نظراته تعانق الأضواء المتلألئة من وراء الأفق...فتشرد روحه... تَلُوحُ له أشرعة آماله و هي تنعطف عند الأفق.. يتراءى له طيف حبيبته يلوح له من هناك...فاتحة ذراعيها لاحتضان أحلامه..تعده جنة الخلد.آآآآآآه من حبيبته، تلك الحورية من سلالة عيسى أرقت منامه...تأتيه كل ليلة تمشي بغنج و خيوط الشمس تتدلى ثائرة على ظهرها... يشحب وجه القمر أمام ضياء وجهها..و عيون تغريه بالإبحار في زرقة سمائها.
كل يوم كان يضرب لها موعدا عند قمة هذا التل، يناجيها فتحمل أمواج البحر آهاته إليها.. و نسيم المساء يداعب آماله و يسافر بأفكاره إلى ما وراء الأفق..ليعانق حلمه.في كل يوم كان الحلم الجميل الذي تبناه يكبر في أحشائه حتى تحول إلى وحش ينهش أفكاره و يأسر إرادته ... أصبح كالمسحور.. لا يرى نورا غير ذاك المنبعث من وراء الأفق.
و حل اليوم الموعود.. اليوم الذي سيذهب فيه للأندلس فاتحا...قلبه للحب الجديد...سيغادر الليلة على متن قارب عند منتصف الليل . و ضع ماءا في حقيبته و فواكه جافة تعينه في رحلته على كتم صرخات أمعائه حين تنهشها مخالب الجوع... ثم جلس و عيناه تراقصان عقارب الساعة في إيقاع دقات قلبه المتسارعة كلما اقترب موعد الرحيل..
دقت ساعة الحائط معلنة أزوف الموعد..تزفه إلى أحلامه.. حمل حقيبته الصغيرة على ظهره..مسح بنظراته جدران بيته القديم الذي تفوح منه رائحة ذكريات قديمة اختلط حلوها بمرها و قد امتزجت برائحة الرطوبة .. ألقى نظرة أخيرة على أمه النائمة في سلام و التي لم تدر شيئا لحد الآن عن الثورة التي اندلعت في أعماق ابنها البار و لا عن جموح أحلامه و انعتاقها من قيود الحكمة...جر الغطاء على أجساد إخوته الثلاثة و كأنه يريد أن يسكت أنين ضميره... حسم أمره و أعدم دمعة كادت ترمي بنفسها على خده محاولة ردعه .. خرج يلتمس طريقه في الظلام نحو الشاطئ دون أن يلتفت وراءه و كأنه قص جدوره ليتمكن من المضي قدما لتحقيق أحلامه ... و صوت والده على فراش الموت يوصيه بإخوته يلحقه كإيقاع حزين يرافق نزول الستار على مشهده الاخير في هذا المكان..
اجتمعوا على شاطئ البحر و كل منهم ينسج أحلامه بخيوط من نور انبعثت من الجنة الموعودة...نور تسلل من بين أجنحة الليل يداعب أحلامهم و يلهب أمانيهم..
كانوا ثلاثين شخصا تنافرت ثقافتهم، جنسهم، سنهم و تعانقت أحلامهم... دفعوا القارب إلى الماء ثم قفزوا إليه... كعذارى تقدم قرابين للبحر حتى يُأمَن شره ..انطلق المركب بهم متواريا خلف ستار الليل السميك إلا من أضواء شاحبة تعزف على أمواج البحر المنهكة سمفونيتها الرتيبة.. فترقص على إيقاعها آمالهم ... فجأة سطعت أنوار قوية أضحى معها ليلهم نهارا.. و التقطت آذنهم أصواتا و كأنها قادمة من الجحيم تحرق أحلامهم فيرتمون في أحضان البحر لعل مياهه تطفئ لهيب إحباطهم..
قفز بدوره في الماء يحاول إنقاذ حلمه... أعماق البحر تسحبه إلى أحضانها و هو كمن أصابه مس، يتخبط ليصعد إلى السطح.. رئتاه تكنز ما تبقى لديها من رحيق الحياة قبل أن تستسلم لشيطان الموت فتعتق ما في جوفها...أخذ يتهادى في عتمة لا وعيه تتساقط عليه صور قادمة من مكان ما من ذاكرته.. أمه النائمة.. إخوته.. أبوه .. و حبيبته...رآها تبتسم له... لكن هذه المرة ابتسامتها غاب عنها الحنان و احتل مكانها المكر و الخبث..جلجلت ضحكتها القاسية في أعماق روحه ثم أخذ الصوت يتضاءل ليتوه في الظلام.
همس، خيوط نور تتسرب من بين جفونه التي تأبى الحراك، أطياف تحيط به.. فزع و هو يحاول أن يجبر ذاكرته للامتتال له... ليفهم ما يحدث حوله..ما الذي حصل؟ ها انتقل إلى العالم الآخر؟ هؤلاء ملائكة أم شياطين؟ أهو في الجنة أم النار؟
أخرجه صوت امرأة من تساؤلاته و أبعد مخالب الحيرة عنه...فتح عينيه ببطء.. رآها تنظر إليه...حبيبته الشقراء التي طالما عشعشت في أركان خياله ...انتفض بقوة و دوت صرخة ألم من أعماقه الجريحة...لا ابتعدي عني أرجوك...لم أعد أريد حبيبة.. خذوا حلمي.. لكن أعيدوني لحضن أمي...ثم غاب في ظلمته من جديد..