دلف إلى المركز بحذر شديد كأنه يسير في حقل ملغوم..ورمق خلف فاصل زجاجي شخصا منهمكا في قراءة جريدة وقد أخفى كامل وجهه وراء صفحاتها..توجه نحوه بعد أن بقي مترددا بعض الوقت..وضع الاستدعاء الذي حمله إليه مقدم الحي ووقع نظير استلامه في دفتر كان معه..وضعه تحت نصف الدائرة التي فـُتحت أسفل الفاصل الزجاجي للمكتب لتمرَّر منها الوثائق..ثم اصطنع سعلة خفيفة ليثير انتباه الشخص الغارق في قراءة الجريدة..لكنه لم ينتبه إليه إلا بعد فترة..فخفض الجريدة قليلا حتى بدت عيناه المنتفختان وقد خالطتهما حمرة كأنها الشرر المتطاير..ودون أن يقوم من مكانه قال مزمجرا:
"انتظر هناك..العميد مشغول الآن.."
التفت حيث أشار الرجل ، فرأى كرسيا خشبيا مستطيلا موضوعا بجانب الجدار..ألقى بجسمه النحيف على طرف منه بعد أن تفادى الجلوس على بقعة من الدم ما تزال عالقة به.. ثم استرق نظرة إلى الرجل خلف الزجاج وهو مشغول عما حوله بقراءة الجريدة..واستغرب كيف لم ير صورة الحاكم بزيه العسكري وهي تتصدر وسط المركز بحيث لا تخطئها عين الداخل إليه..
حدق في عينيه مليا ربما لأول مرة.. وأحس أن الحاكم ينظر إليه شزرا كأنما قرأ ما بداخله من أفكار..غض بصره سريعا..وشعر كما لو أن أطرافه تقلصت وانكمش على نفسه..كيف يجرؤ على رفع بصره إلى ذلك المستوى ليحدق قي عيني الحاكم وهو في حصن من حصونه..ساوره ندم شديد على ما بدر منه من جرأة لا تليق في هذا المكان بالذات..أشاح ببصره عن مكان وجود الصورة..فرأى على الجدار الآخر، بين أبواب المكاتب المتراصة ، سبورة خشبية وقد ثـُبـِّتـَتْ فوقها صور لأشخاص معظمهم من الشباب الملتحين.. استنتج أنهم مبحوث عنهم من قِبَل الشرطة..وفوق السبورة لوحة كـُتِب عليها بخط كوفي كبير :"الشرطة في خدمة الشعب"..وفي اللحظة التي همَّ فيها بتأمل دلالة هذه الجملة سمع لغطا وهرجا يسبقان الوافدين إلى المركز..كان اثنان من رجال الشرطة يقتادان مجموعة من الأشخاص يبدو من خلال هيئاتهم أنهم خرجوا للتو من معركة طاحنة..كان وجه أحدهم ملطخا بدم ينزف بغزارة من جبينه وأنفه..فتح أحد الشرطيين بابا ودفع الشرطيّ ُالآخرُ المجموعة أمامه وقد انقطع ضجيجهم تماما..ظل يتابع المشهد عن كثب..والرجل خلف الفاصل الزجاجي لا يكف عن قراءة الجريدة وكأنه منقطع عن هذا العالم تماما..
حيَّره أمر هذا الاستدعاء..ماذا تريد منه الشرطة ، وهو الذي ظل طوال حياته حريصا على أن يتجنب كل ما قد يوصله إليهم؟..فلولا بطاقة الهوية التي استلمها منهم ، ثم اضطُر إلى تجديدها بعد انتهاء صلاحيتها لما عرف هذا المركز..أيكون أحد أبنائه قد تحرش بإحدى بنات الجيران فتقدموا بشكوى ضده؟ أتكون زوجته قد اشتبكت في عراك مع إحدى الجارات لسبب من الأسباب؟ لقد كان صارما في تنبيههم جميعا إلى الابتعاد عن الشنآن مع الجيران درءا لمثل هذا الموقف الصعب..وهو في خضم تساؤلاته ، دخل إلى المركز شاب مكبل اليدين خلف ظهره يتبعه رجلا أمن بالزي المدني..دفعاه بعنف في اتجاه باب آخر غير الذي دخلت منه المجموعة السابقة..وحمد الله كثيرا لأن الشرطة احترمته على الأقل ولم تأت به إلى المركز مكبلا أمام أعين الملأ..اطمأن قليلا.. فالشـرطة إذن تثق به ، واكتفت باستدعائه كتابة.ً.لا شك أن في الأمر سوء تفاهم ..أو ربما هو تشابه في الأسماء أو خطأ في العنوان..وفجأة سُمع جرس يرن..ثم رأى الرجل الغارق خلف الجريدة يشير إليه بحركة من يده إلى باب قريب منه..
طرق الباب طرقا خفيفا ثم انتظر قليلا قبل أن يفتحه ببطء شديد ويدخل على استحياء..أشار إليه الرجل الذي يملأ الجانب الآخر من المكتب بجثته الضخمة..أشار إليه بالجلوس..كان الرجل قد ملأ كل تفكيره فركز عليه كل اهتمامه ولم يلتفت إلى تفاصيل الغرفة..جلس على كرسي إلى الجهة اليسرى ثم ساد صمت طويل خاله دهرا..نظر خلسة إلى الرجل فوجده يقلب مجموعة من الأوراق استخرجها من ملف موضوع أمامه..كان شاربه كثا.. وكان حاجباه كثيفين ترتسم تحتهما عينان لا تبعثان على الاطمئنان..همَّ أن يستفـسره عن سبب استدعائه..لكنه خشي ردة فعل عنيفة من قبل المسؤول الأمني..أخيرا ، وبعد فترة من التعذيب النفسي المقصود ، قال بعد أن تفرس جيدا في وجهه:
"أنت لم تشتك بأحد..ولم يشتك بك أحد..ما شأنك ؟ ومن أي طينة أنت؟ ألا تعيش في هذا المجتمع؟ أنت لست منخرطا في أي حزب سياسي..ولست مناضلا في صفوف أية نقابة من النقابات..ولست عضوا في أية جمعية من جمعيات المجتمع المدني..ولست منتميا إلى أي ناد من الأندية الرياضية..لا تدخل إلى ملاعب كرة القدم..ولا تتردد على دور السينما ولا تذهب إلى المسرح..ولا تجلس في مقهى ككل خلق الله في هذه البلاد..لك مسار واحد لم تخرج عنه قط..من البيت إلى العمل ، ومن العمل إلى البيت..حتى زملاؤك في العمل تنتهي علاقتك بهم بمجرد خروجك من مقر عملك..لا تحضر حفلات الزفاف ، ولا تشارك في تشييع الجنائز..من أي طينة أنت؟"
ذعِر الرجل كأنما صُفع على قفاه على حين غفلة..أحس وكأن ماء باردا قد صُبَّ على جسده..لم يحر جوابا..ولم يـَقـْوَ حتى على تحريك لسانه في فمه..وتذكر مأساة والده الذي اختطفته أجهزة الأمن من أمام أفراد أسرته ، بعد أن وضعت عصابة ًعلى عينيه واقتادته إلى مكان مجهول..كان مناضلا سياسيا صلبا..ونقابيا لا تلين قناته..وكان يجهر بالحق في وجه المسؤولين والحكام ولا يخشى في الحق لومة لائم..وانتهى مصيره كغيره من المناضلين الشرفاء إلى مصير مجهول..تذكر كل ذلك وأدرك أن العميد يعلم دون شك كل تلك الأمور..حاول أن يوضح أنه استوعب الدرس من مصير والده تمام الاستيعاب..لكن العميد واصل حديثه وكأنه يقرأ مضمونه من الأوراق الموضوعة أمامه:
"هل تعتقد أن هذا السلوك ، يوهمنا بأنك مواطن صالح؟ نحن نعرف عنك كل شئ..حتى ما يجري داخل غرفة نومك نعرفه وبالتفصيل الممل..نحن نعلم أن نفسك الأمَّارة بالسوء تدبر أمرا في الخفاء..ثمة بدون أدنى شك جهات خارجية تتواطأ معك..وثمة بالتأكيد جهات أخرى تدعمك بالمال لتنفيذ مخططاتك..كل هذا الكتمان الذي تحيط به حياتك الخاصة يجعلنا نشك ..لا..لا ..بل نحن على يقين أنك تخطط لأمر خطير..سنعرفه في الوقت المناسب..وعندها سنصل إليك قبل أن يرتد إليك طرفك..أعتقد أن خطابي واضح..وأن الرسالة قد وصلت..يمكنك الآن الانصراف..وسنلتقي هنا كثيرا.."
أشار بيده الغليظة مثل العصا نحو الباب ، إيذانا بانتهاء الزيارة..تحامل على نفسه كشيخ أنهكته سنوات العمر الطويل..وانسل من الباب مثل قط مذعور..ثم بدا له الرجل الجالس خلف الفاصل الزجاجي وهو ما زال يخفي وجهه خلف الجريدة..
وما أن غادر باب المركز إلى الخارج حتى تنفس بعمق..لكنه أحس أن كل الكائنات من حوله تحولت إلى عيون ترقبه وتترصد حركاته..
وانتابته رغبة جامحة في البكاء.. ثم خطرت له فكرة الهروب..ولكن إلى أين؟؟!!..
- مصطفى سهيل -
حيَّره أمر هذا الاستدعاء..ماذا تريد منه الشرطة ، وهو الذي ظل طوال حياته حريصا على أن يتجنب كل ما قد يوصله إليهم؟..فلولا بطاقة الهوية التي استلمها منهم ، ثم اضطُر إلى تجديدها بعد انتهاء صلاحيتها لما عرف هذا المركز..أيكون أحد أبنائه قد تحرش بإحدى بنات الجيران فتقدموا بشكوى ضده؟ أتكون زوجته قد اشتبكت في عراك مع إحدى الجارات لسبب من الأسباب؟ لقد كان صارما في تنبيههم جميعا إلى الابتعاد عن الشنآن مع الجيران درءا لمثل هذا الموقف الصعب..وهو في خضم تساؤلاته ، دخل إلى المركز شاب مكبل اليدين خلف ظهره يتبعه رجلا أمن بالزي المدني..دفعاه بعنف في اتجاه باب آخر غير الذي دخلت منه المجموعة السابقة..وحمد الله كثيرا لأن الشرطة احترمته على الأقل ولم تأت به إلى المركز مكبلا أمام أعين الملأ..اطمأن قليلا.. فالشـرطة إذن تثق به ، واكتفت باستدعائه كتابة.ً.لا شك أن في الأمر سوء تفاهم ..أو ربما هو تشابه في الأسماء أو خطأ في العنوان..وفجأة سُمع جرس يرن..ثم رأى الرجل الغارق خلف الجريدة يشير إليه بحركة من يده إلى باب قريب منه..
طرق الباب طرقا خفيفا ثم انتظر قليلا قبل أن يفتحه ببطء شديد ويدخل على استحياء..أشار إليه الرجل الذي يملأ الجانب الآخر من المكتب بجثته الضخمة..أشار إليه بالجلوس..كان الرجل قد ملأ كل تفكيره فركز عليه كل اهتمامه ولم يلتفت إلى تفاصيل الغرفة..جلس على كرسي إلى الجهة اليسرى ثم ساد صمت طويل خاله دهرا..نظر خلسة إلى الرجل فوجده يقلب مجموعة من الأوراق استخرجها من ملف موضوع أمامه..كان شاربه كثا.. وكان حاجباه كثيفين ترتسم تحتهما عينان لا تبعثان على الاطمئنان..همَّ أن يستفـسره عن سبب استدعائه..لكنه خشي ردة فعل عنيفة من قبل المسؤول الأمني..أخيرا ، وبعد فترة من التعذيب النفسي المقصود ، قال بعد أن تفرس جيدا في وجهه:
"أنت لم تشتك بأحد..ولم يشتك بك أحد..ما شأنك ؟ ومن أي طينة أنت؟ ألا تعيش في هذا المجتمع؟ أنت لست منخرطا في أي حزب سياسي..ولست مناضلا في صفوف أية نقابة من النقابات..ولست عضوا في أية جمعية من جمعيات المجتمع المدني..ولست منتميا إلى أي ناد من الأندية الرياضية..لا تدخل إلى ملاعب كرة القدم..ولا تتردد على دور السينما ولا تذهب إلى المسرح..ولا تجلس في مقهى ككل خلق الله في هذه البلاد..لك مسار واحد لم تخرج عنه قط..من البيت إلى العمل ، ومن العمل إلى البيت..حتى زملاؤك في العمل تنتهي علاقتك بهم بمجرد خروجك من مقر عملك..لا تحضر حفلات الزفاف ، ولا تشارك في تشييع الجنائز..من أي طينة أنت؟"
ذعِر الرجل كأنما صُفع على قفاه على حين غفلة..أحس وكأن ماء باردا قد صُبَّ على جسده..لم يحر جوابا..ولم يـَقـْوَ حتى على تحريك لسانه في فمه..وتذكر مأساة والده الذي اختطفته أجهزة الأمن من أمام أفراد أسرته ، بعد أن وضعت عصابة ًعلى عينيه واقتادته إلى مكان مجهول..كان مناضلا سياسيا صلبا..ونقابيا لا تلين قناته..وكان يجهر بالحق في وجه المسؤولين والحكام ولا يخشى في الحق لومة لائم..وانتهى مصيره كغيره من المناضلين الشرفاء إلى مصير مجهول..تذكر كل ذلك وأدرك أن العميد يعلم دون شك كل تلك الأمور..حاول أن يوضح أنه استوعب الدرس من مصير والده تمام الاستيعاب..لكن العميد واصل حديثه وكأنه يقرأ مضمونه من الأوراق الموضوعة أمامه:
"هل تعتقد أن هذا السلوك ، يوهمنا بأنك مواطن صالح؟ نحن نعرف عنك كل شئ..حتى ما يجري داخل غرفة نومك نعرفه وبالتفصيل الممل..نحن نعلم أن نفسك الأمَّارة بالسوء تدبر أمرا في الخفاء..ثمة بدون أدنى شك جهات خارجية تتواطأ معك..وثمة بالتأكيد جهات أخرى تدعمك بالمال لتنفيذ مخططاتك..كل هذا الكتمان الذي تحيط به حياتك الخاصة يجعلنا نشك ..لا..لا ..بل نحن على يقين أنك تخطط لأمر خطير..سنعرفه في الوقت المناسب..وعندها سنصل إليك قبل أن يرتد إليك طرفك..أعتقد أن خطابي واضح..وأن الرسالة قد وصلت..يمكنك الآن الانصراف..وسنلتقي هنا كثيرا.."
أشار بيده الغليظة مثل العصا نحو الباب ، إيذانا بانتهاء الزيارة..تحامل على نفسه كشيخ أنهكته سنوات العمر الطويل..وانسل من الباب مثل قط مذعور..ثم بدا له الرجل الجالس خلف الفاصل الزجاجي وهو ما زال يخفي وجهه خلف الجريدة..
وما أن غادر باب المركز إلى الخارج حتى تنفس بعمق..لكنه أحس أن كل الكائنات من حوله تحولت إلى عيون ترقبه وتترصد حركاته..
وانتابته رغبة جامحة في البكاء.. ثم خطرت له فكرة الهروب..ولكن إلى أين؟؟!!..
- مصطفى سهيل -