في ركن قصي من أركان مقهى النهضة ، بعيدا عن أنظار الفضوليين والمتطفلين ، جلس فرحان وحيدا يرتشف قهوة الصباح ، وبين الفينة والأخرى يحركها ببطء شديد . حرص فرحان على الإتيان باكرا على غير عادته ، لقد كان يعلم أن اليوم سيكون استثنائيا ، على الأقل بالنسبة لرواد المقهى ، فهم سيشهدون افتتاح الألعاب الأولمبية ببكين.
بدأ المكان يضيق بالرواد والمتفرجين ، وطفقت الجلبة تزداد شيئا فشيئا ، حينها انتاب فرحان إحساس بالتبرم والانزعاج ، خصوصا بعد أن شرع النادل في تنحية الطاولات ليتسع المكان للمزيد من الجمهور.
اشرأبت الأعناق وتعالت الهامات لمشاهدة صندوق العجب الذي وضعه رب المقهى بعيدا عن متناول العابثين ، ابتدأ حفل الافتتاح ....آلاف من الصينيين يبهرجون عش الطائر العملاق ، ليمتعوا الحاضرين والغائبين بلوحات فنية ، أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها خرافية ، بهروا بها العالمين.
سها فرحان قليلا في غمرة الانبهار ولسان حاله يقول ....ألم تكن الصين حتى وقت قريب أمة تعيش على الخرافات وتتنفس عبق الأساطير ؟ ألم تكن غارقة في سباتها في عصور الظلام ؟ كيف صحت من غفوتها فجأة وقامت من كبوتها بعد أن اعتراها الوهن وأثخنتها الجراح ؟ بماذا يفضلوننا ونحن خير أمة أخرجت للناس ؟ ما بال سباتنا قد طال ؟ لابد أن نطلب منهم أن يمدونا بحقنة الحياة ..فربما ننقذ جسدنا الجريح من الهلاك الوشيك ، ونخرجه مؤقتا من غرفة الإنعاش.
صحا فرحان على وقع انكسار كأس سقط سهوا من صاحبه ، التفت إلى شيخ جالس قربه ظل فاغرا فاه من شدة الانبهار بسحر التنظيم ، ثم سأله قائلا :
- كيف وجدت الافتتاح ؟
- ممتاز...رائع....لم أشهد مثله من قبل
- ما سر نجاح هذا الحفل في نظرك ؟
- النظام يا أخي ..النظام أساس كل نجاح..إن هؤلاء شعب يقدس العمل ويحب الوطن ، إنهم يعتبرون هذا الحدث الرياضي مشروع أمة بأكملها وتحديا في وجه العالم ، لهذا تضاعفت إرادتهم ، وقويت عزائمهم ،فأتحفونا بهذا الحفل الأسطوري الذي امتزج فيه العلم بالخيال وبالتاريخ وبالتراث ، حقا لقد اقتربوا من الكمال.
- صدقت يا أخي ..إنني أرثي فعلا لحال أمتنا ، خذ أبسط مثال..عندما يقرر بلد من بلداننا تنظيم مهرجان فني بسيط ، تقوم الدنيا ولا تقعد ، استنفار للقوات ، هرج ومرج وارتباك في التنظيم ، جرحى ومصابون ، احتقان في الطرقات ، خطف ونهب وسرقات ...حقا نحن شعب متخلف.
- واقع مؤلم فعلا ، الغريب في الأمر أن معظم مفكرينا عباقرة في تشخيص النكبات ، واختصاصيون في تحليل الأزمات ، لكن نادرا ما تجد منهم من يقترح الوصفات ليخرجنا من الظلمات.
- كيف السبيل إذن للنجاة من واقعنا المشين ؟
- العلم يا عزيزي ....إننا نفتقر في بلداننا إلى خطة حازمة تعلي راية العلم وتسعى إلى اكتساب المعارف والتقنيات. ربما نكون بارعين في مجالات أخر، لكن للأسف ما زلنا نضع العلم على الهامش ، يجب أن نخرج من عزلتنا العلمية ونتخلص من أوهامنا وأفكارنا المتزمتة المتحجرة.
- هذا الحديث كثيرا ما شنف به المسؤولون أسماعنا..لقد تعهدوا أمامنا وأقسموا بالأيمان المغلظة والمرققة أن يعملوا على جودة تعليمنا ، وأن ينموا اقتصادنا ليكون عصريا تنافسيا..هكذا يقولون.
- القول شيء والتطبيق شيء آخر...إن أردنا اللحاق بغيرنا ، فليس أمامنا سوى التسلح بالعلم والمعرفة ، تخيل معي لو تبادلنا الأدوار مع الصين ، أترانا نقدر على إطعام مليار ونصف من البشر ؟..كيف سنحافظ على أمنهم ..؟..كيف سنضمن تعليمهم ؟...كيف سنوفر الشغل لعاطليهم ونحن شعب رضع من العطالة حتى الثمالة ، وتربينا على الكسل والتواكل والخضوع. في المقابل تخيل أنهم مكاننا ينعمون بخيراتنا وثرواتنا ، ما بالهم يصنعون بها ؟
- لا شيء ....سيكونون مثلنا ماداموا بيننا ..ألم يعاشرونا أكثر من أربعين يوما ؟
- كفى مزاحا يا صاحبي، سر أينما شئت في أي بلد تريد انظر إليهم ..ستجد الآلاف منهم بنفس الروح والعزيمة والإصرار..حقا إنهم أكثر الشعوب تجسيدا لغريزة حب البقاء.
- انظر إلى هؤلاء المتفرجين...لا أحد منهم يحترم الآخر.صراخ وكلام ساقط ودخان يملأ الأعالي ...أبهذا السلوك سنضاهي الآخرين ؟
- الأزمة إذن أزمة سلوك وقيم ، لابد من مراجعة حساباتنا قبل فوات الأوان .
انتفض فرحان من مقامه ، دفع الحساب وغادر المكان ، لقد تعب من لعب ضمير المجتمع الغائب ، فآثر الانسحاب ، ما دام الطبيب المعالج قد نسي حقنة الحياة ، ليفسح المجال للطبيب الشرعي ليتعامل مع جثة أمتنا الهامدة منذ زمان .
أحمد السبكي المغرب .
صحا فرحان على وقع انكسار كأس سقط سهوا من صاحبه ، التفت إلى شيخ جالس قربه ظل فاغرا فاه من شدة الانبهار بسحر التنظيم ، ثم سأله قائلا :
- كيف وجدت الافتتاح ؟
- ممتاز...رائع....لم أشهد مثله من قبل
- ما سر نجاح هذا الحفل في نظرك ؟
- النظام يا أخي ..النظام أساس كل نجاح..إن هؤلاء شعب يقدس العمل ويحب الوطن ، إنهم يعتبرون هذا الحدث الرياضي مشروع أمة بأكملها وتحديا في وجه العالم ، لهذا تضاعفت إرادتهم ، وقويت عزائمهم ،فأتحفونا بهذا الحفل الأسطوري الذي امتزج فيه العلم بالخيال وبالتاريخ وبالتراث ، حقا لقد اقتربوا من الكمال.
- صدقت يا أخي ..إنني أرثي فعلا لحال أمتنا ، خذ أبسط مثال..عندما يقرر بلد من بلداننا تنظيم مهرجان فني بسيط ، تقوم الدنيا ولا تقعد ، استنفار للقوات ، هرج ومرج وارتباك في التنظيم ، جرحى ومصابون ، احتقان في الطرقات ، خطف ونهب وسرقات ...حقا نحن شعب متخلف.
- واقع مؤلم فعلا ، الغريب في الأمر أن معظم مفكرينا عباقرة في تشخيص النكبات ، واختصاصيون في تحليل الأزمات ، لكن نادرا ما تجد منهم من يقترح الوصفات ليخرجنا من الظلمات.
- كيف السبيل إذن للنجاة من واقعنا المشين ؟
- العلم يا عزيزي ....إننا نفتقر في بلداننا إلى خطة حازمة تعلي راية العلم وتسعى إلى اكتساب المعارف والتقنيات. ربما نكون بارعين في مجالات أخر، لكن للأسف ما زلنا نضع العلم على الهامش ، يجب أن نخرج من عزلتنا العلمية ونتخلص من أوهامنا وأفكارنا المتزمتة المتحجرة.
- هذا الحديث كثيرا ما شنف به المسؤولون أسماعنا..لقد تعهدوا أمامنا وأقسموا بالأيمان المغلظة والمرققة أن يعملوا على جودة تعليمنا ، وأن ينموا اقتصادنا ليكون عصريا تنافسيا..هكذا يقولون.
- القول شيء والتطبيق شيء آخر...إن أردنا اللحاق بغيرنا ، فليس أمامنا سوى التسلح بالعلم والمعرفة ، تخيل معي لو تبادلنا الأدوار مع الصين ، أترانا نقدر على إطعام مليار ونصف من البشر ؟..كيف سنحافظ على أمنهم ..؟..كيف سنضمن تعليمهم ؟...كيف سنوفر الشغل لعاطليهم ونحن شعب رضع من العطالة حتى الثمالة ، وتربينا على الكسل والتواكل والخضوع. في المقابل تخيل أنهم مكاننا ينعمون بخيراتنا وثرواتنا ، ما بالهم يصنعون بها ؟
- لا شيء ....سيكونون مثلنا ماداموا بيننا ..ألم يعاشرونا أكثر من أربعين يوما ؟
- كفى مزاحا يا صاحبي، سر أينما شئت في أي بلد تريد انظر إليهم ..ستجد الآلاف منهم بنفس الروح والعزيمة والإصرار..حقا إنهم أكثر الشعوب تجسيدا لغريزة حب البقاء.
- انظر إلى هؤلاء المتفرجين...لا أحد منهم يحترم الآخر.صراخ وكلام ساقط ودخان يملأ الأعالي ...أبهذا السلوك سنضاهي الآخرين ؟
- الأزمة إذن أزمة سلوك وقيم ، لابد من مراجعة حساباتنا قبل فوات الأوان .
انتفض فرحان من مقامه ، دفع الحساب وغادر المكان ، لقد تعب من لعب ضمير المجتمع الغائب ، فآثر الانسحاب ، ما دام الطبيب المعالج قد نسي حقنة الحياة ، ليفسح المجال للطبيب الشرعي ليتعامل مع جثة أمتنا الهامدة منذ زمان .
أحمد السبكي المغرب .