يتسلقنا الفقد....كما تتسلق عُلّيقة عجوز ..حاقدة ..جدار بيت الجيران العتيق..في حارتنا الحمراء الطينية ، فتتوحد فيه لتصير كالوريد المتوغل...وحشي بخضرته في جسد ذاك الجدار القديم الفاتر ...حياةً.
...وتندفع الذكريات بداخلنا ..كاندفاع مسافري القطارات ..ببوابات القاطرات النحيلة ، فيضج بضوضاء التناقض ....ويوغل الكف بداخلنا ...ويجتثّ السكينة منّا...ويعتصر براحته أحشائنا ..وهو يترنم بأنشودات طقوسه بنشوة ...
... فيشعرنا كمسلوبي الإرادة .....عاريين من قدرة اتخاد القرار....لانرسو على ميناء....ولاندري بما نشعر... بالضيق أم بالبهجة؟؟؟ ...بالغضب أم بالسكينة ؟؟؟ .....بالرغبة في الهروب أم بالحنين والعودة ؟؟؟؟
لاندري حتى ماهيتنا.... وما نحن ؟؟؟؟ بعدما انبعثت الحيرة جدولا بشراييننا وأوردتنا .... لتجرف كل ما أعتقدنا ببقائه شامخا في حيواتنا.....وتلك النُظم والقوانين...والرموز التي لطالما شعرناها لاتخبو...
"حين لاتتوقف عقارب الحزن بساعة عالمك الحائطية......لاتحاول ضبطها بأناملك.، بل اجعل حزنك قوة.....واستثمره في مشروع إنسان..، فلا إنسان دون حزن "
هكذا قالتها دون حرف.....وهي تغزل الصوف بيديها....وتفترش حصيرا على السطح الإسمنتي.. قد احتفظ بحصته من حرارة الشمس الصباحية..في ذاك العصر الدافئ الذي تخلل نسيمه زقزقة عصافير المشاغبة وآذان الصلاة البعيد ...
كانت تتحدث إلي وهي ساهمة في الأفق البعيد ، حيث الشاطئ الصخري...حيث النوارس الطائشة ،.حيث بائعوا الصدف والأحلام.....وتاجرو الحكايا...
كانت تحرك كفها على الصوف بذاك المشط الحديدي الضخم ..حتى تخمد ثورة صوف....بقسوة ودموية..وألم يتيم يحاكي....مايتراقص بخيالات تسكن أحداقها ....فتنزعه هامدا أبيضا كجثة..... بكف المستلقية بهدوء على ركبتها .
القيت رأسي على وسادة عتيقة بجانبها وأنا أحدق بها....وأنا أتلاعب بحزام ثوبها المغزول بخيوط حريرية ملونة وأتأمل ضفيرتيها الكريمتين السخيتين ..اللتان طُرزتا بخيوط الشيب المهيبة.....كما تطريزات خيوط الذهب بثوب حريري نفيس....، كنت أتأملها ..وأنا أدرس تقاسيمها الحنونة ..وحاجبيها المرتفعين دائما ...كأنها دائمة التعجب ، كنت أحب بريق الإصرار الذي يسكن أحداقها الواسعة البنية ......وكنت أعجب بملامحها العربية الصلبة والناعمة في آن...وكأنها وطن من التناقضات ......وأرض من الغرابة المألوفة ....والغموض الشفاف....
تحولت ببصري إلى نقوش الحناء القديمة على قدميها المجيدتين ...كانت تبدو كنقوش أثرية عريقة على لوح أنجبه التاريخ ....بعد مخاض قد صدح بالصراخ والتأوهات بكتب وخطاطات الباحثين...وعلماء آثار...
كانت قدميها تغوصان في فوضى من صوف ووسائد....، على حصير قصبي قد تآكلت أجزاءه...وانبعث عطره الممزوج بأريج التراب ساعة المطر ...، ربما كانت مجرد رائحة رطوبة ....، لكنها كانت أكثر من ذلك بالنسبة لي ..كانت بمثابة هوية ...، بمثابة بصمة تخص مسقط رأسي......والبيت الذي أحببت كل طوبه وسواريه .....
اخفضت ناظريها إليّ وهي تزرع وسط تجاعيد وجهها الدافئة ابتسامة تقطر حنانا.....وتصهر النفوس في أوج جليدها ....، توقفت يداها عن العمل ...وأهملتا الصوف ..وذاك المشط الفولاذي القاسي ....لتعبثا بكل حنان بخصلات شعري....وتجذبا رأسي بفوضاه الصاخبة التي تسكنه إلى حضن لن أنساه....ولن أنسى عطره الذي خالطه عبق عرق لاتحاكيه أي عطور.....
لطالما أحببت اللجوء إليه......صيفا وشتاء.،..نهار وليلا، كان عالمي الذي يعزلني عن الفوضى المدمرة خارجه......كان كوخي الذي ....ألجأ إليه بعد كل رحلة صيد ضارية.......، كان عرزالي الذي كنت أبني فيه أحلاما عاطلة مع وقف التنفيذ.....، كراستي التي كنت أخطّ على أوراقها كل مغامراتي......وكل ثوراتي ..
كنت لاأزال تلك المراهقة التي تعتقد بقدرتها على تغيير العالم بصوره السوداء السخامية......وحواشيه المدبدبة الحادة التي.....تدمي من يحاديها وتمخره حتى العظام ....، كنت ألجئ إليها بعد كل إخفاقة ألبستني ثوب الإنكسار....ونكست أعلام غروري.....، وكانت كمن تملك القفاز السحري الذي يمسح كل آلامك وإخفاقاتك.....وجراحك.....، كانت كالإكسير الذي لم يصل إلى سره أطباء هذا العصر .... كالحورية التي تسكن حكايات الأطفال ....التي تملك العصا السحرية ..وتحقق ما استعصى على الجبابرة تحقيقه.