بصم ًالطيب ً على نهاية عام دراسي طويل، سلم كشف حسابه للتاريخ، خرج من الباب الكبير للمؤسسة بعد أن وقع محضر الخروج
ما أسرعك يا زمن بل ما أبطأ أفعالنا وأسرع رغباتنا.!
في نهاية كل عام، يستسلم الطيب لحالة من القلق المشروع، فتتناسل في ذهنه أسئلة كثيرة ملحاحة:
- أتراني أتغير هذا الصيف لأصبح مثل باقي البشر ؟
- أيعقل أن بإمكاني السفر هذه المرة ؟ لكن إلى أين ؟
- هل ثمة رابط سحري بين محضر الخروج والعطلة والسفر ؟
أسئلة لا تنقطع مع حلول كل صيف، وسوف تتكرر مادام التردد يسكن الفؤاد ويغزو الصدور.
هذه المرة سأسافر، ليس المهم إلى أين ...قضيتي هذه المرة أن أتحرك..أن أتغير. تذكر الطيب بسخرية فوائد السفر التي طالما شنف بها أسماع مريديه الصغار، فكثيرا ما حاول إقناعهم بأن السفر ترفيه،وتعلم،وتدبر، وسياحة، وتنشيط، ومعرفة، دون أن ينسى تنبيههم إلى أنه أيضا قطعة من جهنم، وضحايا حقيبة السفر أكثر من أن يعدوا ويحصوا. هذه المرة سأكون كريما مع ذاتي، سأشبع حاجة نفسية عميقة ظلت تلح علي إلحاحا متواصلا.
قصد الطيب محطة المسافرين القريبة من محل سكناه، جال ببصره فيما استجد من شركات النقل، لعله يقع على شيء يشبع فضوله الدائم. وما كاد يدخل الساحة الواسعة، حتى وقعت عينه على مجموعة من المكاتب والأكشاك، رصت أمامها عشرات الحافلات مما ورد على خاطره وما لم يرد.
سريع الجنوب...صقر سوس..أسفار بلدي..مراسلات حاحا....النجم السريع...سريع الصحراء ..أسماء كثيرة ظل الطيب يتفرس فيها محللا معانيها، لكن حدسه أكد له أنها مجرد ألقاب مملكة في غير موضعها.
توقف قليلا، ثم نبس بصوت مهموس : ماذا أصابني ؟..لم لا أرجع من حيث أتيت ؟ الناس كلهم يقصدون مدينتي، وأنا أخليها لهم ليستمتعوا بها ...لا ..وألف لا.
قبل أن يقفل الطيب راجعا، غلبه إصراره على التغيير، ودارت في رأسه خواطر كثيرة، تلاحقت بسرعة لتوقفه أمام حافلة أنيقة، تلقفه- قبل أن يتفحص وجهتها- شاب أسمر طويل، رث الهيئة،لفحت الشمس محياه، يحمل تذاكر السفر بيسراه، وسيجارة رخيصة بيمناه .
..الدار البيضاء.الشريف . .دابا.. فين غادي أسي محمد ..الرباط ..فاس ...طنجة .. مراكش ..
استعرض الشاب أسماء مدن المغرب الكبرى بسرعة قل نظيرها، وبإلحاح عديم المثال، لكنه صدم لما رد عليه الطيب بكل بساطة وبثقل مشهود : لا أعرف..!
خاله الشاب لئيما ماكرا، لكن الحقيقة المرة أن الطيب- فعلا- لا يعرف أين يريد بل ماذا يريد.
على خاطرك أ مولاي ...عبارة ختم بها الشاب حديثه، بعد أن تأكد له بأن صاحبنا ليس الصيد الثمين الذي تمناه.
...سأذهب إلى مراكش، عروس الجنوب...طالما اشتقت إلى المدينة التي لا تنام، إلى بلاد البهجة، والنكتة،والناس البسطاء، لكن..نحن في عز الصيف و مراكش تتقد اتقادا ينسي الزوار سحر المكان.
...سأغير الوجهة إلى البيضاء، عاصمة الملايين والبنايات الزجاجية، والحركة اللامتناهية،...لكن ممن سأطلب الضيافة هناك ؟ الفنادق غالية، وطلب الضيافة في المدينة اليوم، أقرب إلى طلب الإحسان بل والتسول بالمعنى العام...ما أقسى المدنية..! وما أبشع حضارة لا تحتفي بالقادمين، ولا تهش في وجوه الزائرين.
ربما سأغير الوجهة نحو البادية ..ألم يقولوا قديما أن الرجوع إلى الأصل أصل.؟..لكن ماذا تركت هناك كي أرجع إليه ؟..ربما أجد هناك أطلال بيتنا القديم الذي تركته قبل سنين آيلا للسقوط .
طالما شكل مسقط رأسي ملجأ أمان لي، وسط العواصف الداخلية التي تنتابني بين الفينة والأخرى...لكن لو ذهبت هناك الآن...أكيد أنني سأقضي الصيف كله بين نصح الناصحين، وشماتة الشامتين، وحقد الحاقدين، ومكر المغضوب عليهم والضالين.
أيها الناس ..أين المفر ؟
آه..لقد وجدت المكان المناسب..نعم ..ثمة لن ألقى عنت الغربة وشظف العيش،لن يضيق بي المكان،ثمة سأهنأ وأستريح من عذابات مطاردة الأحزان ومخاوف الشكوك والأوهام.
طاكسي..طاكسي..من فضلك أرجعني إلى البيت..خذ العنوان...!
أحمد السبكي المغرب
سريع الجنوب...صقر سوس..أسفار بلدي..مراسلات حاحا....النجم السريع...سريع الصحراء ..أسماء كثيرة ظل الطيب يتفرس فيها محللا معانيها، لكن حدسه أكد له أنها مجرد ألقاب مملكة في غير موضعها.
توقف قليلا، ثم نبس بصوت مهموس : ماذا أصابني ؟..لم لا أرجع من حيث أتيت ؟ الناس كلهم يقصدون مدينتي، وأنا أخليها لهم ليستمتعوا بها ...لا ..وألف لا.
قبل أن يقفل الطيب راجعا، غلبه إصراره على التغيير، ودارت في رأسه خواطر كثيرة، تلاحقت بسرعة لتوقفه أمام حافلة أنيقة، تلقفه- قبل أن يتفحص وجهتها- شاب أسمر طويل، رث الهيئة،لفحت الشمس محياه، يحمل تذاكر السفر بيسراه، وسيجارة رخيصة بيمناه .
..الدار البيضاء.الشريف . .دابا.. فين غادي أسي محمد ..الرباط ..فاس ...طنجة .. مراكش ..
استعرض الشاب أسماء مدن المغرب الكبرى بسرعة قل نظيرها، وبإلحاح عديم المثال، لكنه صدم لما رد عليه الطيب بكل بساطة وبثقل مشهود : لا أعرف..!
خاله الشاب لئيما ماكرا، لكن الحقيقة المرة أن الطيب- فعلا- لا يعرف أين يريد بل ماذا يريد.
على خاطرك أ مولاي ...عبارة ختم بها الشاب حديثه، بعد أن تأكد له بأن صاحبنا ليس الصيد الثمين الذي تمناه.
...سأذهب إلى مراكش، عروس الجنوب...طالما اشتقت إلى المدينة التي لا تنام، إلى بلاد البهجة، والنكتة،والناس البسطاء، لكن..نحن في عز الصيف و مراكش تتقد اتقادا ينسي الزوار سحر المكان.
...سأغير الوجهة إلى البيضاء، عاصمة الملايين والبنايات الزجاجية، والحركة اللامتناهية،...لكن ممن سأطلب الضيافة هناك ؟ الفنادق غالية، وطلب الضيافة في المدينة اليوم، أقرب إلى طلب الإحسان بل والتسول بالمعنى العام...ما أقسى المدنية..! وما أبشع حضارة لا تحتفي بالقادمين، ولا تهش في وجوه الزائرين.
ربما سأغير الوجهة نحو البادية ..ألم يقولوا قديما أن الرجوع إلى الأصل أصل.؟..لكن ماذا تركت هناك كي أرجع إليه ؟..ربما أجد هناك أطلال بيتنا القديم الذي تركته قبل سنين آيلا للسقوط .
طالما شكل مسقط رأسي ملجأ أمان لي، وسط العواصف الداخلية التي تنتابني بين الفينة والأخرى...لكن لو ذهبت هناك الآن...أكيد أنني سأقضي الصيف كله بين نصح الناصحين، وشماتة الشامتين، وحقد الحاقدين، ومكر المغضوب عليهم والضالين.
أيها الناس ..أين المفر ؟
آه..لقد وجدت المكان المناسب..نعم ..ثمة لن ألقى عنت الغربة وشظف العيش،لن يضيق بي المكان،ثمة سأهنأ وأستريح من عذابات مطاردة الأحزان ومخاوف الشكوك والأوهام.
طاكسي..طاكسي..من فضلك أرجعني إلى البيت..خذ العنوان...!
أحمد السبكي المغرب