احترقت الغمامة والموسيقى، والورد ودمى الأطفال، فلم أجد مكانًا أختبئ فيه سوى نهر كثير المياه، وهناك عشت طوال سنوات وحيدًا مستسلمًا لطمأنينة غامضة، حتى جاء في أحد الأيام صياد هرم، فانتشلني بسنارته من قاع النهر، وحدق إلي باستغراب وأسف، وقال: (ظننت أنك سمكة).
فقلت له متصنعًا المرح: (لا تخطئ، فالإنسان أفضل وأروع من السمكة).
فنظر إلى الشمس الآفلة بعينين مجهدتين، وقال: (مساكين أولادي، سينامون الليلة دون أن يأكلوا).
فأحنيت رأسي بخجل، ثم قلت له: (كيف صدقت ما قلته لك؟ كنت أمزح فأنا سمكة).
قال الصياد: (ولكن الأسماك لا تتكلم).
قال الصياد متسائلاً بفرح: (أتقول الصدق، أم ما زلت تمزح!).
فأجبت دون تردد: (سؤالك ساذج، فما الذي يرغمني على الكذب!).
فلم يفه الصياد بكلمة، وحملني إلى بيته وهو يلهث متعبًا، وهناك تولت زوجه تقطيعي بالسكين إلى قطع مختلفة الحجوم، ووضعتها في مقلاة ملأى بزيت يغلي، فلم أصرخ متوجعًا أو مستغيثًا، وبقيت في المقلاة حتى نضجت. عندئذ ابتدأ أولاد الصياد يأكلونني بنهم، فغمرتني البهجة، ولكني حزنت بعد قليل لأن الأولاد قالوا بتذمر وسخط إن لحمي سيئ الطعم على الرغم من أنهم استمروا في أكلي.
وازداد حزني عندما تنبهت إلى أني في يوم تال لابد عائد إلى جوف الأرض، وسأضطر آنذاك إلى العيش في الأماكن المظلمة القذرة حتى يتاح لي يومًا رؤية الشمس في جذور شجرة أو وردة .