هذا ليس زمن الثورات والمفاجآت الكبرى فحتى الجهة التي تدعمك لتحقيق غايتك تدعم أعداءك في نفس الوقت فاعطِ الربابةَ للرب فإنه السوق !
فكَّرَ بهذا الكلام وهو تعبير كان لأحد المعتقلين معه قبل أسبوعين
فابتسمَ بحزنٍ ولكن ها هي صديقته تطرق الباب بوجلٍ وبشيءٍ من الخجل فتفتح لها أمُّهُ الباب .
صديقته تعرف أنه بالأمس وصل فقد اتصل بها قبل ذلك وأخبرها بِنيَّة العودة بعد ثلاثة أيام , رغم أنه لم يحدثها ولا أمَّهُ عن المعتقل إلا قليلاً وبعبارات مُهِّونةٍ .
هو يسكن مع أمه على أطراف المدينة وهي تعيش مع أهلها في إحدى قرى الوسط .
فكَّرَ بصديقته هذه التي تمتلك الكثير من السماحة والحس الرفيع بالحاجة إلى الثورة والتي تملك فهماً آخر لها ,
هل ستألف طقوسه الجديدة وهي التي تعرف أن سر تمرُّدهِ في الدنيا هو أنه يمتلك قلباً مُجنَّحاً غيوراً على الناس ؟
الواقع والحلم بقيا متلازمَين في السنوات الأخيرة غير أنهما لم يتجاذباه بإلحاح كما في هذا اليوم فهو محمومٌ لصيقُ سريره .
سمعتهُ صديقته وهي عند باب غرفته يصيح بصوت متقطع كمن يعنِّفُ نفسه : هل أخطأتُ في اختيار التوقيت ؟ وما يجدي التعلق بوطن سيُعلِّقني بالحبال ؟!
هل أنا مذنبٌ إلى هذا الحد ؟! هل هناك أملٌ ما في الدين ؟ هل لي أن أعرف مصدر هذه الذنوب التي لا تخبو كما يخبو جمر هذا الموقد ؟ وأشار بيده إلى موقد لا يراه أحدٌ غيره !
ردَّت بصوتٍ أليف حاولتْ إخفاء مسحة القلق فيه وهي تقترب من سريره : تمهلْ وستخبو !
ولكنه راح في نوبةِ هذيان من جديد .
تَخيَّلَها تستقبله عند باب كوخ وهذا الخيال بدوره أخذ نكهة أخرى كالإستبشار فردَّدَ بنبرةِ حنين :
ويلوح داري ...
كيف صار بنائيَ الورقيُّ دارْ ؟
يا أجملَ الأحلام تنحتها يدُ الأحجارْ
أحضرتُ قافيتي , بديعي
كيلا أضيع ولا تضيعي ,
كيما أظلَّ على ارتقابٍ
إنما هما دمعتان وقد سكبتُهما
فأين هي الدموع الباقيات إلى الربيعِ !؟
---
أفاق قليلاً , أحسَّ بتسارع النبض , والسببُ في إحساسهِ هذا أنه لمحها جالسة إلى جانبه على كرسي
ولكنها – على ما بدا له – كانت مغمضة العينين ومشغولة بتلاوة ما ....
تناهى إلى سمعه من تلك التلاوة التالي : هل تعتقد أني كنتُ بعيدة عنك وقد حملتكَ منذ الفجر فجراً آخر في القلب ؟
نظر إليها ثانيةً , راح يَخالها على ضفة وهو يمضي نحوها بزورقه ومجاديفه اللاهثة .
وبعد ساعة مشحونة بالحيرة والرجاء كانت تراقبه فيها وهو بين اليقظة والإستسلام لعالمٍ سحيق الغور لا يفهمه , أفاقَ ووضع المنديل المسترخي على جبهته جانباً فساعدته على الجلوس وقلبها يرفل بمشاعر فرحٍ .
ألقى التحية عليها بإشراقة من روحه فقالت بعد أن عانقته بحنان :
جميلٌ بالرجل الكبير الروح أن تستحوذ على كيانه امرأة ظل يحملها حلماً فباتت حقيقةً , وجميلٌ المرأة أن يستحوذ على كيانها رجلٌ بهذا المعنى فهنا الحضارة تقوم مقام الوليد وتتشكل تبعاً لأنفاسهما .
ردَّ : أشعرُ أنها بقايا نوبات من الحُمى صاحبتني حتى بعد خروجي من المعتقل فقد نجوتُ بأعجوبة !
أما عن الحضارة فقد أحسستُ بهذا على الدوام ولذا ومن خلال فهمي لطبيعة البشر نساءً ورجالاً أجد أنهم مقطوعو الأنفاس !
إنهم في محاولتهم الحب يفترضون سياقاً حضارياً تتشكل مفردات الحب فيه .
كنتُ في معمعانِ مدينة مرتجَلة , وساكنوها أيضاً مرتَجَلون !
فسألتْهُ : وما الذي كنتَ تطمح إليه بالبقاء في هذه المعمعة إذن ؟ ألمْ أنصحكَ بترك المدينة ؟
سألها : بلى ولكن إلى أين ؟
ولمّا أحس أنها لا تريد أن ترد قال :
لاحظي , في كل البلدان الحديثة يكاد المرء لا يحس بالفارق بين الريف والمدينة من أية ناحية وخصوصاً النواحي التعليمية والخدمية
فالمدينة والقرية متساويتان إلاّ عندنا فالمدينة لا تتساوى مع الريف أبداً إلاّ في الإرهاب !
قالت وهي تبتسم : كثيراً ما نحس بأن المطر رائع غير أن روعته لا تكتمل من دون أن يسبقه انتظارٌ مِنّا ولهفة !
فعقَّب قائلاً : ما أكرم قلبك ...
إستأذنتْ فذهبتْ إلى أمه لتطمئنها بأنه استعاد وعيَهُ
وحين عادت قال لها : كنتُ متردداً بعض الشيء في العودة لولا أني نهضتُ البارحة صبحاً وأنا أفكر بحلمٍ محموم هو الحلم الأخير في المدينة … كان رغم كل شيءٍ حلماً شذياً سَنِّياً ...!
إذ وجدتُني أخطط لبناء بيتٍ جميل ولكني اكتشفتُ أني لا أستطيع بناءه وحدي ومع ذلك شرعتُ ببنائه وبعد فترة عمل نظرتُ فإذا معي كل الأحبة الذين مروا في حياتي وكان الوقت ليلاً فرجوتهم التوقف على أن نكمل البناء في اليوم التالي ولكنهم لم يرضوا بل استمروا وكنتِ أنتِ تعملين معنا تارة وتعزفين تارة على قيثارة وتنشدين وكانت الألحان تتلامع حولنا كالشرار وهذا الشرار كان يمتد ويكبر حتى غدت كل شرارة تضيء كفانوس !
لذا قررتُ بالفعل هجرَ مدينة الشر على عجلٍ واللحاق بالحلم !
سأرحلُ عنكِ معتصماً بيأسٍ
وأقنعُ بالذي لي فيه قوتُ
وآملُ دولة الأيام حتى
تجيء بما أؤمّل أو أموتُ (1)
---
قالت بحماس : مزماري معي وسأعزف لك لحناً ينسيكَ كرَّ السنين !
أنا لولا إلحاح أهلي عليَّ بالبقاء في المدينة حيث لديهم بعض الأقارب والصداقات هناك لما صبرتُ تلك السنوات القليلة ثم جاء حُبنا ليزيد من إصراري على إكمال الدراسة فيها ولكنك عنيد !
قال وقد تذكر المعتقل وليالي الحمّى والقساة المجرمين : أنت تتذكرين بلا شك أنهم قتلوا أخي الكبير الوحيد ولا أنسى صيام أمي وانقطاعها بعد هذه الحادثة ... إنهم مفاقس للكوابيس !
هؤلاء لا يعرف الحلمُ الندي موطيء قدم في رؤوسهم .
وأضاف بتحسُّر : ولم تكن لي فرصة كفرصة زينون ...
فسألتْهُ عما يقصد فأجاب بهدوء :
شارك الفيلسوف اليوناني زينون قديماً في خطة لخلع الطاغية نيارخوس ولكن العملية كُشِفت فخضع زينون للتعذيب ليفصح عن أسماء مَن شاركوه ، فضعف الفيلسوف ولم يستطع احتمال المزيد من التعذيب فطلبَ ممن كانوا يعذبونه أن يقابل نيارخوس بنفسه على انفراد وحينها فقط سيبوح له بأسماء الأشخاص ولمّا انحنى نيارخوس ليسمع هَمْس زينون قبضَ زينون أذن نيارخوس بأسنانه فقطَعَها !
آه حتى الأشباح في مدينتنا لا تحتاج إلى ظلام لتتسلل بل هي صارت أشباحاً تنضجها حرارة الشمس !
سارعت صديقته إلى القول بتعاطف : أدركُ حجم طموحك فهو لم يصل لحدِّ أنْ يجعل الشمس تشرق من المغرب !
فسأل : وهل لديكِ اقتراحٌ محدد ؟
قالت : لا الوطن هو وطننا الحقيقي ولا المنفى منفىً كما حاولوا أن يوهمونا فإذا كانت شجرة التين في حديقة بيتك مكتنزة بالثمار ولا يحقُّ لك إلا حراستها وتأمُّلُ القاطفين وجُلّهم لا تعرفهم ... فهل تظن أن الشجرة هذه بالفعل مثمرة ؟!
كذلك هو الوطن اليوم .
وإذا كانت شجرة الصفصاف لا تمنح ثمراً أو فاكهة نستلذ بها ...
أننسى ما تمنحه من الفيء ؟ أم ننسى ما تُشيِعه في النفس من مشاعر الشموخ والإستغناء ؟!
كذلك هو المنفى اليوم .
تذكَّرَ حديقةَ الدار وتذكَّر أنه فصل الربيع فخامرَهُ ابتهاجٌ
فقال لها : ما كنتُ لأشعر بهذا لو لم تنطقي ما نطقتِ قبل لحظات .
ها هما الآن وسط حديقة الدار :
هو واقفٌ وعيناه تنظران لطيور في الفضاء متفرقةٍ كأنها آثارُ خطىً لغيوم ما
بينما صديقته موغلة في استجواب المزمار !
-------------
البحتري (1)
--------------
نيسان - 2010
برلين