هزتها الأهزوجة الفلكلورية العتيقة فانسابت هديلاً مع نزول صديقتها عن هودجها , سارعت ترفع أكمامها البيضاء مع بقية الوصيفات حين ترجل العريس عن ظهر الجواد وتأبط ذراع عروسه فأطلقت زغرودة بُللت بالندى فضحت ما تراكم من عاطفة تنازعتها الأمنيات وصبغتها الساعة الرملية بلون القلق .....,
وضعت الترانيم زهورها في يدها فمضت تشد الفرح الواجف في كفِ القلق إلى سدرة اللحظة , وانداحت تتمايل بعذوبة فوق أشلاء خمس وثلاثين سنة تسلقت لحاءها شوكاً عراها شجو الربابة وأسئلة الفصول المختبئة في الأصداف ......,
مدت يدها مرة أخرى لترفع عرائش العروس فنهرتها والدة صديقتها خشية الحسد , تسمرت مكانها بعد أن أرخت يدها على وقع الإهانة , دارت طواحين هوائها حين هبت الرياح من كل العيون الذابلة لتذكرها بأنها وصيفة غير مرغوبٍ فيها , وبين النظرات المبهمة والحاجة للمسة يد إنحنت مع قوس كمانٍ هائلٍ بين ضلوعها فأخذ عمرها الشاحب يحصي أرقامه دمعاً .....,
لم يبدد كبرياءها عِشرة العمر الطويلة , غافلت الألم الذي كانت تكبر به كالعادة , قبلت صديقتها العروس التي رافقتها منذ الطفولة وتركتها وحيدة خلف أبواب الخريف وخبأت دموعها حين غادرت قاعة الزفاف .......,
لم تنس تقبيل يد والدتها قبل أن تطبق الأبواب والنوافذ من حولها وتوحدت مع الظلام الذي لم يفلت يدها أوقات الشدة, جهدت للتملص من مخالب الذكريات, توسلت الأمنيات وأغوت الرجاء
لكن الرياح داهمتها ممتطية صهوة العتم فهربت كالعادة لتلبس ثلاثينها فستان عشرينها الأجمل في حدقتي المنى ......,
أنارت الأضواء وارتدت فستانها الأبيض, وقفت تتأمل جسدها الغض في المرآة, أسدلت شعرها الأسود , تحسست جسدها لتقنع الفصول المتبقية أنها لم تزل مرغوبة , في توسلٍ للقاطرات أن لا تجتاز الخامسة والثلاثين دون فرح .........,
أخذت تدور حول نفسها وتضحك في هستيريا , حطمت نظارتها الطبية السميكة ومزقت شهادة الماجستير الفرنسية وقصائد " لامرتين " , رفعت شاشة الكمبيوتر وهوت بها على أرضية الغرفة مسدلة الستارعلى فصول حبٍ إفتراضي عاشته بكل جوارحها بين خيوط الشبكة العنكبوتية , ماج بها مستلباً فرحتها البخيلة وثلاثة أعوام من عمرها وتركها فوق الجسور المحطمة ترسم في كل حين جدارياتٍ للأيدي المتباعدة ........,
نفرت من جسدها الذي كان يدبر إنقلاباً هائلاً على زهده وصوفيته حين حوصرت بين الرغائب والذبول الباكر مشتتة بين سجادة الصلاة واللوحات البوهيمية , سجدت باكية متوسلة السماء أن يفلت الوجع عمرها ..
تمالكت نفسها وهي تكتب التاريخ و عنوان الدرس على السبورة , وحين استدارت رأت تلميذاتها يكبرن بسرعة , يتموجن باسقات, يغادرن لربيعٍ يكنس خريفها , ضاق بها الفصل والمدرسة حين رأت الفصول الهاربة في أحداق فتياتها تتحول إلى بواشق تطاردها في اليقظة والمنام , حملت حقيبتها وهربت من المكان الموحش .....,
بين الجدران الرطبة والعيون الواجفة والبيارق المُنكسة كان العامة يدسون أنفسهم في الحافلات المكتظة للدوران حول أنفسهم كفريضة يومية تقنعهم بأنهم أحياء إلى حين , ترجلت من الحافلة وقد شدها الإنتماء المتأخر لمطالعة الشبان الهاربين إلى " لانساروتي " على متن المراكب الصغيرة ......,
لمحت جارها العازف الذي أحبها يوماً يدس نفسه في إحدى القوارب , جلست قربه , لاحظت أنه لم يرتبك كعادته فلم يعد يحفل بعُري عالمه في عيون الآخرين بعد أن تآلف مع المهانة سعياً خلف رغيف الخبز, أخبرته أنها لا تنكر حاجتها للرجل لكنها تترفع عن إختزاله في هيئة زوج فقط , شذبت رغائبها وروضت جسدها لكنها لم تفلح في إسكات نداءات الأمومة ...........,
وأخبرها أنه بات يدجن عواطفه كما دجن رغائبه محاولاً إقناع نفسه أن حاجته للمرأة تراجعت بفعل القهر لاسيما وأن الخوف يحوله إلى إحدى كائنات العتمة مجهولة المصير في وطنٍ يضيق بأبنائه ويلفظهم في كل المدائن الغريبة الموحشة .........,
سخر من شهادة الدكتوراه التي حملها وطاف بها كل العواصم العربية يتسول عملاً شريفاً يليق بمكانته العلمية , من العدالة العمياء , سخر حتى من عواطفه النبيلة واضعاً زهوره فوق رمس هواها, داعياً رهف لمطالعة رفاقه مجهولي المصير على متن القارب الواجف , شهقت حين علمت أنها تجلس بين أطباء وصيادلة وضباط درك وأساتذة جامعة وعامة تمزقت بهم السبل وتُركوا خلف الأبواب الموصدة .......,
أخرج أحد الشبان آلة الفلوت من سترته وعزف لحناً جميلاً ليبدد مخاوفه , بينما أخذ الباقون يصفقون لرهف وهي تنشد أهزوجة حماسية في نشوة , نظراتهم بريئة وحزينة خالية من أي اشتهاء وضيع , كان الجميع بحاجةٍ للفرح البخيل , للمسة يد , والكثير من الأمان تحت حراب الخوف المُطبق ......,
غادرا القارب وقد نامت يدها في يده , بينما أسدلت الشمس ستائرها الذهبية وهما ينشدان أهزوجة فلكلورية عتيقة ناغمت أصداء الفلوت في القارب الحالم بمدائن الشمال ..