تعالوا نستمع إلى كلام لا يشبه الكلام.. كلام عن طفلة خانها المنطق واغتالتها أيدي الآثام..
تعالوا نحكي حكاية عن صبية كانت مثل خيمة في صحراء قاحلة تحِنُّ إلى سفر جديد..أو عن وردة داستها أرجل المجون بقسوة..أو عن عصفورة أجلتها أيدي الخطيئة عن عشها الآمن فهي في مهب عواصف الآلام..
كانت هنا.. في هذا الشارع العريض المهترئ..تلك الخيمة..تلك الوردة.. تلك العصفورة..تغزل على هذا الرصيف المغبر أحلاما واسعة كعينيها.
كانت هنا.. تبحث عن كينونتها المفقودة في أطراف الشارع الرتيب.. وبين فراغات حاناته الباهتة.. وقصب أكواخه الكالحة .. وبين هشيم زجاج النبيذ الفاسد المتناثر على قارعته.. وتحت أبوابه العتيقة المقوسة.. وبمحاذاة صفائحه القصديرية وجدرانه الطينية المنقبة والملطخة بالأوساخ والكلام البذيء الفاضح.. وفي أركانه الملوثة بالقمامات العفنة.
كانت هنا قبل عشرين عاما.. في عمر الزهور. .طفلة مشردة تفتش عن نفسها..عن امرأة في أحمر شفتيها..تستعجل أنوثتها وحرارة صيفها.. وطيفُ الشوق إلى كواليس المستقبل يرفرف في عينيها كفراش جامح.. طليق..
وبغتة اختفت الصبية عن فضاء الشارع الرتيب..غادرت ألفته تلك الفتاة الولهى بعطرها الرخيص الفواح..وأحسّ المكان بالاغتراب واليتم..وحزن الشارع..لأن الطفلة المشردة كانت كأمّه..أو كان هو كأبيها: تحنو عليه ويحنو عليها..كانت بينهما ألفة خاصة لا تعادلها ألفة..كان يحضن رونقها المغتصب في شغف كما كانت تحضن مداه في سعة عينيها.
وكما كرهت الطفلة صغرها..كره الشارع رتابة وجوده وسخط على قتامة زواياه ونكهة النبيذ الكريه المراق عليه.
غابت الصبية مدّة عشرن عاما.. وفي غضون العقدين غيرت يد الإنسان صفائح بنيان الشارع الحزين وبعض طبائع الناس فيه.. نزع عنه قصب الأكواخ وتحرر من جلبابه الطيني وخلع عنه أثوابه القديمة ليلبس العري المفضوح عبر الزجاج المكشوف وليغير من بساطة خرائطه الحبلى بالحفر المبعثرة في كل مكان بصلابة التبليط والترصيف..وكالشريان نزف الشارع بالناس والقمامات والكلام الرّخيص بدون حساب..وطلق صمته..وغرق في الزحام وتكدر هواؤه بسحائب الأدخنة وتعكر هدوؤه بصخب المعادن الصماء وضوضاء الآليات ولغط العامّة.. وحرّقت العجلات أديمه الأملس في اجتراح.
ونسي الشارع رائحة عطر الصبية وحمرة شفتيها وحرارة زفراتها.. وكان يشعر بالبرود والفتور مع غيابها طيلة عشرين عاما رغم احترار فضائه بما يصدر عن الناس والعربات.
وفجاة تزلزل كيان الشارع.. شيء ما خالف العادة الطارئة بعد عشرين عاما.. شيء ما حدث أضاف نبضا جديدا لنبض الزحام فيه.. وانضافت إلى حرارته حرارة أخرى مميزة أعادت إليه دفئه القديم.
لقد عادت، أخيرا،تلك الأنثى إلى وطنها الشارع وقد نسج عنكبوت الزمان على وجهها ملامح الشطآن..عادت تلك التي كانت طفلة قبل عشرين عاما امرأة مجعدة المحيا..عادت لكي تروي على المارّين الكرام وغير الكرام حكاية الأشجان في صمت وسكون.. كي تستجدي منهم وقتا قصيرا وبعض مال وسجائر وقليلا من الحنان..كانت تندب حظها التعيس وجدّها العاثر وتتوق إلى طفولتها البائدة والتي تركتها هنا قبل عشرين عاما.
وكان الشارع يتندَّم على ماضيه الهادئ المفقود ويتأسف على عنفوانها الراحل مع طفولتها ويودّ لو بقي هو وهي وحيدين لا غير !!