يبدو أنّ ساكناً جديداً حلّ في البيتِ المقابلِ لشرفتي ، كالعادة فهو طالبٌ جامعي ، منذ ثلاث سنوات ، وفي مثلِ هذه الأيامِ سكنَ ذاك الذي عشقته ، و هزمَني ، أنا التي ما خسرتُ حرباً ، أنا المدججة بأقوى الأسلحة ، أسلحة كثيرة و قوية ، هزمتُ كثيرين في المدرسةِ ، في الشارع ، في الوظيفة ، في الباص ، هزمتُ كلَ من قابلتهم ، لاحقوني ، شحذوا أسلحتَهم ، و أعلنوا الحربَ ، لكني هزمتهم ، أمّا هو فقد هزمني دون عراك و مطاردة ، و قبل أن يرفعَ سلاحاً ، عندما رأيته أول مرة كان جالساً ، يقرأ كتاباً بيده ، حاولت أن ألفت انتباهه ، تحركتُ في الشرفة جيئة وذهاباً دون جدوى .
في اليوم التالي راقبته ، و ما إن خرج إلى الشرفة حتى برزتُ مستعدة للمجابهة و التحرش ، التقت نظراتنا ، حييته بابتسامة ، ابتسم ، ثم جلس على كرسيه ، و بدأ يقرأ ، مضت الأيام أحييه بيدي ، أشير له ، فيكتفي بإرسال ابتسامةٍ هادئة ، قذفته بالحصى و الرسائل لاستدراجه ، فحافظ على وقاره و اتزانه ، أوقفت القتال في الجبهات الأخرى ، حشدت كل ما أملك من قوة وسلاح لهزيمته ، أعلنتها حرباً واحدة وجبهةً واحدة ، لكنني فشلتُ ، أطلقت سهاماً ورماحاً ، و امتشقت سيوفاً ، ولكنه لم يرمِ سهماً ، ولم يرفع سيفاً .
- 2 -
انتهى العام الدراسي ، رأيته يحزم أمتعته ! .
سيرحل دون أن يترك لي فرصة لأناوشه .
تحطم ذلك الكبرياء الذي بنيته على أنقاض رجال لا عدد لهم …
تملكتني جرأة عجيبة ، ارتديت ملابسي على عجل ، و قرعْتُ جرس بابه …
سأنقل المعركة إلى أرضه ، سيفتحُ البابَ ، ويراني ، سيتغيرُ لونه ، و تتعثّر كلماته ، سيرتبك ، ويتراجع إلى الوراء ويصطدم بالكراسي ، و ربما يقع مكسوراً .
و فتح الباب ، ابتسم ، وكأنه كان بانتظاري : تفضلي .
قالها دون تكلف .
صدِمْتُ ! .
تغير لوني ، انكمشت الحروف على لساني ، خطوت بارتباك ، اصطدمت بكرسي ، كدت أن أقع ، جلست على الأريكة ، حاولت أن أبدو هادئة ، المعركة الحاسمة اليوم ، هذه أول جولة خسرتها بجدارة ، يجب أن أخطط جيداً ، سأطلب منه أن يريني غرفته …
لكنه فاجأني : ما رأيك أن تتفرجي على غرفتي .
الجولة الثانية خسرتها ، هذا الرجل غريب .
هل يقرأ الأفكار ؟ . هل تتحدث الكتب التي يصاحبها عن التخاطر ؟ ! .
غرفته رائعة ، أثاث بسيط أنيق ، لوحات جميلة تزيّن الجدران ، و الموسيقى الهادئة تخدّر الجسد و العقل …
ماذا يدرس ؟ .
ماذا يسمع ؟ .
ماذا يحب ؟ .
ماذا يكره ؟ .
أسئلة كثيرة تحاصرني .
- اجلسي .
نطقها بحنكة شديدة .
– أنا أدرس الأدب ، أعشق سماع الأغاني العراقية ، أحب البساطة و العفوية ، و أكره الهزيمة .
غريبٌ أمر هذا الرجل ، إنه يفاجئني ، يضربني بأسلحةٍ ادخرتها لحربه ، يوقعني في كمائن نصبتها له ، يكشف مخططاتي ، يعلنها على الملأ .
الجولة الثالثة خسرتها ، كم بقي أمامي من الوقت ، هل أوشكت المعركة على الانتهاء .
- سأسافر بعد ساعة .
ضربة أخرى يوجهها إليّ ، خسرت جولةً أخرى ، بقيت ساعة واحدة ، و قد خسرتُ الجولات السابقة ، لم يبق من الوقت الكثير ، ستبدأ الآن المعركة الحقيقية ، سيشتد الهجوم الآن ستخرج الأسلحة الفتّاكة المعَدّة لمثل هذا اليوم … ستكون الجولة الحاسمة ، ستتحطم بساطته و عفويته أمام درايتي و غوايتي .
سألته : ما رأيك بجمالي .
- أنت جميلة بلا شك .
- هل أعجبتكَ ؟ .
- كلّ جميل يعجبني .
- ألا تشتهيني ؟ .
- أنت صغيرة .
- أنا أكبر منك بسنةٍ أو سنتين .
- مع ذلك فأنت صغيرة .
نهضْتُ من مكاني .
جلست بجانبه على السرير : نحن لوحدنا ، و الزمن يمضي ، جسدي أمامك افعلْ به ما تشاء .
ابتسم : لن أفعلَ شيئاً .
نهض عن السرير .
- لن يفيدك الهروب ، صدري الناهد يفتن الرهبان و الزهّاد .
- لن يفيدك الإغواء .
وقعت في حيرة ، كأني أخاطب حجراً ، لم تتحرك غريزته ، أريد أن يلمسني بإرادته ، بل أريد محاولة لمسي ، عندئذ سأغادر ، و قد نلتُ مرادي .
- انظرْ إليّ .
رفعت الغطاء عن شعري ، فتناثر على كتفي بانسيابية و سوادٍ ساحر .
لم يتحرك ، امتدت يدي إلى الثوب ، فككت الزر الأعلى ، فككت الزر الثاني ، شعّ بريق الجيد …
فقال ببرود : توقفي ، سأعلن هزيمتي ، أليس هذا ما تريدينه ، أنا المهزوم و أنت المنتصرة .
لا فائدة من المقاومة ، انهارت قلاعي ، و استسلمتْ جيوشي ، رجوته : قبل أن تسافر أخبرني ما اسمك ؟ .
ـ سراب .
قالها همساً ، و اتجه إلى حقائبه .
- 3 -
هاهو الساكن الجديد يمسك كتابه ، يتظاهر بأنه يقرأ ، و يصوّب بصره نحو شرفتي ، بدا في ملابسه الضيقة بألوانها الصارخة ، و شعره المدهون بالزيت كأنه مهرجٌ أحمق ، يحاول لفت انتباهي بحركاته الصبيانية … يلوح ظلٌ خلف النافذة ، ظلٌ لشخصٍ يجلس منكباً على كتابه ، الصبي الصغير بشعره المدهون بالزيت ، يظن أني أنظر إليه ، يرسل إشاراته الطفولية .
انتهى دوامي ، وقفت بانتظار الباص ، أحسست أنّ شيئاً ما يتخبّط بجانبي ، إنه ذلك الصبي بشعره المدهون بالزيت ، الغبي ينتظرني ، وحدنا تحت مظلة الموقف ، و الشمس الحارقة ، أفرغت الشارع من العابرين .
– مرحباً .
نطقها بطريقةٍ مضحكة .
تذكرت ذلك الهادئ الرصين .
ـ ما رأيك بالجلوس في الحديقة ، أريد أن أكلمك في موضوع هام .
بماذا يهذي هذا الصغير .
ـ أنا أعرف أنك تراقبين النافذة دائماً ، فلماذا لا تردين ؟ ! .
هذا الصغير لا يعرف أني أراقب النافذة دون أن اهتم بمن يسكن البيت ، لا يعرف أني أعشق ظلاً خلف النافذة ، ظل ذاك المسافر الذي أترعني بالهزائم و الخيبة .
الصبي الصغير يثرثر بجانبي .
- متى أستطيع أن أراك على انفراد .
المسكين سينشف ريقه ، و ينشق حلقه دون أن يسمع إجابة .
- إذاً اخبريني ما اسمك .
- سراب .
نطقتها دون وعي …
نطقتها بين صليل السيوف و صهيل الجياد ، نطقتها ، و كأني أقف أمام ذاك المحارب الراحل ، نطقتها دون وعي ، و اتجهت نحو البيت ، مشيت تحت الشمس اللاهبة لتغسل فورة الدماغ ، و ذلك الصبي الصغير - الذي لا يستطيع السير تحت الشمس بقي في مكانه ينطّ فرحاً لأنه كسب المعركة معتقداً أني أعطيته اسمي بعد تمنع .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جاسم احمد الحمود / مهندس معماري – كاتب قصة / سوريا - الرقة / مقيم في السعودية