نهض عيسى من فراشه لما ملأت زقزقة طيور الخطاف باحة المنزل وغرفه الثلاث . اطفأ التلفاز الذي يبث النشيد الرسمي وصورة السيد الرئيس بشيء من الضيق ، وابتعد عنه خطوة . كانت الساعة تقارب السادسة والنصف صباحا ، وكانت موجة الحر قد بدات في الاشتداد ، رغم هطول زخات قوية وطويلة نسبيا من المطر اواسط الليل ... تثاءب فاتحا فمه الى حده الاقصى . ثم توقف لحظة ينضر في الطيور السوداء البيضاء ، وهي في طيران عشوائي داخل المنزل . لم يدر بذهنه اي سؤال ، ولكن مشهد الفوضى لم يرق له تماما ... رفع تبٌانه الى اعلى ،، وفتح ذراعيه يتكسٌل ... احس بالرغبة في العودة الى النوم ،،، التفت الى فراشه المسجى على الارض وسط قاعة الغرفة ، ثم الى الطيور الصاخبة ، ومطط شفتيه في حركة رياضية ... "سيبدا الان يوم جديد" ،، حدث نفسه فانفجرت الكلمات متراخية من عينيه . مضى الى الحنفية في المطبخ غسل وجهه وتفقد ملامحه في المرآة ... فتح ساقيه اكثر من مرة ، وحكك خصيتيه .. حاول تذكر تاريخ اليوم :السادس عشرة من جوان ... تاريخ عادي الى حد الساعة ... وليس بمقدوره ان ...
- كل الاشياء في البلاد تجعل منه عاديا ..
قال كلماته الاخيرة بصوت مرتفع ، وحدق ذاهلا في لا شيء .. حك قفاه ، ثم انزل يده وحك خصيتيه من جديد ... تبٌانه قديم مهترئ تعددت فيه الثقوب من الامام والخلف . شعر فجأة بهيجان يسري في وسطه .. اغمض احدى عينيه ، ورغب في الجلوس على كرسي قريب منه ... تساءل ان كان بامكانه ان يلتقي امراة ما خلال يومه .. ولم يفكر طويلا في الاجابة .. قال : " قد تتغير بعض الاشياء في مسار اليوم " . نظر في تبانه ، تحسسه براحة يده ،، ثقوبه كثيرة ولكنه سيلبسه لاسبوع آخر على الاقل ،، او ربما سيتنازل عن لباس التبان الى الابد ... " ليكن ذلك " اجزم في اعماقه ، واسرع يبحث عن التبريرات ... المسالة لا تكمن اساسا في ان ليس لديه طاقم من التبابين ، وان كان عددها قليل جدا .. ولكن لان الجو حار الان ..هذا تبرير مقنع بالنسبة اليه . ثم هو لباس داخلي ، ومن له ان يكتشف الامر ؟،،
في اقل من خمس ثوان غادرت كل الطيور المكان آخذة معها صخبها ، ولم يتبقى منها غير ريشات قليلة تتهادى في سقوطها على الارض . خرج من االمطبخ ، ورفع راسه الى السماء الزرقاء ،،، مضت اسابيع عديدة لم ينهض فيها باكرا كما هو حاله اليوم ... لم تكن رغبته هو ... ولكن ، الحض او القدر ، او ربما ... الفقر ... يقول الناس انه الكسل ، ولا شيء غيره .. واذا شاء تحليل الامر من جديد سيجد بعض الصحة في قولهم ، ولكن ليس ذلك كل شيء ... هناك سوء الطالع ايضا ، كطالع صورة الرئيس التي يقع عليها بصره صباح كل يوم يفتح فيه باب منزله . ضاما يديه الى صدره ، مضمخا وجهه بابتسامة لا تصنٌف .. وتحت الصورة عبارتي الامن والامان ... قد ارتعد كامل جسده في اول اكتشافاته لها . قال حينها موشوشا لنفسه ، "الرئيس سيحرس بيتي ، واضنه ايضا سيؤمنني من نفسي .. " يتآكل الحلم ، ويستقر الامن من الحركة ،، كل شيء يستقر حتى الجمود / وتابى التبابين ان تتغير ولو بالسرقة ، او بالتزييف ... نهض من كرسييه دون ان يشعر ، واتجه الى باب المنزل يفتحه ليتفقد حارسه ، فاذا هو ما يزال مرابطا في مكانه . اغلق الباب من جديد وعاد ادراجه الى الداخل . شعر في اللحظة ذاتها ان صورة الانسان لديه تتآكل ، ترنح لا اراديا ،، مد يده واستند الى الجدار القريب منه ... ثم هذه الوحدة القاتلة التي تكتنفه ،،، من الصباح وحتى المساء ، بل وحتى الصباح الموالي .. كان يقول ان الرغبة لا تنقصه في تغيير مسار حياته ، ولكن الوسيلة لا تكف عن التواري .. لم يستطح زحزحة هذا المسار حتى الان ... جلس من جديد على الكرسي الاقرب ، فتارجح به وكاد يسقط . الى اي مكان يمكنه ان يذهب في هذا اليوم ؟ مرٌ جرار في الطريق فملا الفضاء الشاسع بخرير محركه .. تلاشت احاديث عيسى الداخلية ، وتلاشت معها رغبته في البقاء جالسا .. سيتحرك للبحث عن شيء ياكله ، او يشربه .. ولكن ردحا مهما من الزمن سيمضي دون شك قبل ذلك .. فالمنزل لا يوجد به ما يؤكل ،،، قد لاحظ ذلك اكثر من مرة ، وقال انه قد يبدو للآخرين مثيرا للغرابة ... ولكن الاخرين لا يدخلون هذا المنزل ، لم يدخله احد على ما يذكر بعد اليوم الثالث من وفاة والده ... كان ذلك في السادس عشرة من جوان قبل ثلاث سنوات .. فجاة لاح في ذاكرته ان اليوم ليس الا ذكرى لذلك الحدث الجلل بالنسبة لديه ... لماذا لم يذكره من قبل .. ولماذا تتآكل الاحداث فتسقط متشابهة من الذاكرة ..؟ تنهد من اعماقه وواصل محادثة نفسه : تمر الايام سريعة ، او لا تمر ،،، ولكن الوالد قد انتقل الى التراب ... كان هو ما يربطه الى المكان ، وهو ما دفعه الى ارجاء رغبته في الهجرة ... لم يكن قد ناقشه في الامر ابدا ، ولكن احترامه له او خوفه عليه ، هو ما جعله يرجؤها الى زمن لاحق حتى فات الاوان ،،، وغلقت الحدود بابواب مزدوجة . وتقدمت به سنوات العمر اكثر فاكثر ..
مسح عينيه باطراف اصابعه .. وردد لمرتين في اعماقه : سوف لن يحتاج الامر لاقل من ثورة كي يتغير ..
احس بشيء من الحرية عندما لبس سرواله . توقف لحظة طويلة يحدق في حبل الغسيل ، وعش الخطاف الطيني ، وكانه يعدد الطيور التي غادرت جميعها الدار ... ثم فجأة اختطف القميص الملقى على الكرسي الخشبي .القى به على كتفيه ثم القى بالجاكيت الخفيف فوقه واتجه الى الباب ... سيشرب قهوة الصباح بالمقهى ، ولن يدفع مليما واحدا هذا اليوم ، الى القهوجي . لن يواصل التفكير في المسالة ، ولكنه سيشرب .. وسيتجه ايضا الى بنزرت ،،، لا يعرف ماذا سيفعل هناك بالضبط ، ولكن امرا ما سيتغير ... اكيد ان شيئا سيتغر ، لا يعرف ما هو ، ولكنه احساس عميق يعتمل بهياج في داخله ... في منتصف الطريق ، استوقفه الشيخ الرجاء . استوقفه بعصاه فجأة ، عندما وجهها نحو ركبتيه ،، قال له : مهلا ، ، ثم بعد لحظة وكانه يستدرك ، منذ متى تعاليت على خلق الرحمان ، ومنذ متى طلع لك شنب ؟..
لم يترقب الشيخ الرجاء ، اجابة منه ، ويبدو انه قد خطط لسلوكه هذا منذ زمن ... المهم انه انزل عصاه الى الارض ، وحرك بعض اجزاء جسده لمواصلة المسير ... كان الى حد كبير يشبه اباه . ولكنه ما كان ابدا ليتدخل في شؤونه ،، احيانا فقط يساله ان يستند عليه حتى يصل الى منزله . وفي الطريق يحدثه عن امجاده الماضية ، وتدخلاته الحالمة في بعض المواقف ... تتكرر الكلمات ، وتتوحد الصورة فتبتعد شيئا فشيئا بلونها النحاسي الصدئ .. احس عيسى ان الرجل اراد ابلاغه بما يشعر به تجاهه في هذه الايام لا اكثر ولا اقل ، وانه لا ينتظر منه اي تعليق ...ولكنه دون شك لا يتمنى منه الا فهم الرسالة .. ضم عيسى ذراعيه الى جانبيه ضاغطا عليهما حتى بدا وكانه في وضع الاستعداد الكلى ، ولم ينطق بحرف ، كان كل شيء مفاجأ له في هذه اللحظات ، وليس لديه من الاجابات الجاهزة شيء . ما ان افاق من ذهوله بعد ثوان ، حتى واصل السير وكأن الطريق قد اضحى سالكا امامه بعد انغلاق وقتي ... الشيخ الرجاء كان صديقا حميما لوالده منذ زمن طويل . ولاحظ عيسى انه لم يحضر جنازته ، ولم يحضر موكب التعزية واشار الى ذلك في بعض احاديثه لمن يعرفهم من الشيوخ . وسمع منهم تعليلا لم يتقبله . مفاده ان انه يعتقد ان الرجل لم يمت بعد ...
قد ذهل عيسى في المرة الاولى ، وكاد يسرع الى القبر للنبش عن جثة ابيه كي يتاكد .. اقشعر جسده بكامله واحس بانه يحمل في طيات نفسه جذر الخيانة لاقرب عزيز عليه ... الموت حق قال في نفسه ... والجثة قد ضلت مسجاة في مكان الوفاة لاكثر من يوم قبل ان تدفن ... قد ضرب عيسى جبهته اكثر من مرة ، واصطدم بالجدار في احدى حركاته المتشنجة حتى كاد يسقط على الارض ...
لم ينتبه عيسى الى الوجوه التي حدقت فيه اثناء سيره ، ولا حتى تلك التي القت عليه التحية . قد تشعب تفكيره بعض الشيء .. ولكنه لم ينس ان اليوم ذكرى وفاة والده . ركب الحافلة دون ان يمر بالمقهى ... اتخذ لنفسه فيها زاوية اشعل عدة سقائر متتالية كانت سريعا ما تنتهي ... نفث دخانها بحماس وحدق في المشاهد الكالحة التي تخلفها الحافلة وراءها ... اشجار الكاليبتوس المنهكة ، والذرو المتخفي تحت طبقات الغبار ، والعلليق ، واللوز الشائخ .. تمايلت الحافلة مرات عديدة كئناء مليء بالماء ، وتوقفت ، ثم واصلت سيرها مرات لا تعد ...وفي كل مرة كان يابى الانتباه .
جلس في مقهى المحطة عندما وصل . شرب قهوة ، ونظر في الوجوه المبهمة . سمع اثنين يتحدثان وشوشة عن برنامج تلفزي يتعلق باحداث الحوض المنجمي ، قدمته قناة معارضة للنضام ... ود المشاركة في الحوار ، ثم تلاشت رغبته مع نهوضه للدخول الى المرحاض للتبول ... في الطريق التقى بصره ب"الفرس " درة . اتفق معها على كل شيء باقل من نضرة واحدة ، ودون ان يتوقف . ما ان استقر في الداخل حتى افرج عن ساقيه قليلا وترك لنفسه الحرية كي تفرغ ما لديها من الحمولة . وفي الاثناء ، اجال بصره في المكان الصدئ بالكتابات المتضاربة معنى وموضوعا ... اغلق سلسلة سرواله واستدار فاتحا الباب للخروج ، لقد وجد صفا من المنتضرين لادوارهم قد تكون . ابتسم في وجه اولهم وهو يقول : اتعلم انه من داخل هذا المكان تبدأ الحرية ؟ . ولم يعره الرجل اي اهتمام .
محمد علي الشحيمي .