يتأنى، يقتفي أثر خطواتها الثقيلة، يصعد العقبة الأخيرة، يحبس الأنفاس من مصاعدها، يتجشم عناء المكوث جائعا طوال ساعات بالقرب من الشلال الذي حيَّاهُ برذاذه المُنفلِتِ من البركة المتطاير على أبنية واطئة… حرك الماء برجليه فيما قبضت كفه اليمنى على جذع التصقت فروعه بالماء.. الهدير حلق به في أجواء مفعمة بالأحلام، رآه جذعا بلا أفنان، يأخذ عصا صغيرة ويلقي بها إلى البركة، يسمع صوتا ثم يرى دوائر تتسع فوق سطح البركة… تسع ثم تختفي …
قبل ذلك بساعتين، وجد نفسه يبتعد عن المدينة الكبيرة مُنقاداً لشبح يتزين بأكاليل المطر، سبق له أن تابعها بعينيه المسحورتين، التفتتْ إليه المرة تلو الأخرى، منحته ابتسامة ثالثة ورابعة قبل أن تتعثر في أحد الحُفر بالقرب من أكبر دار سينما بالمدينة ، كان هو يسير كعادته على حافة الطوار المقابل، ضحكت عيناه وشعتا بالفرح وقد ابتسَمَتْ هذه المرة ابتسامة طويلة الأمد، شم هواء كثيرا… زفر بسعادة ثم شد على ذراع صديقه، تمنى لو أن شعرها لامس خده تواني قليلة فقط حتى يضع عليها بعضا من الياسمين، توقف برهة، تلذذ برؤيتها منتصبة بالقرب من النافورة وهي تلمس رخامها بأناملها… راودته أحلام وردية وأخذته بعيدا إلى غرفة صغيرة معتمة وسرير أنيق موشى بحرير تعبق فيه رائحة الورود وتنبعث من الجنبات موسيقى هادئة، قال لصديقه بعد أن عض على شفتيه:
- لكنها ليست وحدها…
- لقد تجاوبت معي.
عبر الشارع مهرولا، وجد نفسه بالمحطة الطرقية، وقد اعتراه قلق من المجهول بعد أن تصَبَّبَ عرقا، شعاع الشمس العمودي ضرب رأسه، جال ببصره بعيدا عنها وبصر في الأرجاء مسافِرَيْن جالسين أو واقفين، هدر محرك الحافلة طويلا… تحول بعينيه بعيدا عنها كأنه كان يحاول أن يستعيد هدأة بارحته، أما هي ، فبَاتتْ تلتفِتُ إليه ولا تنسى أن تغدق عليه بابتسامة هادئة ومارقة ، أخذ جريدة من أحد المسافرين دون أن يقرأ سطرا واحدا، لم يقاوم قرّاً لافحا، غادر الحافلة وأغلبية المسافرين، شم نسيما جامدا، خرج دخان أسود كثيف من الجعبة المهترئة، واستيقظ من هدوئه على رائحة البنزين المحترق…
أما هي، فغمرته بابتسامة واضحة المعالم ثم عادت إلى الناقلة وتركته قابضا على عمود حديدي يَدْعَمُ السقف المعدِنيّ… قال لنفسه بعد أن مسح العرق من على جبينه:
سأتحمل نار جهنم حتى أحظى بالنوم على صدرك.
اشترى من مقصف المحطة قنينة مونادا في انتظار أن تملأ الناقلة بالركاب، تلذذ مذاق الكوكاكولا الباردة ، سال بعض من السائل على ذقنه، أسند رقبته إلى الحائط متأملا نفسه، ولما جلس السائق على مقعد القيادة، هدر المحرك أكثر، خرج دخان كثيف أيضا، نادى مرافق السائق على المتجهين إلى مدينة الشلال والكرز، كان يُصَفقُ بيديه ويصيح على المسافرين بالتأهب للانطلاق… في الداخل بددت حركة المسافرين صمتا ممتزجا بهدير رتيب، كان هو يرقبها، ابتسامتها الهادئة حملته على أجنحة زمردية، تخيل لون ثبانها وشكله وشكل حفاظات صدرها، ولما غادرت الناقلة المحطة، دخل تيار من الهواء البارد من النوافذ المشرعة، ودخلت خيوط من الشمس لتزور المسافرين… وجد نفسه محاصرا في الداخل بوجوه مختلفة، تأسف قليلا وقال لنفسه: على الأقل، هؤلاء يعرفون إلى أين سيذهبون؟ ولماذا؟
لم تكن المسافة طويلة، كانت نصف ساعة كافية للوصول، هذه المدينة تأتيها الجبال باللفح البارد فلم تكن حارة كشقيقتها الكبيرة، قال لنفسه: لماذا سقطت الفتاة صريعة الهوى بهذه السرعة؟ ولماذا؟
همس وهو يحرك رجله المرة تلو الأخرى في البركة:
- لا شك أنني وسيم.
تحرك غصن من أغصان الشجرة الملتفة حول الشلال، نغمات الماء المتدفق اصطحبت معها تيارا جارفا من الخيال الشارد… لحظات كهذه تنشط الذاكرة مهما تكلسَتْ، ورأى في الأعلى طائرا يحلق حول الشجرة العالية دون أن يبتعد عنها، لمح القوم يفرغون من الأكل ويجمعون الأواني والحُصُرَ الصغيرة.
هي أدخلت على قلبه ما يكفي من الفرح والسرور، لم يستغرب الأمر وأقر في نفسه بأن لا خير في سعادة لا تطول ولا في نعمة لاتدوم وتسلق أدراجا حفرت على التراب ثم توقف لحظة فوق صخرة أعلى التل، بَدَا لهُ الشلال صغيرا في حجم قِرْبَة تفيض ماء أو مثل رضيع لا يبرح مكانه، أمعن النظر طويلا في الشلال، الطريق المحفورة في الجبل الصغير تجيءُ بوافدين جدد، مال إلى الجهة الأخرى وشرََعَ يحث الخطو، عرج على منزل أبيض تسيجه الأشجار، لاحت له المدينة الصغيرة من فوق كحمامة بيضاء تحضن صغارها في وكرها الصغير المحمول فوق فنن تحرسه الأوراق، عاد ليَنظرَ خلفه حيث الشلال ولا طائر أبيض يحلق فوقه وكان قد اكتنز في عقله شيئا من الصور فخففت عنه عناء الإحساس بالوحدة.
تداخلت الأشياء بحدة فيما بينها، رأى الكهل يتوَقفُ عند الضريح قبل أن يدخل إليه وبقيت الفتاة في الخارج وهي تصوب نحوه نظراتها، تمايل مع النسائم الهاربة من جمود الإسمنت، هرب بنظره إلى المدينة الصغيرة، كان ما حولها إلى جهة الشرق والشمال قاحلا… خطرت بباله فكرة، فأخرج من جيبه ورقه وطلب من أحد المارين قلما ثم دَوَّنَ عنوان بيته ورقم الهاتف، قر عزمه على أن يدس الورقة في جيبها.. وفي غفلة من الجميع، دلفت إليه والتقت عيناهما مباشرة، ضمته إلى صدرها وأمطرته بالعناق والقبلات وهو يحاول أن يتخلص منها وقد شد ذراعيها بقوة، كانت دقات قلبه متسارعة وعيناه جاحظتان.
هُرِعَ إليهما والد الفتاة وجذبها نحوه، شدها شقيقها من شعرها بعنف وكاد يسقطها أرضا لولا أن نهره الكهل، قال الأب بصوت منكسر…
- عذرا يا بني، فابنتي تعاني مسا من الجنون و…
فقاطعه، الفتى متسائلا وهو يلهث والعرق يتصبَّبُ من على جبينِهِ:
- ألم تأخذوها إلى طبيب نفسي؟
فرد الرجل:
- أرجو المعذرة ثانية… لقد قمنا بزيارة عدد من الأضرحة، وقد جئنا إلى هذا الضريح لنطلب بركة هذا الولي الصالح علَّ الله يمن عليها بالشفاء.
-
صخر المهيف
احد الغربية بأصيلة