كان محفوظ لا يكترث بدروسه.. ربما لم يكن بليدا.. بل كان مسكونا بتقليد الكبار كعجوز مخضته الحوادث.. وبصرته التجارب.. رغم انه غلام لم يراهق.. وجهه ناشف مخدود.. يصيخ السمع في مجالس الرجال.. ويرقب حركاتهم بحس دقيق متسقط، والده لم يمتهن اي عمل من الاعمال المعروفة.. انه رجل أمي.. لكنه ليس فلاحا ولا عاملا ولا راعيا ولا موظفا.. يتأنق في ملبسه.. ومما يزيد في بهائه عندما يبتسم.. لمعان الذهب في احدى اسنانه.. رغم ان انطفاء احدى عينيه يزيل ذلك البهاء عن مخيلة الرائين اليه.. ولعل ما يدعو الى القرف منه ـ في نظر البعض ـ سحنته المربدة ووجهه المتجهم وخيلاؤه المهارش، في تلك القرية التي راج فيها لغط واخز واستشرى همس مترع باللمز.. عن مشاهدة الناس لوالد محفوظ وهو يزيل الغبار عن كتف ـ البيك احد كبار الملاك ـ الذي كان يزور القرية للاشراف على مزرعته.. فيما كان يتبعه والد محفوظ كظله بذلة وخشوع أثارت حفيظة أهل القرية وسخريتهم..
عدنا.. انا ومحفوظ من المدرسة.. نغذ السير في طريق غير ممهدة الى قريتنا الجاثمة قرب الجبل كفرطوسة خنزير.. كانت حباحب المطر.. تغسل وجوهنا المقترة.. قال محفوظ وهو يمحص النظر في التراب البليل: (نحن يجب ان نعمل لا ان ندرس).. لم اجبه.. رمض وجهي.. اندلق الدمع من عيني كرد فعل شرطي على حبيبات المطر الصافعة القريرة.. داخلني شعور بالمهابة له.. وكأنني امام شيخ جليل ينطق بالحكمة.. احجم لساني عن الدوران.. لكنني همست في قرارة نفسي: (وماذا يمكننا ان نعمل ونحن لم نسلخ العشر من العمر؟).. وقف كالجندي.. فاغر الفم كالابله.. وقبل ان يروم مكانه.. قال بحزم وثقة عالية كآمر: (انا قررت ان اترك المدرسة نهائيا)..
كانت السماء تنفث انفاسا باهتة.. تسربلت بالقنوط.. كأنه انتهرني بغلظة.. فيما احسست ان وجهه المسنون كمدفع رشاش يخز اعطافي بوابل من الرصاص المدبب.. وتراءى لي.. انه ينزع ثوب الفضيلة.. ليرتدي ثوب الاثم ولكنني تمتمت.. (ان لم تترك المدرسة.. ففشلك مؤكد) اقتربنا من القرية.. بدت لنا من قرب لابدة كقطعة قريرة.. ثم اقتربنا اكثر.. اتضح لنا ان اهل القرية يتجمهرون عند الساقية.. تناهت الى مسامعنا.. جلبة وشغب نابح.
. فتشنا تلافيف الذاكرة: (اهل القرية لا يفعلون ذلك الا في المناسبات او لأمر مهم.. كما يفعلون في الاعراس او الاعياد او عند وفاة شخص ما).. لم تلفنا الحيرة كثيرا.. ولم يطل القلق.. ما ان اطلعنا على الجمهور حتى تبرع الكثير منهم لأخبارنا بما يميط اللثام عن الامر.. ويزيل ما يدور في اذهاننا من استفهام.. قال احدهم بكلمات ذات اسنان: (ان والد محفوظ جاء اليوم وهو يقود تراكتور ولكنه قبل ان يصل الى القرية.. جنحت به وهوت في الساقية).. وخز نميم يسري في اجزاء جسمي.. وتراءى لي انهمار الماء النمير على وجه محفوظ.. فيما لاح لي ان ضوءاً بهيجا يترشح منه.. قال اخر بأستغراب: (انه لا يجيد القيادة.. لم يشاهد من قبل انه يقود حتى دراجة هوائية).. وقال اخر بخبث.. فيما كانت تعلو محياه ابتسامة ماكرة: (فوجئ بأفعى تقطع طريقه فداخله خوف أرعد فرائصه.. وساقه هلعه الى الساقية).. وتساءل آخرون بتعجب يستبطن حسدا وجيعا: (من اين له هذا التراكتور.. وهو لم يشبع من خبز الشعير؟).. الملوحة بلساني تتناسل.. اطيط الاطارات الباركة في الوحل يتصاعد.. انطلق من خلفي صوت هامس كفحيح الافعى.. رقعته بنظرة مشدوهة.. امرأة شاخت كثيرا كلفا
فة نافقة.. مطت لسانها المحروق كجنح الليل.. تعتعت.. استرطت شفتيها الفاحمتين.. نطقت بصوت محشرج: (ان ابا محفوظ مجرد أجير ـ وهذا التراكتور من املاك البيك ـ الذي ابطره الغنى.. والمشغول بتخمته عن سغب الناس من حوله).. تمكن اهل القرية بجمعهم المكدود.. من تسوية الامر.. وتمالؤوا على اخراج (التراكتور) من الوحل وسط تفاقم عجيج الاصوات وصخبها.. ذهب محفوظ مزهوا مع والده الى منزلهما الطيني الكالح.. وفي اليوم التالي ذهبا للعمل في مزرعة البيك.
انهيت دراستي الابتدائية.. قام في نفسي.. وكبر في وهمي.. انني سألثم صفحة السماء.. وان الدنيا ستسكب على قدمي عواطفها.. سافرت مع ابي الى مركز المحافظة لبعض المهام.. ورأيت لدى دخولنا السيارة محفوظا.. وقد شب عن الطوق.. منهمكا كدوامة.. وعرفت فيما بعد انه يعمل كمساعد للسائق.. وسمعت والدي يسأله عن والده.. وعما فعله.. خاصة وانه احيل الى المحكمة.. بعد فتحه متجرا صغيرا، وباع بضاعة بسعر اعلى من المقرر.. قال محفوظ بلباقة: (تم تسوية المسألة ودفعنا الغرامة).. جنح بي الخيال.. وجسم لي التمني.. كم كنت اتطلع لان اعمل كمحفوظ.. واتصرف مثله: انه يتحدث امام الجميع بجرأة كبغي.. ويدخن السجارة كرجل.. لكن امي نفثتني بنظرة لائمة عاتبة.. وتأوهت كنخلة مثقلة بالعنوق: (لا عليك سوى الاهتمام بدروسك.. وستكون موظفا لامعا ووجيها.. فأنك ذكي وشاطر يا ولدي).. اشعر بدفء صوتها.. وحلو كلامها المتهدج.. فأستسلم لرغبتها النبيلة.. وانا اومئ برأسي مطأطئا.. شريط من الدموع ينسل من عينيها.. يسخن رأسي رحمة لها.. ألثم يدها فأشم رائحة الجنة.. واسألها بتذلل: أذن فيم تبكين؟.. تربت على ظهري.. والبشر يطفح على وجهها كملاك.
قررت انا وبعض زملائي الذهاب الى العاصمة لتقديم اوراق الانتساب الى الجامعة.. (ونحن قادمون من سذاجة الريف وبراءته.. ولم يتسن لنا بعد لمس يد الدنيا في صورها الاكثر فجاجة وفضاضة.. والانكى من ذلك.. اننا كنا نحسب ان الحركة في المدينة الكبيرة ستكون دفاقة غنجة.. تتدحرج بشبق آسر.. بعيدا عن جشوبة القرية.. ووحشة الحياة فيها).. وما ان دلفنا الى الحافلة حتى تناهى الى مسامعي صوت أليف.. صوت محفوظ ـ صديقي القديم ـ قد أخشوشن ذقنه.. وراح يحرك مقود الحافلة بذراع مفتول نفرت منه عروق غليظة.. عيناي تجوس خلال سطور وجهه الممصوص.. ملامحه حادة مثلجة تؤلم العين.. لطعني بابتسامة ماكرة.. أسنانه صدئة مقززة.. تنحنح.. حرك سبابته وقال بفخار (لقد دفعت هذا الشهر اخر اقساط ثمن هذه الحافلة ولله الحمد).
احتفلت امي ووزعت الحلوى.. انه اول ايام الوظيفة.. بعد حصولي على الشهادة الجامعية.. لم استلم مهام الوظيفة في اليوم الاول.. قيل لي: علام العجلة؟ ستعمل حتى تكل وتمل.. من دون عائد ذي شأن.. وطفق الجميع يدفعون في وجهي بحزمة من الاستفسارات والاستنكارات لم تكن بي حاجة اليها.. ساد في ذهني هرج حائر.. لكنني باغتهم بصوت متردد ومنطفئ مستفسرا عن مراسيم بدء العمل ومنتهاه.. فكان جوابهم.. يعاليل تندر وتهكم.. اضطرتني ان انكص على اعقابي.. لتغيبني الباب الخارجية للدائرة.. وانا أسر في طويتي ـ برما اسفا: (أيهزم أملي قبل ان يرى النور؟).. ورحت أذرع شوارع المدينة.. وأتصفح واجهات المحال والدور.. كضليل يعوم في متاهات القتامة.. اجهد في ان ازيح السجف الذي ران على افكاري.. ولم افق الا وانا اقف امام دار فخمة مبهرجة بألوان الف ليلة وليلة.. حتى اذا ما اقتربت من الباب.. ألفيتني ـ وانا اشاهد سيارة فارهة تحط داخل الدار.. أدور حول نفسي.. كمن صفع على ام رأسه.. وبين تخليطي راعني الذي كتب على باب الدار.. فأمسكت أنفاسي.. ووليت الدار أدباري.. وعدت قافلا.. وانا أبرطم.. (لله درك يا محفوظ.. هل صرت عينا من أعيان البلد.. و
اثرى أثريائه؟.. وانت لم تتم حتى الدراسة الابتدائية.. لله في خلقه شؤون).. غفر الله لك يا اماه. وانا اتذكر كلماتك القنوعة: (لا تعجل يا بني على حظك.. فالرزق مقسوم).. لكن الان وقد ايقنت بأن الرزق لا يطال بالاستحقاق.. بل يؤخذ غلابا.
اضجرتني الرتابة.. واقنطني قفر حياتي.. وحبسني ناموس العزلة. واذلني عمود الاملاق.. فأنا نيفت على الاربعين بشباب غارب.. وطفقت تمور في دواخلي عواصف من الهواجس والنذر.. وما فتأت تنتابني نوبات من الهلع والفزع من المستقبل المجهول.. فأنا لم املك مالا ولا عقارا ولا زوجة اسكن اليها.. والايام تلفني مسرعة عجلى.. فضلا عن ان الشهادة الجامعية ما عادت تجدي.. ومرتب الوظيفة لا يساوي ثمن حذاء.. حتى أعز جلسائي ـ الكتاب ـ شاح عني بوجهه بعدما بهظ ثمنه.. وتعذر علي اقتناؤه.. فاستعضت عنه بالسير بحذاء كحافر حصان مطرقع في طرق وازقة المدينة.. ترويحا للنفس.. وهروبا من هواجسي المرعبة.. وتسكينا لجيوش اليأس التي احتلت آمالي وسحقت احلامي.. حتى وجدتني اقف ثانية ـ مبهورا ـ امام دار محفوظ.. وانا ارجف كقصبة في مهب الريح.. فيما صكت مسامعي من داخل الدار ضحكات مغناجة تفرقع.. رحب بي بجفاء بعد ان تعرف علي بصعوبة مفتعلة.. بهتت اشلائي الضاوية وبعد ان عرف عني ما عرف.. دعاني للعمل عنده في شركته التجارية.. على ان يمنحني عشرة اضعاف ما اتقاضاه من مرتب وظيفتي الحكومية.. أبشم بالجواب.. دون ان أنبس ببنت شفة.. قال محفوظ وانا أه
م بدخول مكتبه الوثير: (تأكد ان ستنجح في عملك ما أطعت رب العمل.. هكذا أوصاني والدي).. أومأت علامة الرضا وقلت في نفسي (لكنني لا اجيد نفض الغبار عن الاكتاف يا سيدي).. ضرب كتفي الضامر بكف ثقيلة.. وشخص ببصره الي.. وزم شفتيه.. ولوح برأسه.. وتوارى.. (حقا ابن أبيه.. واعترف أنه غلبني.. وعرف من اين تؤكل الكتف.. تركني أغرق في بحر الفكر.. وفاز هو في لجة العمل).. قلبت اوراق كتاب عتيق متهالك كعليل.. أتلع رأسه بوقاحة من الباب ونهشني بقوله: (ها.. ماذا تفعل.. ألم أنهك عن غيك.. لقد نصحتك قبل ثلاثين عاما.. وها أنت لم تتعظ).. فسقط الكتاب من يدي مرفرفا كطير مذبوح.. لم أحر جوابا كأبكم.. فيما رحت أقلب جداول حسابات المكتب بافتعال مفضوح.. رمقني بنزق كعاق.. ولوح بيده علامة الامتعاض والسخرية..: (يا أماه.. وتتنبئين لي بالوجاهة.. ان المأفون يسخر بي.. يا اماه).. مأفون ولكن صيته قد طبق الافاق.. قالت ذلك باستنكار.. لمست يدي بكفها الذي ينبض بالحنان.. وهي تنتشلني من أعماق اليأس.. بابتسامة شفوق.