ,,هز رأسه كاليائس ثم دار حول مكتبه بخطوات متثاقلة , وجلس خلفه وقال وهو ينقر حافة مكتبه برأس سبابته
_من يحب فتاة يجب ان يسعدها
_مافي ذلك شك
_هل تملك اسباب السعادة الحقيقية التي تحتاجها فتاة كسناء ؟؟
_املك اسباب السعادة التي تحتاجها اي فتاة .
_سناء ليست اي فتاة
ادرك ما يرمي اليه وقال :
_لاانكر ان لسناء وضعا خاصا لا تتمتع به اي فتاة لكننا متفقان ...انا وهي ... على الاساسيات التي تكفل لنا السعادة التي نرجوها .
.سأله بغتة
_هل تستطيع ان تشتري لها سيارة فخمة كالتي تركبها الان ؟
فاجأه السؤال ..اجاب وهو محرج
_في الحقيقة املك سيارة متواضعة نستطيع ان نستخدمها ريثما تتحسن اوضاعنا .
قذفه بسؤال آخر
_هل تستطيع ان تشتري لها (فيلا) كالتي تقيم فيها الان ؟
لاذ بالسكوت ,هذه لن يستطيعها لاالان ولا غدا ,لكنه لم يرحم سكوته ورماه بسؤال آخر
_هل تستطيع ان تقيم لها حفل زفاف يليق بها وباقربائها ومعارف ابيها
بدأ يشعر بالهوة السحيقة التي تفصل بينه وبين سناء , بل هذا ماكان يجعله يتردد في التفاعل مع مبادرات سناء , هاهو والدها يصفعه بهذه الحقائق ليجعله يستسلم وينسحب من حياة ابنته ...
_سناء يابني ولدت وفي فمها ملعة من ذهب فااذا ماسحبت هذه الملعقة من فمها تذبل وتموت ..
كاد ان يرفع الراية البيضاء ويعتذر للسيد الساري عن محاولة خطبة كريمته المرفهة الثرية ,لكن طيف سناء الوادعة الرقيقة ,حضر فجأة وشحنه بدفعة جديدة من العزم والاصرار , وقال لوالدها في ثقة :
عندما اخترت سناء واختارتني لم تكن هذه المعاني غائبة عن ذهننا ,لقد شرحت لها ظروفي بصدق , وهي راضية بما ستقدم عليه .
استند السيد عبد الحكيم بكلتي يديه على مكتبه ,واسترخى برأسه فوق كفيه المتشابكتين بقوة ,ثم تنهد وقال :
نعم هذا صحيح ...سناء راضية بما ستقدم عليه لكنها في اعماقها ساذجة ...طفلة ...لاتقدر عواقب الامور ...لاتقدر مسؤولية الزواج ,ومتطلبات المستوى المادي والاجتماعي الذي نشأت فيه ..
بدأ يشعر بالاهانة ..كل كلمة يقولها هذا الرجل المغرور ترفضه وتجرحه وتتهمه بالوضاعة المادية !
_المال ليس كل شيء في الحياة
قاطعه بحدة وقال وهو يلوح بيد قد تشنجت اصابعها حول قبضة من الفراغ ..
_خطأ .. خطأ المال هو كل شيء ..بلا مال لاتستطيع ان تكون سعيدا ..لاتستطيع ان تكون قويا ..لاتستطيع ان تعيش ..لاتستطيع ان تتزوج ..
ازعجته هذه الهجة الصاخبة فقال :
_لااغفل دور المال في حياتنا , لكني لااستطيع حصر السعادة فيه .
قال متظاهرا بالحذق والذكاء :
_دعك من هذا التمثيل ,عليك ان تنسى سناء , انت تحب مالها ونفوذ والدها لاهي .
_انا لاامثل , ولا اسمح لك باستخدام هذه الاساليب معي .
قال بحدة وقد بدأ يخرج عن طوره :
_انت انسان جشع ترغب بالاقتران من فتاة غنية لتختصر على نفسك المشوار !
هتف في ثورة وحنق :
_بامكاني ان اسمعك كلاما غليظا لم تسمع به من قبل ,لكني اترفع ان انزل للمستوى الذي عاملتني به .
قال متوعدا :
_انت لاتعرف من تتحدى !
_انت مغرور بنفوذك
_بامكاني ان اؤذيك
_هل افهم ان هذا تهديد ؟
_سمه ماشئت وسترى
اي عالم هذا الذي نعيش فيه ؟ واي منطق هذا الذي يتحدث به المترفون ,المغرورون بما اوتوا من نعمة زائلة سوف يغادرونها عاجلا !ليعودوا الى باطن الارض التي جاؤوا منها حفاة عراة يتضورون جوعا وعطشا ويلهثون وراء قطرة لبن تمنحهم الحياة !!!
أيها النسيان أعطني يدك كي أسير في مدن الذكرى معك,
نضج الفراق على شفاهي أزهرت قبل الوداع لك قطافي يا نسيان هبني قبلتك.