تسلق دمع (ميليسيا) حيطان المخاض، حيث يولد المطر حطبا... دروبا... وريقات زهرة تشرين في فيض مدينة المواعيد المتأخر. يتجثم على قلبها أحتماء ليال الشتاء الموحشة، وهي تتأمل حمم الماضي بعيون ينساب اليها خرير المطر وخدر الدفء بالقبل كالمجد. فتفنى أصابعها بتلويحة شاردة، بصمت خلف الجمر العابر لزرقة البحر، وبلا أكمام تجتاح أوردتها وهج صهيل الشواطيء .. وحبات الرمل تزرر ثوبها الليلي المتكاسل فوق نهديها... فيلسعها هبوب نشارة الحنين المشتعل... فيثب بها العشق بألذّ ماينكره النهار.
أنبتت الكروم فيها دربا بلا دار... بلا ميناء...، ولم يغف النبيذ بلهب يرتعش فوق سطوحه معاطف النسيان، وينساب به وجع يبعث ريح الشتاء من عظامها. (ميليسيا) تتلمس ملامحها الكثّة بمجمرّة يكسوها الربيع بالحجر والحطب والصفير وسقسقة صرار مزاليج خريف الشبابيك... فيسهر بها أنهمار السأم بالأنتظار، كأغنية تحتطب تجاويف التوابيت بعتمة ليل برد الشتاء، فتتوقدها الشبابيك سعالا مزمجر بالذكريات، وهي أثيرة واهنة بالزًّبد....هادية بغسيل أقدام قصيدتها الموثقتين عند البحر...أو لربما لقادم يحمل بيدية طين الهيل.
تلمح قطار الليل الوحشي يدمدم، وفيه الامطار والحزن يسيل... تسير(ميليسيا) بالغمام، بخطواتها الثكلى وهي تجرجر عيونها حافية الدمع، فوق أجيال متربة بالكلمات والشبابيك... فتلمح في الذاكرة أحجار منهزمة من عصور الارصفة البحرية... فتترع بشفاعة الموعد، لفتح الأبواب... وهذيان المرارة بأبواق التأخير... فترخو بدوس البشاعة، وتباري النبيذ بتأخير النادل... تقطف الكلمات من رفوف زيت أشعار الزيتون وتنتشي بالغناء، وأكوام الرماد المتأئق بالرقص يتثاءب وينوح في بحًّة صوتها، فينفخها هرسا.. وآهاتها الشعبية تفتق شفتيها... والسكون القاتم يتسلل ويُميت ما لأجله هذا الانتظار... و(ميليسيا) يحمّمها التسوس بقدوم أبكر من غلق الابواب.... وقمم المخالب تطحنها بالركب في أوردتها طحنا، طحنا لكل ما بقي من حطام العبقرية من طرب..... .
(....ولتسقط كل المقاطع من الحروف، أذا لم تسمّعني غناء الشتوية...)....قالت (ميليسيا) كلماتها الاخيرة وهي تنفذ حسراتها المجبّسة من تحت ملاجئ ملمسها الناعم....
فسكتت العصافير وهي تلوح لنافذتها بالانتظار...، وبين شقوق الحنين تنام (ميليسيا) نيّمة يلاعبها المطر، عطرة الحيطان الطينية، آسيرة سطوح ليل الصيف وبقايا الياسمين.
أوكسفورد – بريطانيا
ايلول 2010