تتسارع الخطوات إلى مكان غصت به الأجساد ، إحساس غريب بفاجعة تلف الكيان، شقت الجمع بعنف فتراءى لها جسد متدل من غصن شجرة طالما استظلت بظلالها ورسمت على جدعها من بهي الشجن ما كان يحفظه الجسد المتدلي عن ظهر قلب..في برهة تكاتفت فيها صور زمنية مشتركة كتبت بأنينهما وضحكاتهما وأسرارهما ومغامراتهما...دوي صراخها يلفت انتباه الأجساد المتحذلقة على الجسد المتدلي وتهيم في غيبوبة ترفض الخروج منها تسعى اكتشاف سر انفصال الذات عن ذاتها وتمردها عليها و تحايلها إلى أن تخلصت منها ،،من فكر في الخلاص وفك ارتباط الذات بالذات ،أي ذات منهما كانت سيدة القرار وأي ذات كانت موضوعه ، ما كان للقرار أن يكون لولا تواطؤ الذات مع الذات بعد حوارهما واقتناعهما بفكرة الخلاص وتغلب النفس على الروح
تلح الذات على سياحتها في غيبوبتها، تسعى العلو عن الزمان والمكان ، تحيى انفصال الذات وهي التي سعت للتواصل مع الذوات فتتألم لشكواه من جحود الحشد وقد ارتوى من نبع الغريزة وسقيه شوارع المدينة قيئا واغتساله بماء نافورتها فانسلخ الماء عن طبيعته وألبسه لونا ومنحه طعم العلقم ، تسترجع الذات في غيبوبتها شكوى باب المدينة التي ارتدت بيوتها لباسا رماديا كئيبا ،تهاوت سقوفها وانمحت منمنماتها وتآكلت حيطانها وعصف بأعراصها ..أضحت الذات غريبة في مكان نسج بخلاياها وهي عروقه التي ارتوت بدمائها ، كانت ذاته بداية باب المدينة وعمقها ، فضاؤها الذي يتنفس بكلماته الثائرة المستنكرة لإرادة الإقصاء السياسي والاجتماعي .
تتذكر الذات في غيبوبتها حين أخبروها بنفيه المزدوج عنها ، وحدها ظلت نحمل في قلبها من الحب له ما يجعله يموت ألف مرة ويولد بحبها ،كانوا يتساءلون كيف يعود من منفاه كل مساء ليتجول بين أزقة باب المدينة ويختفي وكيف ينبعث من موته وقد أشبعوه قتلا .
تستهزئ الذات في غيبوبتها بحشد يجهل لوعة الحب والكتابة وأثر الحزن وهي تصدح بأشعارها و أغانيها تسافر بها إليه أمواج اليم حيث تنام المدينة على شطه ، أينما كان في منفاه أو في قبره...اعتقد الحشد أنها نسيته وهي التي وعدته وفاء كتبته بدمها على جدع الشجرة التي هو الآن يتدلى جسده منها..كانت تسر لذاتها صابرة سامية " الحزن الداخلي لا يعرفه سوى من له لوعة كتابية والحزن أجمل تلذذ روحي، فمساءات باب المدينة الشتوية تنفث في صرخة مدوية : احزني با امرأة، خلقت هكذا لتكوني لوعة المدينة " كانت أحزانها تفيض بلآلئ الكلمات المحملة بثورة الحب والغضب على القيم الزائفة والمظاهر الخادعة والصادحة بفلسفة الجمال التعبيري والقيم الإنسانية.
تعيد ذات المرأة في غيبوبتها –أمام استغراب الحشد المتحذلق عليها- مواويلها الحزينة وأشعارها الرومانسية الملفوفة بأوراق الشجر...هو الحزن منبع الحياة وأوج تدفق الإحساس المرهف المتفاعل بذرات الوجود وتحركاتها اللامرئية، ووحدهم من يملكون الإيثار يحدسون همساتها فتسري في عروقهم كالجمر فتشتعل مشاعرهم حبا متدفقا على المدينة ، هو قدر كل محب والحب ألا نقول أبدا " آسفون". تتأوه ذات المرأة في غيبوبتها ترثي إيثارا قتله الإلغاء والإبعاد وحال مدينة ضاقت بأجساد تخنقها، تجثم على صدرها، تدك آثارها، تسحبها من وجودها وتهبها قربانا لشيطان أخرق يتسلل خلسة ليضاجع عانسات ينتظرنه كل مساء...هي الآن بعد إشراق اليقين تنسلخ عن ذاتها ،تقرر الإبحار في غيبوبتها نحو المطلق ، تناديه في اغترابه الأبدي وسفره الأخير...يلاحقها الحشد بأصوات مبحوحة لا تسمعها ، أفيقي ، أفيقي ....يعلو صوت الطبيب: اتركوها فهي في حالة موت سريري.