عند المغيب تصاعد الضباب فوق قمر الطرقات، و"زهرة عباد الشمس" تجالس "ربيع" عند الاحراش، يعتصرهما برد الشتاء تحت شجرة الحور، يخبآن تيه الحكاية... وتيه الغناء، تبرق عيناهما بردا كقناطر حين تختمر بها المسافات... أسدل الليل جفونه وهو يمطر السهر باللفتات الخجولة... وخطواتهم نحو المدى... بلا منازل.
كانا يسيران، كالعصافير الشاردة تحت المطر... يلوح لهما من بعيد الخوف والصدى لمواويل ليال شتائية حبلى بالرماد...
أيلول، طفل وحشي، يولول قصتهما الغريبة في التقبيل بين الازقة..النوافذ.. سطوح بيوت الصيف العارية ... يروي قصة تعثرهما بعبور السواقي والنوم فوق الندى..
عيناهما الخجلتان من رسم الندى، من صيحات الماضي، تقطرت بين ارصفة القرية الحجرية، وبرد ايلول الحزين ينفخ العيون حنينا... فيتكأن العزلة، وهما يفترقان طرقات الحنين، وهي تندي بأقدامهم ليال السهر، النوافد، الاغاني، وذكريات الدروب العتيقة...
جفلت شمس ايلول و"ربيع" عند النافذة، متأملاً بالدخان، والرماد، يفتح المواقد ذابل الزهر، ينهزم للطرقات...مرتجف الالحان وقلبه كعازف، يطير بجمرة الحانه، عند منتصف الوادي...حيث حكاية الدمعة الشريدة..الجاثمة في لون الشجر خريفا...حيث الضجر.. و"ربيع" مزهر اللهب......
وعند منعطف الوادي، رآى "وردة عباد الشمس" ذابلة، تحت شجرة الحور، وهي تتطاير لهفة كالرماد، كأحتراق الشجر، كالأيام... والاشواق ولسعة الاهات كتشرين تنخرها....
شم "ربيع" أحتراق اجنحتها وسط العتمة والبرد، فصرخ اليها:( يا زهرة عباد الشمس.... يا زهرة عباد الشمس...)، .... سمعته وصدى الصوت يقتحم الدمع والوداع الاخير... وهي مرخية الجدائل كزهرة في نهر، وأصابعها الممتدة في الارض، فتقتها كالجداول، تنغمس في العمق أوردة كالليل... كالبرد....
وقفت "وردة عباد الشمس" سارقة السمع، شامخة، كجبل تحت الندى... وخرير الحزن السعيد، يسكن عودته كالذاكرة المنهزمة للشتاء... يناديها بصوت اجهش فيه التعب والمسافة والسهر(.... يازهرة الحزن السعيد....يا ساكنة حجر الاحداق... يا شوق المواعيد... كتبت القصيدة ... فلتسقط النجوم ...)... قال كلماته الاخيره بفجع الدفء الشريد....
تسمعه حيث الغابة الغريبة...خاوية الاقدام والحلم....يقترب صوته أكثر للصدا... تمر دموعه ممتطية المواقد، وجمر النوافذ الحزينة... يقتربا... تعانقه، وهو ينزف شتاءه فوق ذراعيها... تقبله، وهي تدمدم بغصة كقلب في عتمة: (حبيبي لا تبعد... ياشجر الجمر.. رماد قلبي سيج بلاد عينيك... فأحبك يا صاحب الاسرار...)
يقبلها فيعتصرهما القمر عند منعطف رصيف القمر في عمق النهر... فأذابت بهم الحكاية على اخشاب المقهى البحري الاسمر. وبلا مدى رحل بهما البحر بلا ارصفة ونوارس.
2010 أوكسفورد - بريطانيا