المرة الوحيدة التي دخل فيها السايب سعدان إلى المدينة مضى على انقضائها خمسون عاما، كان يومها الناس أنواعا وأجناسا .تسمع منهم لغات ولهجات حسب الملامح والهيئات ، ورغم اختلافهم كانت تجمعهم محبة وود وتواصل ؛ يختلفون عن أهل هذا الزمان اختلافا تاما ، حتى بدا له أن لا جامع بينهم إلا هو فقط ،هو لأنه مازال يعيش ، لم يشأ القدر أن يموت رغم انه لم يعد يشبه أهل هذا الزمان ، ولو مات لانقطعت الحلقة الأخيرة التي تجمع بين عصرين : عصر مضى وعصر يأبى أن يأتي.
عاد جسد السايب سعدان المنهك أدراجه نحو حضن الجبل بعد أن اقترب من المدينة للمرة الثانية فتحقق لديه أنها وحش نهم أعمى يلتهم كل شيء ، ويدمر كل جميل ، ويلوث كل طاهر ،يحمل في جسده جميع الأمراض والأوبئة.
وحش غريب ، رأسه قوانينها وأعرافها ، و بطنه- كما وصفه العائدون الذين كتبت لهم السلامة- تتداخل أمعاؤه وتتلوى ، تضيق وتتسع ، تغسل ألاف المرات ولكن بقايا ضحاياه يعيد إليها عفنها ، وأذرعه ومخالبه وأنيابه أهلها ، زنابير متأهبة ، لصوص ومشردون وسماسرة ، لا يستحون ولا يرحمون ، يفعلون ما يشاؤون ، يغطون حقيقتهم البشعة بالمساحيق والأزياء الزاهية ، ويرشون أجسادهم بعطر الريف والبادية ، وتبقى حقيقتهم بادية ، فمنذ اقترابه من الضاحية لم يعد أحد يلقي عليه السلام أو يبادله التحية، أو يتبسم في وجهه ، بل الكل يجري ، يهرول ، يدفع أو يدفع ، يطأ أو يوطأ ، يصرخ أو يستصرخ ولم يفكر أحد منهم أن يطيب خاطره برد تحيته ، نظراتهم إليه فيها استغراب يلابسه استهجان جعله يستشعر الخطر .
والسايب سعدان كان دائما يمقت المدينة و يخشاها و يفقد توازنه بمجرد سماع اسمها ، و في نيته إن يعود بحماره إلى ريفه الهادئ اللطيف النظيف من أطرافها ، ودون أن يوغل في جوفها الرهيب.
ربط السايب سعدان حماره على عجل إلى معلاق حديدي ناتئ من جدار أحدى البنايات وراح يبحث عن مدخلها ليشتري بعض ما جاء من أجله وهو يمسك على جيبه بقوة متيقظا ، وقبل أن يهتدي إلى مبتغاه هدر المحرك في طرف البناية ، لكن سعدان لم يهتم كثيرا بذلك ، لكي لا يفقد تركيزه، فهو يتحفز حذرا من أن يهاجمه أحدهم فيسلبه دريهماته ، ونظرات أهل المدينة ، الملأى بالاحتقار تنبئ عن نواياهم السيئة المبيتة وبعد هنيهة أحس أن الأرض تهتز تحت رجليه وتموج .
- سبحان الله، ماذا حدث لي حتى أصابني هذا الدوار، هل أنا الذي يتحرك أم البناية ؟ !! حتما أنا...
ودفع يده نحو الأرض يهتدي بها إلى مكان الجلوس ويرتكز بالأخرى على عصاه كي لا يسقط.
و بعد أن استوى في جلوسه ، لمس الأرض ليتحقق من أنها ليست هي التي تجري ، ثم ركز ليتأكد مما يحدث حوله ، وتبين يقينا أنه سليم وأن البناية التي كان يطوف بها بحثا عن باب يدخلها منه هي التي تسير ، ونظر إليها تجر حماره وراءها بعنف، وقد انكشفت أسنانه الكبيرة البيضاء وتدلى لسانه ، فمد يده ليمسك به وهو يصرخ : يا ويلي ، يا صاحبي.. وبعد أمتار ازدادت سرعة البناية وبدا الحمار المفجوع المرعوب الذي كان يتكور على ظهره ثم على جنبه فبطنه يتفتت وجرت سوائله تاركة أثرا على بقايا حياة ، و وراءه جرى صاحبه يصرخ ، ولكن البناية كانت تزداد سرعة وهي تبتعد ، وتبتعد ، وعاين السايب سعدان - بحزن ما أحس مثله منذ ولد- ؛ حماره مبعثرا على قارعة الطريق . فخذا في رصيف ورأسا في الأخر والريح تلعب بحبل الرصن الملوح بالوداع ، كان كأهل المدينة قليل الوفاء ففضل أن يتبع حاويات الشاحنة الضخمة مقادا مسحوبا عوض أن ينفصل عنها ويبقى قائدا للحمار.
أطل السايب سعدان من "فج النبعين" على عالمه السحري البريء الذي غادره مع الفجر فتلقته نسمات منعشات متضمخات بشذى النباتات المختلفة، فتح رئتيه إلى أقصى حدود اتساعهما وجذبا نفسا عميقا كأنه يريد استيعاب عالمه السحري كله داخل صدره خوفا من أن تسطو عليه المدينة فتفسده ، وانتبه إلى أنه ضمآن ، وأن عطشه لم يعد يحتمل ، هم بأن ينحني على أولى النبعين ليشرب ولكنه أحجم نافرا لأن النبع وحوضه كانا مبنين بالحجارة والاسمنت ؛ واحتمل ألم العطش حتى وصل النبع الثاني كان ماؤه ينبجس من فلقة بين صخرتين تحنو عليهما أشجار الصنوبر و يعرش عليهما نسيج متشابك من التوت البري ، يعرض ثماره السوداء اللذيذة هدية للشاربين،فانكب على الكوثر يشرب ويغتسل.
ربط السايب سعدان حماره على عجل إلى معلاق حديدي ناتئ من جدار أحدى البنايات وراح يبحث عن مدخلها ليشتري بعض ما جاء من أجله وهو يمسك على جيبه بقوة متيقظا ، وقبل أن يهتدي إلى مبتغاه هدر المحرك في طرف البناية ، لكن سعدان لم يهتم كثيرا بذلك ، لكي لا يفقد تركيزه، فهو يتحفز حذرا من أن يهاجمه أحدهم فيسلبه دريهماته ، ونظرات أهل المدينة ، الملأى بالاحتقار تنبئ عن نواياهم السيئة المبيتة وبعد هنيهة أحس أن الأرض تهتز تحت رجليه وتموج .
- سبحان الله، ماذا حدث لي حتى أصابني هذا الدوار، هل أنا الذي يتحرك أم البناية ؟ !! حتما أنا...
ودفع يده نحو الأرض يهتدي بها إلى مكان الجلوس ويرتكز بالأخرى على عصاه كي لا يسقط.
و بعد أن استوى في جلوسه ، لمس الأرض ليتحقق من أنها ليست هي التي تجري ، ثم ركز ليتأكد مما يحدث حوله ، وتبين يقينا أنه سليم وأن البناية التي كان يطوف بها بحثا عن باب يدخلها منه هي التي تسير ، ونظر إليها تجر حماره وراءها بعنف، وقد انكشفت أسنانه الكبيرة البيضاء وتدلى لسانه ، فمد يده ليمسك به وهو يصرخ : يا ويلي ، يا صاحبي.. وبعد أمتار ازدادت سرعة البناية وبدا الحمار المفجوع المرعوب الذي كان يتكور على ظهره ثم على جنبه فبطنه يتفتت وجرت سوائله تاركة أثرا على بقايا حياة ، و وراءه جرى صاحبه يصرخ ، ولكن البناية كانت تزداد سرعة وهي تبتعد ، وتبتعد ، وعاين السايب سعدان - بحزن ما أحس مثله منذ ولد- ؛ حماره مبعثرا على قارعة الطريق . فخذا في رصيف ورأسا في الأخر والريح تلعب بحبل الرصن الملوح بالوداع ، كان كأهل المدينة قليل الوفاء ففضل أن يتبع حاويات الشاحنة الضخمة مقادا مسحوبا عوض أن ينفصل عنها ويبقى قائدا للحمار.
أطل السايب سعدان من "فج النبعين" على عالمه السحري البريء الذي غادره مع الفجر فتلقته نسمات منعشات متضمخات بشذى النباتات المختلفة، فتح رئتيه إلى أقصى حدود اتساعهما وجذبا نفسا عميقا كأنه يريد استيعاب عالمه السحري كله داخل صدره خوفا من أن تسطو عليه المدينة فتفسده ، وانتبه إلى أنه ضمآن ، وأن عطشه لم يعد يحتمل ، هم بأن ينحني على أولى النبعين ليشرب ولكنه أحجم نافرا لأن النبع وحوضه كانا مبنين بالحجارة والاسمنت ؛ واحتمل ألم العطش حتى وصل النبع الثاني كان ماؤه ينبجس من فلقة بين صخرتين تحنو عليهما أشجار الصنوبر و يعرش عليهما نسيج متشابك من التوت البري ، يعرض ثماره السوداء اللذيذة هدية للشاربين،فانكب على الكوثر يشرب ويغتسل.